د. محمود عباس
الشرق الأوسط، مهد الحضارات، ومركز الإمبراطوريات، وبؤرة الحروب، وجغرافية الأنهر من الدماء والغزوات والسبي وهتك الأعراض، والصراعات الدينية والقومية، وكهف الأحقاد والانتهازيين والمنافقين، وسوق تجار الحروب، ومقبرة الوطنيين الشرفاء، المنطقة التي لم تخمد الحروب فيها يوما، تلتهب ثانية، فتسابق أقذر شرائح المجتمع، ليستلموا واجهة الصراعات مع المستبدين المستميتين على مناصبهم، ليدمروا الأوطان معاً، ويعدمون الشعوب.
والقوى العالمية الكبرى، تتحكم بمصيرهم، تحصرهم وصراعات المنطقة بسياج عسكري سياسي، فخلقت أو زيدت من لهيب الحروب الجارية ضمن جغرافيات معينة، كسوريا؛ والعراق؛ واليمن؛ وليبيا، وغيرها، فمن خلالها تمرر أجنداتها الأنية والاستراتيجية، بعدما ساعدت القوى الإقليمية على تغطية صراعاتها بأبعاد قومية أو مذهبية وأقلها إيديولوجية، معتمة على أهدافها الحقيقية، وبإعلام موجه، فأقحمت العديد من القوى الإقليمية إلى جانب السلطات الاستبدادية في حلبة الحروب الجارية في المنطقة، عن طريق دوائر خاصة تتمركز في الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الفيدرالية.
التمعن فيما يجري ضمن هذه الجغرافيات الملتهبة، تتوضح أن العالم أمام صراع دولي يقترب من شبه حرب عالمية ثالثة غير معلنة، والأساليب مختلفة عن الحروب السابقة، والخلفيات مغايرة، ولكن حطبها، كالسابق، شعوب هذه المناطق.
فعلى مر التاريخ، تنوعت دوافع الحروب، لكنها عكست مفاهيم عصورها، وتجلت في جميعها المصالح الأنانية للسلطات المهيمنة دون الشعوب. ورغم أن أساليب التدمير فيها اختلفت، انتقلت من المواجهات الكلاسيكية المباشرة إلى الحروب بالوكالة، لكن النتائج ظلت هي ذاتها لم تتبدل، حيث المجازر والمعاناة، وهجرات الشعوب، وبشائع بعضها تجاوزت حدود تدمير الحضارات، فبلغت ببعضها سويات إبادة الإنسان ذاته.
معظم الحروب، المتجاوزة جغرافية معينة، كانت بشكل أو آخر عالمية، ولكن وبسبب وسائط الحركة؛ والتنقل؛ والتوزع الديمغرافي المتناثر؛ وقلة عدد السكان في العالم، عرضها المؤرخون والباحثون كصراعات إقليمية، لكنها نادراً ما وقفت على حدود شعوب أو دولة، والأمثلة عديدة في التاريخ، كحروب إمبراطوريات الشرق؛ وحروب المقدوني؛ والرومان وبعدها حروب المسلمين؛ والمغول؛ والعثمانيين؛ ونابليون؛ وغيرهم، حيز جميعها عالمية، وغاياتها وأهدافها تدمير قسم من البشرية للسيطرة على الجزء الباقي.
ففي الشرق الأوسط، حرب عالمية متفرقة لا تختلف عن التاريخية المذكورة، وبشكل خاص في سوريا، والتي لم تعد دول العالم تهتم فيها بالوجود البشري، ولا بالبنية التحتية، وتسحق فيها القيم الإنسانية، إلى أن بلغ بروسيا تسمية مدينة حلب بأكملها (بؤرة الإرهاب) ووصف بشار الأسد الملايين من الشعب السوري بالانحطاط الخلقي والاجتماعي، وأعدمت المنظمات الراديكالية الإسلامية القيم الإنسانية والأديان على مذبحة الإسلام العنفي، وكل هذا أمام الصمت الأمريكي والدول الإقليمية، رغم الأصوات المبحوحة بين حين وآخر من بعض الجهات الأوروبية دون الإسلامية والعربية. وفي الواقع أن كل هذه وغيرها مخططة لتخفي الغايات والدوافع الأساسية، للقوى الكبرى والإقليمية الدائرة في فلكها، وهي ذاتها التي ألتهبت من أجلها الحربين العالميتين أو الحروب التاريخية السابقة، وأن تنوعت أسمائها وأشكالها وأنواعها، وهي المصالح الاقتصادية إلى الصراعات الإيديولوجية، أو ما يحاط بهما.
والجاري في عالمنا الحاضر، تشبهان حربين عالميتين متوازيتين: الأولى: تشبه الحرب الباردة، مع اختلافات هذه عن سابقتها، منها أن المصالح في هذه وليست الأيديلوجية (الشيوعية والإمبريالية) هي محور الصراع، وتتبين من خلال التحركات العسكرية الضخمة بين الجغرافيات، وعلى مستوى القارات، وتجري بين الإمبراطوريات، ولا بد من الانتباه إلى انهم لا يعيرون كثير اهتمام بالأنظمة السياسية بقدر ما يبحثان عن المحاور الاقتصادية الاستراتيجية، وتندرج ضمن الصراع أقطاب أخرى ليست منضمة إلى الحلفين، كالصين على سبيل المثال، وهذا ما يقلل من احتمالية رفع سوية صراعاتها إلى حد المواجهة المباشرة، كما ولأنها تعلم أن أية محاولة هي زوال للبشرية، فأبسط أنسان في إداراتهما، ونقصد هنا أمريكا وروسيا، يدرك أن ترساناتها النووية كافية لتدمير الكرة الأرضية عدة مرات، وأي تطبيق عملي بينها مهما صغرت فلن يكون هناك منتصر، والخاسر ستكون جميع شعوب الأرض بدون استثناء، مع ذلك فمرض جنون العظمة قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.
وتتبين هذا النوع من الحرب خلال عملية تحريك روسيا لأسطول بحري، كحاملة الطائرات أدميرال كوزنتسوف، ثاني أكبر حاملة للطائرات في العالم، ومعها ثمانية بوارج على سويتها، من ميناءها في القطب الشمالي إلى السواحل السورية، علماً أنها حاملة تجاوزت عليها الزمن، ويقال أن شروط معيشة البحارة فيها كارثية، وتنقلاتها تكلف الكثير، لكنها لا تزال تحوي قوة عسكرية استراتيجية مؤثرة، مع ذلك ستقطع ألاف الأميال لتبلغ سواحل سوريا، عن طريق بحر المانش ومضيق جبل طارق وبتكاليف تقترب المليارات، فقط لضرب المنظمات الإسلامية الراديكالية أو الإرهابية في حلب! كدعاية إعلامية، وفي الواقع هي قوة ضغط روسية، تريد كسب المصالح التي كانت للاتحاد السوفيتي السابق، تحت خيمة الإمبراطورية الروسية، أي عمليا إعادة ما خسرته السوفييت من جغرافيات، ولذلك ركزت قاعدة للصواريخ النووية السكندر في مدينة كاليننغراد على حدود أوروبا، وطورت صواريخ الشيطان -2 النووية، وهي تحمل عشر رؤوس معاً، وبأعلى تقنية نووية الكرتونية في العالم.
وبالمقابل تحركت ناتو، وعلى راسها أمريكا، فهددت بالمواجهة وعلى لسان وزير الدفاع الأمريكي والبريطاني ورئيس ناتو، فأرسلت بريطانيا طائرات تايفون إلى رومانيا، تحت حجة مراقبة المنطقة، وطاقم 800 جندي مع دباباتهم إلى أستونيا، الجمهورية السوفيتية السابقة، يشاركهم فيها جنود فرنسيون ودانماركيون، كما وأرسلت ناتو وتحت القيادة الأمريكية بأربع فرق سبقتهم فرقة بطاقم ألف عسكري إلى بولونيا، وسترسل ألمانيا 400 جندي إلى ليتوانيا، الجمهورية السوفيتية السابقة، ترافقهم قوة هولندية، نرويجية، بلجيكية، وغيرها، وكندا بدورها أرسلت 400 جندي إلى لا تفيا، الجمهورية السوفيتية السابقة، ومعهم 100 إيطالي، مع عتاد عالي التقنية، وحشدت أمريكا أسطول ضخم في البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب الأسطول الخامس الأمريكي المتمركز هناك. إلى جانب تحركات مشابهة في بحر الصين وعلى سواحل كوريا، وغيرها من المناطق. وصف الرئيس الأمريكي براك أوباما: الجمعة الماضية هذه التحركات، بالتحديات العالمية، أو الضغوطات الدولية، ورد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: بأن ما تفعله أمريكا قد تخرجنا من صبرنا وتحملنا لتجاوزاتهم.
والحرب الثانية: ساخنة تنفذها قوى إقليمية؛ وبمقاييس معينة، وإثارة معظمها تحددها الإمبراطوريات المسيطرة، وهي حروب بالوكالة، مواقعها متفرقة في العالم، ومنطقة الشرق الأوسط أبشعها في هذه الفترة، ومن المستبعد أن تكون سلطة بشار الأسد لوحده أو القضاء على عدة منظمات تكفيرية راديكالية إسلامية معنية تحتاج إلى هذه الضخامة من التحشدات العسكرية. وهذه الحروب تثار كلما دعت لها الضرورة، أو لم يتم الاتفاق على تقسيم مصالحها في العالم. ولم نستبعد يوما احتمالية تدخل القوى الكبرى غير المباشر في ثورات الشرق لتحريفها إلى حيث تدعي أجنداتها، ودعمها بطريقة أو أخرى المنظمات الإسلامية الراديكالية في هذه المنطقة لغاياتها، وبالمقابل المحافظة على السلطات الاستبدادية.
وغايات الإمبراطوريات المسيطرة، من هذا التصعيد، تتنوع من استراتيجيات بعيدة المدى، إلى مصالح آنية. واحتمالية تسخير الصراع ضمن العالمين العربي والإسلامي، الغارق في عصر مشابه لعصر الظلمات في أوروبا، واستغلال تحريف ثورات الشعوب ضد الأنظمة، إلى صراع مذهبي بين الشيعة والسنة، قد تكون من إحدى استراتيجياتها البعيدة المدى والمتفقة عليها، ويؤمل منها إحداث تحريف في مسيرة التاريخ، ومنها الحد من امتداد الفكر الإسلامي العنفي، وبشكل خاص هيمنة الراديكالي على الإسلام السياسي، وعزل المنظمات الإسلامية عن التحكم بمسيرة الشعوب السياسية، وحصرها في دور العبادة، مثلما حوصرت المسيحية، بعد عصر الظلمات والصراعات الطويلة في أوربا، ضمن الكنائس، وأبعدت عن السياسية، وقد كانت هذه واحدة من مفاهيم الثورات الشبابية في المنطقة.
ولا شك لتنفيذ هذا المخطط تتم التضحية بشعوب المنطقة، على حساب الحفاظ على السلطات الاستبدادية، وإفساح المجال للمنظمات الراديكالية الإسلامية والمنظمات الإرهابية بالتمدد والسيطرة على مساحات جغرافية معينة، مثلما حدثت مع داعش والنصرة، ولا يستبعد أنهم ساهموا السلطات الإقليمية في خلق هذا الكم من المنظمات التكفيرية والإرهابية وبتسميات إسلامية، ومن ثم محاربتهم من قبل روسيا وحلفائها وأدواتها وأمريكا وتوابعها، بعد الفصل بينهم. فالإمبراطورية لأولى حملت على عاتقها محاربة قرابة 170 منظمة ضمن سورية بعد أن حصلت من أمريكا الموافقة على إدراجها ضمن خانة المنظمات الإرهابية، والثانية تخصصت في محاربة داعش.
الإمبراطوريات وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الفيدرالية، يحتد بينهما الصراع على جغرافيات أخرى ومصالح أكثر تضارباً، لكن لا يستبعد احتمالية الاتفاق بينهما على الكليات دون الجزئيات، ومن ضمنها إدامة الصراع والتدمير الممنهج وعدم وضع حد زمني لإنهاء الحروب الساخنة في المنطقة، كما هي الجارية في الشرق الأوسط، لذا يتم الإبقاء على السلطات الاستبدادية، أمثال بشار الأسد أو تغيير السلطات القديمة في المنطقة بجديد مماثل، فعلى الأغلب أن المصالح الأنية تقتضي هذه الديمومة ولا تتعارض مع خططهما الاستراتيجية، ولا يستبعد وحسب جدلية التطور وانتشار المفاهيم الحضارية، بعد كل حرب عالمي، فإن الجاري بكل مساوئه لن تتمكن من القضاء على المفاهيم الثورية، وإن إسقاط الأنظمة الحالية ستحدث، والمنظمات الإسلامية السياسية الراديكالية أو الليبرالية تندرج ضمن حقل النظام الفاسد ذاته، فستحصر أو ستقضى على هيمنتها، خاصة وأن شعوب المنطقة هي التي تدفع الثمن، وبتكاليف كارثية.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/10/2016l