الفيدرالية الآن … في العمق

جان كورد

 

بداية أود التأكيد على أنني منذ زمن طويل كناشط كوردي
سوري عجوز مع فكرة “الجمهورية الفيدرالية السورية” عوضا عن “الجمهورية العربية
السورية” ، وقد كتبت في موضوع الفيدرالية العديد من المقالات، وساهمت منذ تأسيس
المجلس الوطني الكوردستاني – سوريا في عام 2006 ومن ثم كمسؤول إعلامي فيه  في معظم
النقاشات والأطروحات حول فكرة الفيدرالية القومية للشعب الكوردي في سوريا، لأنني
أعيش في جمهورية اسمها “ألمانيا الفيدرالية” وأعلم من خلال مراقبة أوضاعها السياسية
وغير السياسية بأن هذا النظام السياسي الإداري هو الأفضل من بين أنظمة الحكم
الحالية، بل إنه كان موجودا قبل قرون مضت في العالم الإسلامي بأشكال شبيهة، 
وعلى سبيل المثال أن السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، “الكوردي الذي هز الدنيا”
بانتصاراته وحروبه ومثاليته في الفروسية (حسب ما يؤكد العديد من المؤرخين الكبار)،
والذي كان سلطانا على دول ومناطق واسعة في منطقة الشرق الأوسط، كان يتبع دولة
الخلافة الإسلامية في بغداد من الناحية الشرعية، إلا أن صلاحيات إدارته اللامركزية
كانت كبيرة، وكان هو ينفسه يسمح بممارسة هذا الأسلوب من الإدارة التي تقترب من
النظام الفيدرالي، في البلدان والمدن التي كانت تحت سيطرته العسكرية والسياسية. ولم
نسمع من عالم إسلامي واحد بأن صلاح الدين كان مرتدا عن دينه بسبب سلطته (غير
المركزية) أو لربما بسبب أخذ نظام حكمه من هنا وهناك…
وعليه آمل ألا يتهمنا
أحد من المتحمسين لإعلان (فيدرالية) في شمال سوريا بالعداء للفكرة، كما آمل ألا
يتهمنا أحد من أنصار الإرهاب الفكري المتاجرين بالدين الحنيف بأنني أؤيد نظاما “من
بلاد الكفار”… فالموضوع متشابك وعصري ومتعدد الوجوه، ويطرح نفسه لدى وضع الدساتير
الوطنية وحكم البلاد، وبخاصة تلك التي فيها مكونات قومية ودينية مختلفة حجما وعقائد
وطموحات، كما هي الفيدرالية (الاتحادية) قيد التطبيق في العديد من بلاد العالم.   
طرح الفيدرالية لمنطقة شمال سوريا لا يحمل إسما كورديا أو كوردستانيا ويؤكد
على أنه “تحالف لمختلف المكونات في المنطقة”، ولذا فهو “تطوير” أو “نسف” لمشروع
“الإدارة الذاتية الديموقراطية” الذي طرحه زعماء حزب العمال الكوردستاني ونفذه
جناحه السوري، حزب الاتحاد الديموقراطي، وتمكن بعد اندلاع الثورة السورية من
السيطرة بقوة السلاح والدعاية المركزة من كسب عشائر عربية سنية في الجزيرة وبعض
زعامات المكون المسيحي المختلفة، وغض النظام الطرف عنه، بل يتهم البعض النظام بأنه
كان ولا يزال يمسك برأس الحبل، ويحرك بيادقه كما يشاء رغم ضعفه على رقعة الشطرنج
الجزراوي. وذلك في غياب وعدم مساهمة “المجلس الوطني الكوردي” الذي نأى بنفسه عن
مشاريع حزب العمال الكوردستاني ومغامراته على الدوام، وأكد باستمرار على أن موقعه
في داخل صفوف المعارضة الوطنية والديموقراطية السورية، وليس خارجها. وهذا المجلس
الذي حاول على الدوام الوصول إلى اتفاقات مع حزب الاتحاد الديموقراطي، بعون ومساعدة
أخوية قيمة من لدن رئيس إقليم جنوب كوردستان، الأخ مسعود البارزاني، ومسؤولي حزبه
المناضلين الذين قضوا الأيام والليالي لتحقيق نتائج لصالح وحدة الحركة السياسية في
غرب كوردستان، يكاد يسير المجلس في ذات الاتجاه صوب “فيدرالية قومية للكورد، بل صوب
“سوريا فيدرالية”، إلا أن هذا لن يتم دون الوصول مع المعارضة السورية والمجتمع
الدولي، وبعد اقناع الأطراف الإقليمية بأن الكورد لم ولن يكونوا خطرا على جيرانهم،
وإنما سيظلون عنصر تواصل وانفتاح وتقارب بين شعوب المنطقة.
وهذا يعني أن هذه
“الفدرلة” المفاجئة قد جاءت الآن بغياب أهم منافسي حزب الاتحاد الديموقراطي سياسيا
في المنطقة ذاتها، ومثلما ساهمت خلافات الأحزاب في جنوب كوردستان في تأخير تنفيذ
مشروع “استقلال” الإقليم، رغم وجود نتائج إيجابية لاستفتاء شعبي عليه منذ سنوات،
فإن رفض حزب الاتحاد الديموقراطي أي تنازلات لصالح الاتفاق الوطني الكوردي في غرب
كوردستان، سيكون خرقا يتسع باستمرار في مشروعه الساعي لتطوير إدارته الذاتية أو
بناء “فيدرالية قومية” وليست “جغرافية” فقط على أنقاضها…
وهناك مخاوف كوردية
جادة حول إمكانية لجوء النظام إلى تحريك حزب الاتحاد الديموقراطي الذي تشارك معه في
العديد من المعارك ضد أعدائه، مثلما فعل أثناء هجومه المسلح والإرهابي على الثورة
السورية السلمية، بأن أفسح المجال للإرهابيين بالانطلاق والحصول على السلاح من
قواته ومن قوات الجيش العراقي وأفرج عن بعض قادتهم وسخرهم في سبيل “اقناع العالم”
بأن ما يحدث في سوريا ليس “ثورة” وإنما حرب بين “نظام علماني حديث” و”إرهاب إسلامي
خطير” وكان في سياسته تلك موفقا، على الرغم من أن أحد حلفائه في تلك الحرب هو “حزب
الله” الموصوف بأنه تنظيم إرهابي خطير… وقد يفعل ذات الشيء مع حزب الاتحاد
الديموقراطي الذي أثبت بأنه محارب جاد ضد المنظمات الإرهابية في سوريا، فيدفع به
إلى خندق المتهمين والموصوفين ب”الإرهاب”، وشن الحرب عليه، بل دعوة عدوه الهام،
رئيس تركيا أيضا إلى مساندته في القضاء على “السرطان الكوردي الإرهابي!!!” كما يحلو
لأردوغان ومن يناصره وصف الطموح القومي الكوردي العادل في المنطقة. ولقد بدأت
الماكينة الإعلامية للنظام بتهديد الحزب القائم بالفيدرالية (الذي لا يعلن عن
كورديته ولا يؤسس لفيدرالية قومية كوردية) وبأنه سيتهمه ب”الإرهاب” إن نفذ خطته
لفدرلة شمال سوريا. وبعض الكورد يرون في طرح وإعلان الفيدرالية في هذا الوقت بالذات
“مسرحية” للتعكير على ما يجري في “جنيف 3″، لأن النظام لا يؤمن بالحوار أصلا، ولا
بد من القيام بشيء ما يجذب انتباه المعارضة السورية التي لا تقوم سوى بردود الأفعال
على أعماله الشنيعة، وسرعان ما ستحول فوهات مدافعها الإعلامية صوب الكورد وستهمل
النظام لفترة من الزمن، حتى ينفرط “جنيف 3″… 
من جهة أخرى، الفيدرالية التي هي
من طموحات شعبنا ومن أهداف أحزابنا، لا يمكن تطبيقها دون سند دستوري ودون صدور
قانون بذلك، فالفيدرالية في إقليم بايرن (بافاريا) أو في أي ولاية من الولايات
المتحدة الأمريكية ذات أساس دستوري متين، فكيف ستعيش هذه الفيدرالية المشبعة
بالحماسة الوطنية السورية؟ إذا كان النظام يعلن تكتيكا أو عن قناعة سياسية رفضه لأي
شكل من أشكالها كليا ويصر على استمرار نظامه الإرهابي المركزي، والمعارضة السورية،
ومن ضمنها أحزاب كوردية سورية هامة، تحذو حذوه في رفض هذه الفيدرالية التي أعلن
عنها حزب الاتحاد الديموقراطي وأنصاره، وسارع إلى محاصرة (!) المواقع العسكرية
للنظام في القامشلي، بعد أن ظلت تمرح وتسرح في المدينة طوال سنوات الثورة السورية،
وكذلك أعرب دبلوماسيون وسياسيون على الصعيد الدولي رفضهم لهذه المغامرة الخطيرة في
الجزيرة، نعم، كيف ستنجح هكذا فيدرالية؟ وهي بحاجة إلى علاقات سياسية ودبلوماسية
ومالية واقتصادية وثقافية؟ 
بعض الكورد يجدون في هذه المفاجأة التي لا تختلف عن
مفاجأة بوتين بإعادة جزء من قواته المحاربة في سوريا إلى بلاده، فرصة سانحة لتركيا
للتوغل في شمال سوريا (غرب كوردستان) بهدف القضاء على كل الطموحات القومية للشعب
الكوردي، إلا أن بعضهم يشدد على أن روسيا وايران تدعم وحدة أو تحالف القوى الشيوعية
واليسارية التركية والكوردية التي كانت مشتتة حتى الآن، وحسب معلوماتنا غير المؤكدة
فقد تم تكليف أحد قادة حزب العمال الكوردستاني دوران كالكان (غير كوردي) بقيادة
التحالف الجديد لجر تركيا إلى ساحة حرب في سوريا، بهدف إنهاكها واستنزاف طاقاتها،
والإعلان عن الفيدرالية سبب من أسباب تحويل الصراع السوري الذي أرهق شعب سوريا
واقتصادها إلى صراع إقليمي أوسع ومباشر بين إيران الشيعية والدول السنية، تقف فيه
روسيا إلى جانب ايران لأنها غير قادرة على محاربة تركيا مباشرة بسبب عضويتهاا في
حلف النيتو، وسحب بوتين بعض قواته درءا لأي صدام مباشر بينها وبين قوات الحلف،
والروس عازمون على افشال المشروع السعودي – التركي – الباكستاني الساعي إلى بناء
حلف عسكري إسلامي على غرار حلف النيتو، وذلك بعد اقناع أصحاب المشروع أقطاب العالم
الغربي بأن “الحلف الإسلامي” سيكون رديفا لحلفهم وسيعزز الأمن والاستقرار في
المنطقة وتطهيرها من الإرهابيين. 
وأخيرا، أقول بأن على البادئين بمشروع
الفيدرالية هذا الانتباه إلى أن السيد البارزاني، رئيس إقليم جنوب كوردستان، يملك
من القوى العسكرية والنفطية، إضافة إلى الدعم الدولي من مختلف الأطراف، وقد قام
باتصالات وعلاقات حميمة بصدد الوضع الكوردي وضرورة استقلال الإقليم عن العراق، في
حال استمرار الغبن الذي تمارسه بغداد ضد شعبه، وللسيد البارزاني قاعدة جماهيرية
مؤيدة له في عموم كوردستان، بأجزائها الإيرانية والتركية والعراقية والسورية، بل
هناك مئات الألوف من الشباب رهن أوامره في كل أنحاء العالم ليقاتلوا في صفوف
بيشمركته الأبطال، إلا أنه رغم ذلك كله يسير بخطوات حذرة للغاية من أجل الإعلان عن
“كوردستان مستقلة”، ويشترط للنطق بكلمة “الاستقلال” رسميا بموافقة الشعب الكوردي
الذي له الحق في ابداء رأيه بحرية ونزاهة، فيما إذا كان يريد البقاء ضمن الدولة
العراقية أم يرغب في الانفصال عنها، لأن هذه المسألة خطيرة، وأعتقد أن بعض الأحزاب
الكوردية غير المؤتمرة بأوامر إيران مترددة حيال مشروع الإعلان عن الاستقلال لأنها
تخاف من أن يجلب ذلك على الكورد كارثة عظيمة، في حين أن لقاءات السيد البارزاني
الدولية ووضع العراق المتدهور حاليا، وتنامي قوى الأمة الكوردية، تدفع بالقارب
الكوردي صوب الاستقلال ولو بهدوء وببطء شديدين. 
وهذا كله لا يعني أننا ضد
“الفيدرالية”، إلا أن فيدرالية يؤسسها حزب لا يعتبر نفسه كورديا وإسمها غير كوردي،
ولا يعترف بها أحد وليس لها سند دستوري، قد لا تعيش إلا حيث يلعلع السلاح في
أرجائها، فهل سيبقى السلاح سيد الساحة بزوال نظام الأسد أو بغزو تركي – سعودي –
باكستاني عبر بوابات الحدود التركية – السورية، التي تتواجد في منطقة هذه
الفيدرالية مباشرة؟ وهل سيكون في وسع الثعالب السورية دعم القائمين على هذه
الفيدرالية؟ واستغرب كيف تزأر حكومة تركيا الساكتة عن فيدراليات أوروبا كلها وتسعى
لعناقها بحرارة، غاضبة وليس في هذه الفيدرالية (الشمالسورية!) ما له (الآن) علاقة
بالشعب الكوردي عمليا!!!  
ولذا، برأيي أن يجلس الكورد السوريون إلى بعضهم بعضا
قبل أن ينزلوا سطلهم إلى هذا البئر العميق أكثر مما نزل، وبعد الاتفاق فيما بينهم
على موقف موحد، بإمكانهم عرض مشروع “فيدرالية غرب كوردستان” على المعارضة السورية
عامة، والمؤمنين فيها بالحل الفيدرالي خاصة، والسير معا، كوردا وعربا ومن مختلف
المكونات السورية القومية والدينية، دون استثناء، صوب “الجمهورية الفيدرالية
السورية”، وقد يكون في حوارهم مع الجيران والدول الاقليمية، رغم كل المصاعب، فائدة
لحصولهم على حقهم المسلوب، إن شاء الله تبارك وتعالى.    
   

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…