لو أن بشار الأسد 2/2

د. محمود عباس
  ما بلغه بشار الأسد والقوى المسلحة التكفيرية، من الاقتتال، حفزت القوى الإقليمية للتفاوض فيما بينها على أشلاء الشعب السوري، وبغيابهما، وحين انتفاء الاتفاق، كل طرف يسحل وراءه مواليه مثلما يسحل محارب زميله المجروح في ساحة المعركة. وسوريا نضبت فيها كل الخيرات، خلت حتى من شعبها وخوت طاقاتها البشرية والفكرية، وتحولت إلى الساحة الأكثر ملائمة للصراعات. لا يمكن لهذه الدول أن تترك سوريا لتداوي جروحها بنفسها؛ لأن ذلك يتعارض مع مصالحها، ولا يقتصر الأمر على هذا فحسب، بل حولت تلك الدول سوريا إلى ساحة لتصفية حساباتها المذهبية والقومية.
تاريخ، السلطان العربي، البعيد زاخر بالكوارث والمعاناة، والمآسي، ويشارك بشار الأسد معاصريه من سلاطين العرب بكل مزاياه الاستبدادية والإجرامية مع ذلك يبقى بشار أسوأهم. بين هؤلاء وبين القيم الإنسانية حواجز القتل والإبادة والإعدامات، وبينهم وبين الحضارة ثقافة الإجرام، والتكفير والكراهية، رسخوا ثقافة العنف في أذهان شعوبهم، في هذا الوطن المسماة جدلا بالوطن العربي، وعلى مدى قرون، كما خيموا عليه بالبعدين: القومي والديني، وعلى عتباته، خلقوا ازدواجية فكرية في الذهن العربي؛ حيث يعيش التناقض ما بين القناعة والقول؛ يكره الحضارة ويحلم ويتكالب عليها؛ يبغض الأديان الأخرى وغير مقتنع بدينه.
 جميع البشرية حاضرة لتنقذ سوريا، باستثناء سلاطين العرب، وأنظمتهم، التي لم يكن عبثا رفع شعار إسقاطها، فهي نتيجة تشوهات فكرية وتاريخية خاطئة، نشر على مدى قرون، وحضور هذه السلطات على طاولات البحث في شؤونهم، كما هو الحال السوري من عدمه سيان عند القوى الكبرى.
لقد حول بشار المطالبة بالحرية والانعتاق إلى صراع مذهبي بين قوتين إقليميتين أساسها الاختلاف المذهبي، وهذين المذهبين مصدرهما الإسلام السياسي العربي، ولكن العرب تاهوا في متاهات القومية المصيعة بالإسلام. والمسيرة تثبت أن العروبة والعرب لا جغرافية حقيقية لهم، سوى شبه جزيرتهم، فما عداها من الجغرافيات تعرض ذاتها جدلا على العروبة، وهي تغطية لماض سطرت حروفه بنفاق. فلو (ونعيد الكلمة المحيرة لو) بقي العرب ممثلين عن وطنهم الحقيقي لظلت سيماههم نقية، ولحافظوا على القليل من الخصال الحميدة الواردة في أشعارهم.
  ألغت الأنظمة العربية وعلى مدى قرون، البعد الديني الرسولي وأعادت نهج الجاهلية مكانه بلباس جديد، وصعدت درجات سلمها في بدايات القرن الماضي، ولم تكتف بجغرافيتها العربية، بل تعدت على جغرافيات الشعوب المنضوية تحت لواء الأمة الإسلامية، مشرعة ذلك بالمفاهيم القومية التي جاءتها من العالم الأوروبي، واستنسختها صورة طبق الأصل في التطبيق على العالمين العربي والإسلامي. والعالم الإسلامي الناطق بالعربية ما هو سوى شعوب غير عربية استعربت اندماجا مع الدين، وما بقيت على ديانتها القديمة فقدت لغتها القومية، لتصبح عربا لغة، وليس ديانة. وما يلاحظ أن فاقدي لغتهم تحولوا إلى العروبة أكثر من المستعربين المسلمين والعرب العاربة، وهذا بحد ذاته يدعو إلى الدهشة، فبدلا من أن تسعى تلك الشعوب إلى استعادة ما سلب منهم، صاروا عربا ليمحوا ما تبقى من آثارهم قبل مجيء الغزو العربي. وهذا مؤشر أن يفقدوا لاحقا دينهم، طالما تجاوزوا العاربة في التمسك بالعروبة قومية. 
 عملت الأنظمة العروبية على تحويل الرباط الوطني الديني إلى هيمنة قومية، وصعدت جدلية خرافية باسم الوطن العربي والجامعة العربية والتي لا تتجاوز صلاحياتها حدود جدرانها، وكانت النتيجة الصراعات اللامنتهية، والمجازر المتتالية، وتخلف المنطقة حضاريا وبأبعادها اللاإنسانية. وما يحصل في سوريا اليوم هي نتيجة تلك الثقافة الموبوءة التي غذت جينات بشار الأسد لينهج المنحى الإجرامي في التعامل مع الشعوب السورية. 
  لا شك دراسة الماضي والحكم عليه من حاضرنا، مؤلم وفيه بعض الغبن، وتكاد تخلو من الحكمة، مع ذلك إذا تمعنّا قليلا بما جرى من الأهوال في سوريا، قد يمدنا ببعض الوعي لتخطيط المستقبل وبشكل معاكس لما حصل، فلا يزال في جسم سوريا بعض الروح، وقد يتمكن الشعب من إنقاذ ما بقي منه، ومحاولة الخلاص من القوى العابثة بسوريا.
 
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
29/8/2016م
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…