افتتاحية موقع مواطنة
بعد ذروةٍ وصلتها داعش ، منذ أكثر من سنة ، هاهي تنكفئ تدريجياً،ليس بالسرعة المشتهاة، لكنها تتراجع عسكرياً عن مساحات كبيرة من الأراضي التي سيطرت عليها ،وتلوح في الأفق هزيمتها في مدن هامة كالموصل،التي تجري الآن معركة تحريرها، والرقة وحواضر أقل أهمية . ومثل أي دولة أو تنظيم فإن حالة الخسارة تعكس نفسها داخلياً بانشقاقات ، وحالات فرار، خاصة للذين جاؤوا من دول أوربية ، وباتهامات بالخيانة وإعدامات …الخ .لكن لسان حال قيادات الدواعش ،على الأقل “الانصار” أي العراقيين والسوريين يقول سنجد ملاذاً آمناً بانتظار توفر ظروف أفضل لمعاودة “الجهاد” .
ولا يحتاج الإنسان إلى كثير ذكاء ليدرك ان هذه الثقة بإمكانية المتابعة قائمة على فهم حقيقي لطبيعة الأوضاع في العراق وسوريا خاصة وفي المنطقة عموماً ، فالنظام العراقي حول الشرعية الديموقراطية التي يحكم باسمها إلى شرعية “طائفية” ابتعدت شيئاً فشيئاً عن مشروع دولة المواطنة والمشاركة بين العرب والكرد، وبين الشيعة والسنة وبقية المكونات العراقية، ولأن هذا المشروع يصطدم ببقية المكونات العراقية كان لابد لهذا النظام من الاستحضار الكثيف للوجود الإيراني الداعم، وبالنتيجة أصبحت البنية الاجتماعية مهيأة للتمرد ،وهنا كانت براعة الداعشية في توظيف النقمة “السنية” في مواجهة الطغيان “الشيعي” . والنظام السوري وصل إلى نتائج متشابهه من مقدمات مختلفة ،فبعد التمرد السلمي على سلطته غير الديموقراطية أصلأ ،والمفتقرة لأية شرعية عدا شرعية الأمر الواقع ، وبدءا من تلميح “بثينة شعبان” السيئ الذكر في الأشهر الاولى من المظاهرات السلمية ، طور النظام الأسدي خطاباّ مزدوجا ظاهره مواجهة المندسين الذين أصبحوا متطرفين وطائفيين وهو يواجههم ك “دولة علمانية” ،أما باطن الخطاب وما يترتب عليه من ممارسة فعلية فهو استحضار الصراع الشيعي- السني بكل أدواته ورموزه مع وضع اشارة مساواة أو مقاربة قسرية بين الشيعي والعلوي هي في أحسن الاحوال غير واقعية رغم وجود محاولات فاشلة سابقاً لتبنيها . وهنا أيضاً كانت “القاعدة” المتحولة الى داعش فيما بعد ،أو التي بقيت باسم النصرة ثم غيرت اسمها أيضاً إلى “فتح الشام”،إضافة إلى منظمات أخرى نشأت فيما بعد ، كانت جاهزة للاستفادة من هذه الأرض المحروثة التي بدأ بتحضيرها النظام الأسدي عبر أساليب قمعه الشمولية والتي ساعد في تهيئتها التدخل الإقليمي وفق أجنداته التي لا تبتعد ،على الأقل فكرياً، عن هذا النمط من التفكير والعمل ، وبالطبع ساهم الإحباط والخذلان اللذي تعرض لهما السوريون المسالمون ،الباحثون عن الحرية والكرامة ، ساهم في إغلاق الحلقة وتحول الصراع إلى صراع طائفي.
وإذا كنا هنا سنحصر حديثنا عن سورية فقد أصبحت كلمة السر للفعل السياسي والعسكري في بلدنا ، هي مواجهة داعش ، أو مواجهة التطرف عموماُ فتدخل حزب الله وجميع الميليشيات الايرانية والعراقية والأفغانية كان تحت شعار مواجهة التطرف “السني التكفيري” وتدخل إيران هو كذلك والتدخل الروسي والتدخل الأمريكي، وحتى التدخل التركي لم يتجرأ على دعم مباشر لدخول قوات من الجيش الحر السوري في الأراضي السورية إلا تحت شعار تنظيف المنطقة الحدودية من داعش ،وهاهو يدعو أخيراً إلى خروج النصرة من حلب وانفصال بقية المعارضة المسلحة عنهم في استجابة متأخرة للتوجهات العالمية ولآفاق الحل السياسي الذي لا يزال غامضاً.
ولا يمكن لذي عقل أن يرفض هذا التوجه الإقليمي والعالمي لإنهاء المنظمات المتطرفة لكن بالمقابل فإن كل من يتصور أن مواجهة التطرف في المنطقة أو في سورية هو عملية عسكرية “تقنية” فهو واهم ، فمواجهة التطرف هي بالدرجة الأولى عملية سياسية، و النجاحات المتحققة حتى الآن لن تكون نهائية ،وغير قابلة للإنتكاس ، إلا عندما تترافق مع العمل على تغيير البنى السياسية التي أفرزت ظاهرة التطرف وساعدت على تكونها وتطورها ، إن عدم وجود مثل هذه الرؤية وامتلاك وسائل تحققها هو الذي يفشل حتى الأن” تقنيات” إنهاء الحرب الذي يشكل المصلحة المشتركة بين الجميع. ولأن العملية سياسية فهي ترتبط بمصالح أطراف إقليمية ودولية بعضها يهمه هزيمة داعش عسكرياً لإعادة تأهيل النظام الأسدي كالروس والإيرانيين وبعضها يهمه هزيمة داعش لمنع تمددها وانتشارها عالمياً أو إقليمياً ، أو للتخفيف من مشاكل الهجرة واللاجئين كالأوربيين والأمريكيين، وفي الحالتين يغيب المشروع السياسي المهتم بمصلحة الشعب السوري في معالجه جذرية عميقة للمشكلة لا تكون إلا ببناء نظام سياسي ديموقراطي تعددي غير طائفي ،يحل مشاكل الأقليات القومية ،و يكون أساس الانتماء إليه هو المواطنة ،ويكون الوصول إليه عن طريقة حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات يكفل عملها إشراف دولي فعلي ومن خلال برامج تنفذها الهيئات الدولية المختصة .
تيار مواطنة 17/10/2016