إبراهيم اليوسف
جاءت مجزرة قامشلو- وبعيداً عن توصيفات وتفاصيل الحدث الذي هزَّ كياننا جميعاً- كي تضع بين أيدينا- مرة أخرى- رسالة جديدة، لا تحتاج إلى المزيد من الجهد لفكِّ شيفراتها، حتى نصل إلى الإجابات التي يريد بعضنا تبديدها، وهو يقرأ هذه الجريمة النكراء التي لا يمكن أن نرتقي إلى مستوى أخذ العبر منها، بل إلى مستوى التعامل معها، إلا عبر إمعان الفكر والنظر، مقرونين بتعميق الحس المسؤول. ليس من أجل الإنصاف لدماء أهلنا: شهداء، وجرحى، بل ولأهلنا هناك، ولنا جميعاً: حاضراً، ومستقبلاً، وماضياً أيضاً..! وإن كانت الجريمة في عمقها ما بعد الدرامي قد ارتكبت غدراً، وليس في ساحة معركة، أو حرب، في مواجهة الكردي، وفي هذا ما يدل على طبيعة الإرهابي الذي أقدم على ارتكابها، في توصيفه الما بعد وحشي، باعتباره جباناً، بالرغم من حقنه بمخدري الغيب والواقع، كي ينفذ ما هو مكلف به، ليكون أي عمل إرهابي- مهما كانت الدوافع إليه- إعلاناً عن بؤس الثقافة التي تشرب بها من هم وراءه..!.
مؤكد، أننا سنحقق البعد اللامرئي للمجزرة، المجزرة في بعدها الآخر، في داخل ملكة الجدوى أو الفعل فينا، عندما ندور في الحلقة المفرغة التي سهلت اختراق المساحة الأكثر تحصيناً في مواجهة آلة الإرهاب، من خلال تكريس التشرذم، وعدم قراءة اللوحة كماهي. إذ إن المحن طالما دعت الكردي إلى تجاوز الجدران الوهمية التي تفصله عن سواه، بعكس ما بات يجري في الفضاء الزمني الذي تلا انطلاقة “ب ي د” في وجهه الأكثر وضوحاً، بعيد مواقفه من الحراك الكردي الذي بدأ من أمام -جامع قاسمو- ومن ضمن المساحة المستهدفة من لدن الإرهابي، ومن قبله: النظام..!.
لا تحتاج-رسالة داعش- وهو هنا مشجب رمزي لعدو الكردي الذي يحمل بذرة الحقد عليه، من قبل، إلى المزيد من القراءة، مادام أن جرعة سمومه التي يصطلي بها تكوينه النفسي- سايكولوجياه- بهذا القدر العالي من التركيز، في مواجهة الآخر، المختلف-لاسيما الكردي-إلى الدرجة التي تجعله يضيع في عمايته التاريخية، كي يؤدي هذا الحقد الدفين به إلى إضرام النار حتى في جسده، انتقاماً من قذارته- وإن وفق معطيات إحساس المفارقة لديه مع الآخر- وفي أقذر أشكال السادية، وفي هذا ما يحدد شخصيته، وسلوكه، وإن كنا- هنا-في مقام تقويم الفرد، وهو يستنسخ الجماعة على حد سواء.!.
بعد خمس سنوات ونيف من الثورة السورية، أو بعد حوالي ثلاث سنوات من كنتنة المكان الكردي، أو فدرلته، أبعد من الأخطوطة الورقية، بما يصل إلى مرتبة العياني، المكاني، مازالت نقاط الضعف واجبة القراءة، بداهة، تتخلل عقل المتنطع كي يختطف كل شيء منا: الزمان- المكان- الحلم- الشخصية، معلناً بذلك عن حالة نقص، معروفة، تأسست على تأليه الذات- ولوفي خطئها- ونبذ المحيط ولوفي صوابيته!!.، وهو هنا عقل كارثي، لابد من تشخيصه، ليس من أجل إنقاذ قضية كبرى- فحسب- بل من أجل إنقاذه هو الآخر، بالرغم مما في هذا العمل من مخاطر جمَّة، نتيجة شراسة ردود فعله، عبر الكثيرين من الذين يدورون في فكره: انخراطاً عفوياً أو قائماً على أسس المنفعة، ولو عبر خسارة الذات..!.
لقد كشفت مجزرة الحي الغربي في قامشلو-والأجدر بنا تسميتها بمجزرة شارع الحرية أو مجزرة شارع قامشلو عامودا- عن أول مثالب هذا العقل الكارثي الذي منينا به، فهو قادر في طبيعته- شأن أي مغامر- على تشكيل قوته، كيفما كانت. هذا التشكيل الذي تأسس- في الأصل- عبر ترويج الدرجات المحرَّمة من العنف مع الذات، في صورة- الموت المزين- أو- الاستعراضي، الملجم، الكابح، للآخر. و من أوجه هذه المثالب، أن صورة صاحب هذا العقل اهتزت أمام ذاتها، ومحيطها، والآخر، لاسيما أن الاختراق الذي تم قد وجه إليه رسالته عبر دنوه من بعض مراكزه المحصنة، مكتفياً بإلحاق الضرر بأكبر عدد من المدنيين العزل الأبرياء ، كقرابين، لتجاور فرض عليهم، بعد أن عانوا طوال مدة هذه المجاورة من وطأة حضور سلاح أو عقل لم يدافعا عنه. حيث تكمن هنا محنة صاحب هذا العقل وآلته التي تتبجح بانزجاجها في مهمات فتوحاتية خيالية، ليست في المحصلة إلا محض “قبض ريح”، أو استباقاً على الأولويات. أولويات حماية الذات، ومن قدم أوراقه الثبوتية ب”اسم حمايته”..!.
ثمة تحد ووجه به هذا العقل، بعد أن أعفي صاحبه من مواجهة -الداعشي- له، في قرارة عنوانه الرئيس، كي يجعله شاهداً على الفتك الوحشي ببطانته، عبر رسالة صارخة، تعد من أمات رسائل الدم الكبرى التي شهدناها، لاسيما أنها ما كانت تتم إلا نتيجة الخلل في بنية هذا العقل، المتغطرس، الذي تفوته بدهيات معروفة لا يغفل عنها قروي بسيط، ساذج، بينه وسواه ثمة خلاف، فما بالك بمن هو متنطع مثله للائتمان على قضية عظمى. شأن قضية شعب عظيم، طالما كان ضحية التاريخ والجغرافيا على حد سواء..!.
إن هذا العقل المعني، عليه التوقف ملياً عند مفردات الواقع، واستقراؤها، ضمن حدود ماهيتها، لا ضمن شطحات المخيال، والحلم الحزبوي، لاسيما أنه بات يخسر ذاته، وبطانته-تدريجياً- بل بات هؤلاء الذين أصروا على صمودهم، وبقائهم، في مكانهم، مستهدفين، من خلال محو ملامح أجساد الضحايا، أو محو ملامح المكان، لئلا يشبه نفسه، وهو لا يمكنه استعادة اللحظة الفائتة- بكل مقومات قوتها وإشراقاتها واستحقاقاتها- بعد هذه السياسات الكارثية بحق من تبقى من الأهلين، بعد هجرة ثلثي أبناء شعبنا إلى خارج الوطن، بما يعني أن هذه السياسات ستترك أثرها إلى مئة سنة قادمة. ناهيك عن اغترابه عن محيطه، وحاضنته، في الوقت الذي بات ينهك آلته العسكرية، خارج الحدود التي تأسس لأجلها، بعد إلغاء كل عنصر غير متماه معه، وقبل أن يستكمل شروط حضوره غير المنجز في أمكنة شراكة الحضور مع الآخر.
لا يمكن لصاحب العقل عينه أن يحقق ولو جزءاَ ضئيلاً مما كان ممكناً أن يحقق في غيابه النهائي عن المسرح التي أظهر عليه، بموجب توافقات لم تعد تخفى على أحد، بما يجعله مجرد أداة- لا أكثر- إلا عبر المصالحة مع الذات في بعدها الآخر، لاسيما في ظل هذا العداء الذي أسهم في النفخ فيه، وصب- النفط عليه- بعد أن بدأ طريقه من خلال الترويع ولو بإراقة دم الذات في جزئيته المختلفة، وإلغائه، حتى ولو بدت الذات بتراء، متقرحة، حتى يسود اسم مجرد حزب، أو مجرد قائد، وهي مساومة على الاستراتيجي من خلال العابر الأداتي.
لقد وقعت الواقعة، في جزئها الأكبر، مع هجرة أبناء شعبنا عن بكرة أكثريته من وطنه، ونال الفتك من بقية الجسد، بما لا يدعو المجال أمام كل حريص- في فضاء العقل ذاته- سوى من خلال إعلان- مراجعة شاملة جريئة مع النفس- والاعتراف بطوباوية- المشروع- في لحظته-اللاشرعية- مادام عارياً، من معاضدة عناصر الذات الكاملة، في أقل تقدير، عبر الاعتماد على الآخر المتضاد، المنفعي، المجرب في تواصله مع سواه أداتياً- فحسب- وهي مهمة لا يمكن أن تتأسس إلا على دعامات كثيرة منها: اعتبار الذات كما هي جزءاً لا كلاً في بعديها الواقعي والفلسفي- شجاعة مواجهة الذات كمعادل لشجاعة الذات في أرومتها- مقدرة تسمية الأمور بأسمائها، صدقية الخطوات القادمة-الإحساس بهول اللحظة المؤول إليها، وإلا فإننا لأمام مصير كارثي، بعيد لحظة نعوة داعش الرسمي…!.
يتبع….!
الحلقة 3
نحو الخيمة الجامعة