جان كورد
كتب العالم الشهير فوكو ياما في الفايننشال تايمز عن انتصار دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، قائلاَ بانه يدشن لمرحلة جديدة من التوجه العالمي هي مرحلة “القومية الشعبوية”، وشبّه الوضع الأمريكي لما بعد الانتخابات بوضع تركيا في ظل رئاسة رجب طيب أردوغان، ووضع هنغاريا في ظل رئيسها أوربان، ووضع الروس في ظل بوتين، حيث لا يمتلك هؤلاء الرؤساء المنتخبون ديموقراطياً أي تأييد لهم بين المثقفين في المدن الكبيرة وفي عواصمهم، إلا أنهم يحظون بتأييد واسع في الأرياف وبين عامة الشعب، ففازوا ديموقراطياً، رغم أنهم غير مرغوب فيهم بين النخب السياسية – الثقافية لبلدانهم. وبحسب فوكوياما، فإن الديموقراطية رغم عراقتها في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من البلدان قد انتجت ما قد يضر بها ضررا فادحا، وقد يزداد الوضع الدولي أكثر تعقيداً بنجاح مثل هؤلاء الزعماء.
نفهم من هذا شيئاً آخر أيضاً، ألا وهو عدم موت “القومية” ولو أنها قد تأخذ أشكالاً أخرى من الانتعاش أو تقاوم بطرق مختلفة للبقاء. وما يؤيد قولنا هذا، هو أن الشعبين الاسكوتلندي والإيرلندي يسعيان للانفصال عن إحدى أعرق الديموقراطيات في العالم، ألا وهي بريطانيا، وشعب كيوبيك يعمل للانفصال عن كندا التي ليست دكتاتورية كما نعلم، وشعب الباسك عن اسبانيا، وهناك حركة مكسيكية قوية تسعى لانفصال ولاية كاليفورنيا عن الولايات المتحدة الأمريكية، أو للحصول على استقلالها مستقبلاً… وها كله في العالم الحر الديموقراطي، ناهيك عن شعوب العالم الأخرى… فكيف يزعم البعض من الكورد أن مرحلة الدولة القومية قد ولى، أو أنها رجعية؟
طبعاً، وبالتأكيد، الدولة القومية القائمة على أساس عنصري مرفوضة تماماً، ليس من قبل القوميين الكورد فحسب، وإنما من كل الشعوب المؤمنة بالتعايش والتآخي والحياة المشتركة، إلا أن الدولة التي تدافع عن قوم ما، في إطار القانون الدولي وضمن إطار “حقوق الإنسان للجميع” هي التي نعني بها هنا، أما العمل ضد إرادة شعبٍ من الشعوب بذريعة أن “الدولة القومية” قد ولت ولا حاجة للنضال في سبيلها، فهذا ضعيف ولا يوافق الواقع الذي عليه عالمنا الواسع.
لقد خدم الكورد الزردشتية والإسلام والشيوعية والديموقراطية في تاريخهم العريق، بل ضحوا بقوميتهم في سبيل الحياة المشتركة بين الأمم والأقوام المجاورة لهم، إلا أنهم لقوا العنت والانكار والاقصاء على الدوام، بل تم استعمارهم واستعبادهم في أرضهم، وجرت محاولات دامت قروناً لصهرهم عربياً وفارسياً وتركياً، والتاريخ أمامنا يتفق في سرده مؤرخو الشرق والغرب، الذين يؤيدون ما نقوله هنا جملةً وتفصيلاً. وهاهم “تجار المعارضة السورية” لا يوجهون فوهات مدافعهم سوى إلى الكورد الذي يطالبون بحقهم في إدارة أنفسهم ديموقراطياً وفيدرالياً، فيتهمونهم بالتقسيم تضليلاً لأن الفيدرالية هي لحفظ الوحدة الوطنية وليس لتقسيم البلاد، ويستعينون في رفضهم للحق الكوردي العادل بتركيا وحتى بالإرهابيين لمنع شعبنا من تحقيق طموحه القومي العادل… والا نكى من ذلك هو أن يبرز من بين الكورد من يزعم أن هدف الشعب الكوردي يجب أن يكون “الديموقراطية” وليس “الحق القومي” المنصف، فيعتبرونه تخلفاً ورجعيةً وتقسيماً وخيانةً للعرب والفرس والترك، ومن قبل كانوا يدعون إلى “الأممية” التي فشلت ويطبلون لها ويزمرون، وها هي أوصال الأممية في الرمال، وهم لا يزالون أحياءً…
إن مسار الحركة الكوردية في كل إقليم من أقاليم كوردستان المحتلة المجزأة من قبل الاستعمار كان على الدوام بهدفين (الديموقراطية للبلاد والحكم الذاتي لكوردستان)، وبعد أكثر من نصف قرنً من التطور السياسي على مستوى العالم، بدأ الكورد وأحزابهم يطالبون ب”الفيدرالية” عوضاً عن “الحكم الذاتي”، وقد تحقق لهم ذلك في العراق ونص دستور العراق الجديد على ذلك، ونالت الفيدرالية اعتراف معظم دول العالم التي صارت تفتح في الإقليم الكوردي قنصلياتها وتتعامل معه اقتصادياً، إلا أن هؤلاء الكورد من دعاة الديموقراطية التي لا يعنون بها شيئاً آخر سوى الأممية هم وحدهم لا يعترفون بهذه الفيدرالية ويحملون معاول الهدم والتخريب للقضاء عليها.
وبحكم الظروف الذاتية والموضوعية لأمتنا الممزقة وبسبب طول معاناتنا تاريخياً، لا يمكن لنا أن نقبل بدكتاتورية أو نظامٍ عنصري أو بنظرةٍ ضيقة إلى العالم من حولنا، بل نحن لن نحيا إلا إذا رفرفت رايات السلام والتآخي والحياة في وئام وتضامن وعلاقات جوار قائمة على الاحترام المتبادل مع الشعوب المجاورة… ولأن الكفاح الكوردي لن ينتصر ولن يحقق أهدافه من دون “ديموقراطية” بين الكورد أنفسهم، ومن دون دمقرطة حراكهم السياسي – الثقافي…
لذا، فإن الدعوة إلى الديموقراطية بدون العمل من أجل الحق القومي الكوردي، كمن يبني بيوت الجيران ويرفض بناء بيته لنفسه، والزعم بأن بيتاً يسع للجميع من دون أن يتخلى أحد من الجيران عن بناء بيته الخاص أفضل لشعبنا ليس إلا ضرباً من الخبل وانكار الذات… أفلم نتعلم من تجارب أجدادنا وآبائنا الذين ساهموا في بناء أوطان وجيوش وحكومات الجميع وجعلونا بذلك نبقى عراة ومنهكين في العراء، أو كما قال العقيد الراحل معمر القذافي (الكورد سيخرجون من المولد بلا حمص)؟
نحن لا نفصل بين النضالين (القومي والديموقراطي)، فهما متلازمان في الحركة السياسية الكوردية، والفيدرالية القومية لشعبنا هدف سامي لا تنازل ولا تراجع عنه في هذه المرحلة التاريخية من كفاح أمتنا، وهذا تتفق عليه غالبية برامج ومناهج تنظيماتنا القومية، أما التنكر للقومية الكوردية بذريعة العمل من أجل الديموقراطية فنرى أن من نتائجه الجلية اعتقال السيد صلاح الدين دميرتاش ورفاقه، نواب البرلمان التركي، الذين حاولوا المستحيل لإظهار أنفسهم “ديموقراطيين” أوفياء للدولة الطورانية ولإرث اتاتورك، فلم يصدقهم أحد… فهل أنتم مصرون على سياستكم اللاقومية بعد هذا، أم ستختارون الانضمام للحركة القومية الكوردية التي تؤمن بوحدة النضال “الديموقراطي – القومي” إيماناً لا يتزعزع؟
وأخيراً نقول لزعامات وقيادات جيراننا من ترك وفرس وعرب:
“طبقوا الديموقراطية الحقيقية لنصدقكم…. واعترفوا بحقنا القومي حتى نأمن جانبكم، واسمحوا لنا بتطبيق الديموقراطية بيننا أولاً، أي لا تتدخلوا في شأننا الداخلي فسترون هل نحن قادرون على ذلك أم لا ! “
17 تشرين الثاني، 2016