د. محمود عباس
لا بد من قراءة الجزء الأول لتتوضح غاية البحث …
الولايات المتحدة الأمريكية، وكما هو معلوم لأبسط محلل سياسي، تركت مصير المنطقة بيد روسيا (وهي على الأغلب استراتيجية عصرية، تستبعد فيها أمريكا قواتها قدر الإمكان من المناطق الساخنة، وتمرر أجنداتها باستخدام القوى البديلة الإقليمية للمنطقة ذاتها، وهي استراتيجية الإمبراطورية تحت هيمنة إدارة الديمقراطيين) ومن بينها مصير سوريا، إلا ما تتطلبه الحاجة، كفرض الإملاءات المتوافقة عليها، على حلفائها من المعارضة (الافتراضية) السورية، منها وأهمها التركيز على تحديد جغرافية تحركات داعش أو قوى السنة تحت اسم داعش، أو ما سيوضع بديلا عنها، وفي هذا الحيز العسكري الجغرافي، لا تجد غير الكرد قوة أمينة وصادقة لمحاربتها، وضمن هذا المجال توجد رؤى غريبة، حتى أن المحللين الأمريكيين يعرضون تداخلات لا ينتبه إليها الكرد، ومنها:
أن مهاجمة داعش على المناطق الكردية كانت بأوامر من القوى الإقليمية، ومساندة مباشرة من بعض السلطات، تجاهلتها القوى الكبرى إلى حين الضرورة، فحاولت القوى المعادية للكرد تطويرها للقضاء على كيانهم الفيدرالي المتشكل حديثا، وبالتالي إنهاء القضية الكردية، ومن بينهم المالكي رئيس وزراء العراق سابقاً ومحرضيه وتابعيه من القوى السياسية؛ وكذلك تركيا وإيران من الطرف الآخر، وكانت غاية أمريكا وضع الكرد أمام حجة الدفاع عن الذات. وفي رؤية وتحليلات أخرى، يجدون بأن داعش منظمة نبعت من أحضان البعث العراقي السوري الشوفيني الحاقد أصلا على الكرد، ومحاولتها تدمير كياني جنوب وجنوب غربي كردستان، تلاقت ورغباتهم الماضية، وطموحات الأنظمة العروبية والطورانية للقضاء على القضية الكردستانية. ورغم كل هذه المخططات والمؤامرات، نجا الكيانين الحديثين، رغم أخطائهما وسلبياتهما، وبرزا على الساحة القوتين الكرديتين، وأصبحتا الوحيدتين التي بإمكانهما الوقوف في وجه داعش، وبصدق وعن قناعة، باستثناء، ما ضخ مؤخرا، الحشد الشيعي في العراق وبدعم من إيران، كرد فعل على خروج أقسام من داعش من تحت إملاءاتها.
روسيا مع تركيا في الطرف الأخر، وبيدها ملف سوريا والأغلبية من ملفات الشرق الأوسط، تفصلها حسب مقاساتها، وقد انتبهت تركيا إلى هذه المعادلة قبل الكرد والقوى الإقليمية الأخرى، وتوابعها كالمعارضة السورية الافتراضية، لذلك قامت بعرض مسرحياتها العديدة، لتضعف رباطها مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وتمتنها مع روسيا ودول شرق السوفييت القديمة، ومنها: قضية إسقاط الطائرة الروسية، وتصعيد الصراع معها لتظهر كدولة ضعيفة أمام روسيا، وهي تعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتدخل كقوة ناتو في العملية، وبالتالي ستضطر إلى الاعتذار، وإعادة التحالفات السابقة. ومسرحيتها الأخرى عملية داعش والإرهاب، وتمويلها أو محاربتها، وبأنها لا يمكن محاربتها بالشكل المطلوب أمريكيا وستصبح نقطة خلاف أخرى، بسبب التناقض ما بين الفعل والنظرية أمام قضية محاربة داعش أو دعمها. ومسرحية المهاجرين وما افتعلته مع أوروبا للحصول على المليارات الست، وتهويل قضية الفيزا الأوروبية، وهي تدرك تماما أن أوروبا لن تقبلها، وأضافت عليها قضية إعادة حكم الإعدام إلى الدستور التركي، وهي تعلم أنها بتلك الخطوة ستضع نهاية كل حوار حول انضمامها إلى الوحدة الأوروبية، وأغلب المحللين الأوربيين وسياسييها يفهمون أن أردوغان في عمقه لم يعد يطمح إليها. ومسرحية الانقلاب، والتخلص من أعدائها، وبمساندة روسيا، من البداية. ولكن تبقى مسرحية الحرب على ال ب ك ك وحل القضية الكردية بمقياس حزب العدالة والتنمية، ومحاولة الربط بين ال ب ك ك وجماعة كولن! لها شروخ وفروع عديدة، وتمتد إلى غربي كردستان، وهي تأتي على خلفية تمسك أمريكا بالكرد لمحاربة داعش، ورفضها لمخططها بإقامة منطقة عسكرية تركية عازلة، في شمال سوريا تفصل بها غربي كردستان عن بعضها وتتحكم منها بمصير كرد غربي كردستان، وبالتالي شمالها، وأمريكا هنا رفضت ليست حبا بالكرد بمقدار ما تتطلبه مصلحتها، علماً أنها لا تلغيها كخطة احتياطية في حال تراجع الكرد أو تقاعسهم، وتلوحها في وجههم بين حين وآخر.
روسيا في هذا البعد ستقبل التقرب التركي، وستزيد من نسبة التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية، وستقوم بالتوسع في فرض شروطها على الشرق الأوسط، وإقامة علاقات استراتيجية مع الأنظمة الإقليمية في المنطقة، بعد أن تكون قد قلصت من هيمنة تركيا على الساحة، والكرد هنا ينجرفون ضمن مجموعة إلى الجهة الخاسرة، ويظلون الأداة التي يمكن الاستغناء عنهم متى ما انتهت مهمتهم، والأبشع في كل هذا عدم تمكنهم من خلق قوة ذاتية كردستانية تستطيع أن تفرض بعض شروطها، أو أن تطلب مقابل خدماتها من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، كالاعتراف السياسي بفيدرالية غربي كردستان ضمن سوريا، والتصريحات الروسية في هذا المجال لا تخرج من ضبابيتها المعهودة، ولتبقيها أمريكا في حالة التبعية لا تفرض على أحزاب جنوب غربي كردستان المتصارعة، إملاءات التقارب، مثلما فرضتها على جنوبها، رغم أن جغرافيتهم مسرح الصراع ضد داعش، ومن ديمغرافيتهم تستمد معظم قوتها الأرضية، ويستمر الكرد في حالة التشرذم والتبعية لأضعف القوى الإقليمية، بل لتابعيهم، من المعارضة السورية الافتراضية، إلى السلطة السورية القائمة حتى الأن بسند روسيا وإيران، وبإمكان روسيا وأمريكا نقلهم من حالة الضعف ذاك إلى قوة إقليمية ذات ثقل عسكري وسياسي.
أين نقف ككرد غربي كردستان! لا نود أن نتجاوز هذا السؤال، لأن الأبعد منه يفتح أعيننا على واقع مؤلم ومستقبل قاتم مرعب. نتبع المعارضة والسلطة، وهما أعداء بناءً على تصرفاتهم وتعاملهم وتصريحاتهم، ويستخدمنا الولايات المتحدة الأمريكية كأداة لمحرقتها، ويستعملنا روسيا، كلما دعت الضرورة وعلى الأغلب سترمينا إلى زاوية النسيان بعد تصالحها مع تركيا، والسلطة السورية إذا تصالحت مع المعارضة سوف لن نحلم بأكثر من حقوق المواطنة كمهاجرين قدموا إلى سوريا بعد أن تشكلت الدولة السورية العربية اللقيطة، وقد يحق لنا استخدام لغتنا حتى الصف السادس ليس أكثر، كغيرنا من الأقليات كالشركس والتركمان. ونحن في حالة التشرذم، والخلاف، فتتصاعد وبأوامر خارجية لهجة التخوين بيننا، وعدم تقبل بعضنا البعض، وتوسع الوباء ليتفاقم التلاسن وينتشر بين أطراف المجتمع والموالين للأحزاب، وتحيزت قسم واسع من الحركة الثقافية، تحت مسميات عديدة، الوطنية، وتعرية الخيانة، وكردية أو عدم كردية الأحزاب، وغيرها من المصطلحات المؤلمة والمدمرة لكل الآمال والأحلام. والأحزاب القوية أو سلطة الأمر الواقع ترفض قبول الأخرين لأنها صدقت القوى المهيمنة بأنها بذاتها ستبلغ الغاية، وأن الأخرين ذابوا أو سيذوبون، وهؤلاء بدورهم يتلاعبون على ورقة العمالة والتخوين بحق تلك السلطة، بل وبلغت في بعضه بفصلهم عن الكردايتي والخدمة للقوى المعادية للكرد. نعم، نحن أمام مشهد كردي كردستاني مرعب، لا يستفيد منه سوى الأعداء.
سنعود وفي معظم الاحتمالات، إن استمرينا على هذا النسق من التعامل مع بعضنا؛ وتقبلنا الذليل لإملاءات القوى الإقليمية والكبرى، إلى ما كنا عليه قبل انطلاقة ثورات الشرق، ولربما أبشع. علماً أن الظروف ملائمة أكثر من ذي قبل لبلوغ الغاية، فقط نحتاج إلى قليل من التواضع والمباشرة السليمة بالخطوات العملية من جانبنا ككرد.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
3/8/2016م