د. محمود عباس
انتشرت الثقافة الفوقية في الإسلام، إي ثقافة الأوامر والطاعة، بعد هجرة الرسول من مكة، البعض يعيد أنتشارها إلى بداية الخلافة، منذ سقيفة بني ساعدة، أي بعد وفات الرسول، وطبقت ما بين كلمتي الرحمة والتكفير، ومن حينها لم يسمح للموالي بالتفكير في الحوار مع المسلم العربي على مواضيع الحقوق، ولم يتجرأ على الرفض، لأن الحكم كان إلهياً، والقائمون عليه هم خلفاء الله على الأرض، والشريعة هي القرآن، وهم يوافقون على تأويلاتها وتفسيراتها، وبالمقابل لم يفكر الموالي وبينهم الكرد، حتى ضمن أوطانهم وجغرافياتهم، بطلب المساواة، كما هو وارد في سور من القرآن، لأن العربي عرض ذاته بأنه صاحب الوحي، والقرآن بلغته، وهو يتحدث باللغة المنزلة، فأعدم على أسسها منطق الحوار، بين المسلم العربي والمسلمين الأخرين، بل الحوار في عمقه الإسلامي كان قد أعدم، لأن القرآن يفرض الطاعة لأولي الأمر، وتخللت كل اعتراض عليه فتاوي التكفير، وأحكام القتل، أو أبسطه الجلد، كان هذا هو المنطق السائد من السلطات الاستعمارية الإسلامية العربية الغازية، والقوة الطاغية.
تلائم المسلم العربي مع أحكام الإسلام عن الأخر، ولم يراه سوى المخالف له الغارق في السلبية، والخارج عن الإرادة الإلهية، مادام الدين عند الله هو الإسلام، والأديان الأخرى ملغية بإرادة الله أو بفعل الشر الإنساني، وهو في عمقه نهج جاهلي ظل مسيطراً في الحيز الإسلامي، فنهج العربي المسلم المنحى ذاته، وضخمها عندما اصطدم مع الشعوب الحضارية والتي كانت في مراحل أرقى من مراحل التراكم المعرفي أو العملي، فحكم على كل من لا يتكلم العربية، ولا يؤمن بالإسلام شر يجب محاربته، وبالتالي لم يتوانى على فرض فكرة الموالي والإمة، وبها سهل لذاته عمليات السبي ونهب الشعوب. هذه النمط الفكري ظل مهيمنا مع تغيير للإطار العام، والمنتقل من ثقافة القبائل العربية الجاهلية والتي عتمت عليها مفاهيم الإسلام، ليغيب على مدى قرون ويظهر ثانية بالنهج القومي العروبي من جهة والتكفيري الإسلامي العروبي من جهة أخرى، المتكالب على أحلام الماضي، حيث السيادة والموالي، وحيث لا حوار، والبديل هي الطاعة للعروبي، الذين يحاولون سلب مفهوم الجميع في كلية الأمة الإسلامية، والدين الأوحد، وتقميصه بفرض الوجود العربي الأوحد، وإلغاء الأخرين، مثلما ألغى الإسلام السياسي غيره.
وباعتبار المجتمع الذي انتشر الإسلام في حيزه العام كان يحمل في عمقه ثقافة العلاقات القبلية الجاهلية والتي لم تكن تتلاءم والحضارة، ولم يكن الحوار المنطق السائد لحل الخلافات أو عقد روابط إنسانية بينهم، أو بينهم وبين المجتمعات المتجاورة، لذلك كان التداخل الثقافي بين تلك القبائل الغازية وبين الشعوب الحضارية التي تم غزوها، في أدنى سوياتها، فاصطدمت بالصراعات الثقافية والسياسية والاجتماعية، وهي ذاتها التي تعود إلى الظهور في موجهة صعود النهج العروبي، والتكفيريين من العرب السنة.
دامت الهيمنة الاستعمارية، العربية الإسلامية، قرون متتالية، مثلها مثل جميع الإمبراطوريات العسكرية على مر التاريخ، فرسخت في المراحل الأولى مع صعودها، مفهوم السيادة والموالي، بديلا عن السيد والعبد، لتتلاءم والنهج الإسلامي، مع ذلك لم يظهر أي نوع من الحوار الثقافي أو السياسي بين الشعب العربي والشعوب المستعمرة، ومن بينهم الكردي، ولا بين حكامهم. وفي الحقيقة لم تكن هناك قضايا يمكن الحوار عليه، فالكل مطاع، والحكم إسلامي، والسلطات مفروضة بالمنطق الجبري. خاصة وأنه بعد هيمنة القبائل العربية لم يبقى ذكر لحكام غيرهم في جميع الجغرافيات التي تم غزوها واستعمارها. فخيمت قرون معتمة غارقة في الظلام على علاقات الشعوب، رغم التنفس البطيء تحت عباءة الإخوة الإسلامية، لكنها لم تمنع من ظهور مواجهات رافضة للحكام، وكل انتفاضة كردية حتى ولو كانت موجهة إلى السلطات المحلية الطاغية، أعدمت بالفتاوي والتكفير، وكانت تصفى بالمجازر، ونادرا جدا ما تخلله حوار لإيجاد حلول للقضايا التي ثارت عليها الشعب، إلا في حالات توازن القوى، ولم تعرض على مدى التاريخ الإسلامي العربي محاولة لحوار بين الكرد والعرب كشعبين، والتي جرت كانت بين سلطات استندت على شعوب ضد سلطات أخرى.
لا شك، في القرون المتأخرة، وبعد زوال نهج الحاكم من العرب، مثلما زالت بعد نهاية الخلافة العباسية جدلية الحاكم من قريش، وعند انحدار الإمبراطورية الإسلامية، وظهور دويلات المماليك ومن ثم الصفويين وبالتالي الإمبراطورية العثمانية، والقضاء التام على الهيمنة العربية، انطلقت من بين الكرد ومن جغرافيتهم العديد من الثورات، وحينها فقط جرت حوارات بينهم وبين المراكز الإسلامية الأخرى، ومن بينهم سلطات عربية، لكنها لم تحمل الصفة القومية، ولم تتجاوز سويات الصراع على السلطة. إلى أن انتقلت البنية الفكرية من الإيمان بالإسلام إلى التبعية القومية، وبروز الفروقات القومية، والمذهبية أحيانا، والاختلافات الجغرافية والديمغرافية فاقمت من الصراع ومعها عدمية جدوى الحوار، وانتقلت الحجة من الأمة الإسلامية إلى العنصرية القومية، مع بدايات القرن الماضي عند صعود المنهجية العروبية.
وما جرى فيما بعد، لم يخرج من إطار الآمر والناهي، كانت بين السلطات العروبية وبين الحركات أو قادة الثورات الكردية، وكانت نتيجة ضغوطات، وليست نابعة من ثقافة التعامل بالمثل، أو القناعة والاعتراف بالآخر، وحوارات السلطات البعثية وما تلاهم والكرد، وعلى مر القرن الماضي خير مثال، والتي لم تستطع رغم الموجات الحضارية، تجاوز منطق الأنا، ومفاهيم السيادة والموالي، التي لا تزال تنهش ذهنية معظم السياسيين والمثقفين العروبيين، وشريحة واسعة من مجتمعهم…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
10/8/2016م