د. محمود عباس
لم نعد نخجل من الحقائق المقرفة، والصفحات السوداء التي خط بها الأعداء تاريخنا، لقد ماتت ضمائرنا، فأصبحت مقولة الكرد شعب بلا وطن، جملة عابرة، وجغرافية لا نملك منها إلا سطحها المعاش، معادلة مقبولة، تلائمنا مع تراكم الأهوال والمصاعب، وما خلفته القوى الخارجية من تدمير التاريخ إلى اللغة والتشتت الديمغرافي، ومن ماض مؤسف؛ وحاضر مأساوي؛ إلى مستقبل غامض لا يؤمل منه خيراً، واقع مفروغ منه. مخلفات الواقع الاستعماري، والثقافة الغريبة المفروضة، والمؤامرات المحاكة ضدنا، لا توقظنا، ولا تدفع بنا لنخطط ونتعامل على سويتها، نستمر الغوص في المستنقع ذاته، ولا نحاول رؤية المحاط، أو معرفة العدو الحقيقي، ولا نجد سوى الكردي الأخر، السهل المنال، لنخلق منه العدو الافتراضي، ونوجه إليه سهامنا.
حججنا مقنعة لذاتنا ولمن يتلاءم ومفاهيمنا، وننخر في سلبيات الكردي الآخر، ونعتم على إيجابياته، وبالمقابل يتلقى الآخر الشرعية ذاتها، والدعم من شريحة متلائمة وتوجهاته، متناسين أننا جميعا لا نخلوا من الأمراض والنواقص، ولولاها لكنا أصحاب وطن، أو كنا شعب ككل الشعوب. لم نكتفي بأننا ساهمنا في بناء أوطان الآخرين أو تطوير ثقافاتهم، وإغناء العلوم بأسماء الشعوب الأخرى، وبلغات غير لغتنا، نقوم بتشتيت أحلامنا وطاقاتنا، وتدمير بعضنا، وإعدام غايتنا، والأغرب نلعن اللاحزبي أو اللامنتمي إلى هذا الصراع المقيت.
لا شك، لكل طرف أمثلته في الإقناع بوجهة نظره، حول عدمية الكردي الآخر، سياسة أو استراتيجية أو رباط إيديولوجي، أو نضال سياسي، أو حراك ثقافي، ولكل طرف معادلة، مشكوكة في مصادرها، منها الأقبية الأمنية، أفضلها التخوين أو العمالة، وإغراق الكردي الأخر بالذنوب دون الأعداء، لفتح دروب محاربته بكل الطرق، تحت حجة تنقية الداخل.
نتناسى أن الصراع الكردي-الكردي أصبح أعمق وأوسع مما هي مع السلطات المستعمرة لكردستان، وضمن جدلية المقارنة، حجم الخسارة، وهدر طاقات الكردي مع الأعداء لا تقاس مما تخلفه خلافاتنا، وتخويننا للبعض. الأغلبية منا يدرك أننا أهملنا كردستان المستعمرة، على خلفية الإلتهاء بالاقتتال الداخلي، ولا يهم أن كانت تسيل فيها دماء أو تهدر كرامة، أو يتم فيها تشويه للمفاهيم، أو تقزيم الكردي الآخر.
في هذه المرحلة الحرجة، نتناسى القضايا المصيرية، كمواجهة الأعداء الحقيقيين، ونهمل تطوير اللغة الكردية، والعمل على تقارب اللهجات، وتوحيد الحروف؛ والقواعد؛ والتصريف، وتنقية التاريخ من الصفحات السوداء المفبركة في الأقبية الأمنية الاستعمارية، نتناسى أن ما خلقته القوى الإقليمية ضد الكرد تحتاج إلى جهود مضنية من جميع أطراف الحركة الكردستانية، وللأسف لا يمر يوم بدون أن ننهش البعض، ونبدع في طرق التخوين، واختراع المؤامرات على البعض، وندفع بالأحزاب المعلولة لتكون أدوات سهلة الاستخدام بيد القوى الإقليمية.
لم يعد خافيا على أحد أن كردستان بأجزائها المتناثرة، جغرافية أو حركات سياسية أو ثقافية، على خطى الخلافات بل الصراعات الجارية، تتوسع هوة التنافر، وتضعف رغبات التقارب أو التوافق، وتتصاعد احتماليات ظهور عدة أوطان كردستانية، ونزعة البقاء والذوبان في الأوطان الافتراضية، فلا تقل العداوة بين الكتل السياسية في الأجزاء الأربعة من العداوة الموجودة بين الدول العربية. والجاري بين أطراف الحركة الكردية والكردستانية بينة لنا جميعاً، إلى درجة أن السلطات الإقليمية لم تعد تحتاج إلى كثير جهد لتجر الحركات السياسية الكردستانية لتسيير أجنداتها، سنورد بعضها للتذكير، لنرى كيف أن الجاري تطمر كل الآمال وتعدم الأحلام:
1- غربي كردستان، أم جنوب غربي كردستان، أم روج آفا كردستان، أم كردستان الغربية، أم كردستان سوريا، أسماء لجغرافية تعكس أوجه الصراع، فبعد أن كان النضال فيها ضد سلطتي البعث والأسدين، وتوسعت لمواجهة النظام بكليته، قبل أن تتمكن المربعات الأمنية من تغيير مسارات الأطراف السياسية والثقافية فيها إلى الصراع الكردي-الكردي. فالأحزاب السياسية كانت في السابق على خلاف فكري، أو في أساليب النضال، والأن نقلت وبقدرة قادر إلى الإيديولوجيات الوهمية أو الاستراتيجيات الإقليمية، ودفع بهم لرفع شعارات التخوين، وأوصلوا ببعضهم إلى حد استخدام القوة العسكرية لإرضاخ الأخر. فماذا نود من بعضنا، من الأصح ومن المخطئ؟ وهل يكفي موت طرف لينتصر الآخر؟! جهة ترى النضال السياسي أفضل الحلول، وأخرى العسكري، بعضهم تحت رحمة سلطة بشار الأسد بطريقة أو أخرى، وتتمسك باستراتيجية الهلال الشيعي، والآخرين جرهتهم القوى السنية، أو ما المعارضة العروبية التكفيرية الافتراضية ورائها، وتستخدمهم عند الضرورة، والأنكى أن الحركة الثقافية تزيد من لهيب الصراع، وكأنها تخدم القوى الإقليمية بطريقة أو أخرى في تصعيد المفتعل بينهما، ولا تكتفي بهذا! فتتهم الشريحة المطالبة بإيقاف التلاسن، والتخوين، وإبطال التهجم بالسلبية أحيانا وبالشيطنة أحيانا أخرى، تحت صيغة المثل المعروف (الساكت عن الحق شيطان اخرس). وتتهمها بالتقاعس عن النضال أمام الحروب الكلامية بين أدوات القوى الإقليمية. وهم بطريقة أو أخرى يخدمون القوى التي أجبرت الأحزاب الكردية والكردستانية على تنفيذ أجنداتها.
2- لنحلل الجاري، وكما يجري بين الأطراف الكردية المتصارعة، ونفترض أن ال ب ي د تعاملت مع المعارضة العروبية الافتراضية، مع المجلس الوطني الكردي، ما هي احتمالات عدم سقوط البراميل على المدن الكردية؟ أو لنفترض أن المجلس الوطني الكردي تعاملت مع السلطة ما هي احتمالات تقبل سلطة بشار لهم؟ وما هي أبعاد التحشيد التركي مع القوى الإقليمية الأخرى لمحاربتهم؟ ماذا لو اتفقت الأطراف الكردية وشكلت قوة ثالثة، عسكرية وسياسية، ما هي احتمالات الحصول على الأسلحة لمواجهة المعارضة والسلطة والمنظمات التكفيرية الموجهة من قبل القوى الإقليمية؟ ماذا ستنتج عن مفاهيم أو إيديولوجية الأمة الأيكولوجية؟! والأمة الديمقراطية؟ والفيدرالية الخليطة؟ وهل حقا الاغتيالات والاعتقالات تقوم بها القوة العسكرية الكردية بإرادتها؟ أم مفروضة عليها والأوامر تأتيها من المربعات الأمنية وهي تنفذها، ولا قدرة لها على إظهار الحقيقة؟ أم هي فعلا سلطة وليست سلطة الأمر الواقع؟ ماذا لو واجهت الشعب بالحقيقة، ماذا ستكون النتائج؟! وماذا عن الوحدة التي جمعت أربعة أحزاب وعودة قيادتها بين ليلة وضحاها إلى أحضان قامشلو والمربعات الأمنية كما يقال هي السلطة الفعلية؟ وهذه الأحزاب هي عمود المجلس الوطني الكردي! وماذا عن المنظمات التكفيرية والمسماة جدلاً بالمعارضة، وتمثل ذاتها سلطة المستقبل في سوريا وتعرض على الكرد حقوق المواطنة، دون الشعب، وتقدمها كمنية؟ وماذا عن الانتقال من هيمنة المربعات الأمنية البعثية إلى التركية؟ وغيرها من الاحتمالات والخيارات المتوفرة لدى الأطراف الكردية؟ وماذا عن الانجرار وراء أجندات الأمريكيين في محاربة داعش خارج جغرافية كردستان، أو تقبل شروط الحلف الروسي، في فترة سماحها لتركيا بالدخول؟
3- لا شك لدى الإخوة طروحات واحتمالات أكثر، وتوقعات عديدة، فهل على اعتبارها نهاجم البعض ونخون؟ أم أن هناك في الخفاء وما وراء الستارة مربعات أمنية مخصصة لخلط جميع هذه الأوراق ببعضها، وإدراج الأطراف الكردية في دوامة الصراعات الداخلية؟ أم أننا حقا ندرك الواقع وخلفيات البعض، وعليه نعلم أن أحدهم تشكلت على يد الميت التركي لتدمير القضية، والأخر على يد عبد الناصر لخدمة أجنداته، والثالث تشكل بيد المربعات الأمنية البعثية لتحريف القضية وتشويه سمعة الحركة بين الشعب؟ وغيرها وأنكم على مقدرة بعرض المزيد.
4- رغم كل هذه المآسي، لا نكل عن خدمة الأخرين بتعرية البعض، وتشويه سمعتنا في المحافل الدولية، ونهرول نحو كل نداء فرادا قبل أن يصله الكردي الآخر، ولا نفكر أن نتكاتف ونتحاور ونتعامل مع الأخرين، ونتجاوز في لحظات ما خلافاتنا إلى حين. ولا نعي أن للكرد قوة هائلة لا تزال خام تحتاج إلى أن نزيل عنها الغطاء ونشذبها معا، ونشترك في إنهاضها، فالتلاسن تقتل تلك القوة، والتخوين تعدمها، وماذا لو نترك الكردي الآخر يعمل ما يريد، ونخلق أجواء من حرية الرأي والرأي الأخر، فقط بعدم التهجم على البعض، وإيقاف التلاسن والتخوين، وننتبه إلى أن العدو هو الذي لا يزال يستعمر كردستان ولا يعترف بالكردي، ويرفض أن يصفه كشعب أو له جغرافية يحق له على أسسها الحق في تقرير مصيره.
5- أجزاء كردستان ليست بأفضل من المذكور، بل ولها تأثيرات أعمق وأوسع، سنقف هنا ليدلي القارئ بدلوه، ويعرض المنسي.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
13/10/2016م