د. محمود عباس
قال الغزالي: سأدافع عن الكلمة في العربية مثلما أدافع عن الآية في القرآن. أمثاله كثيرون من دمجوا الإسلام بالعربية، علماً أن معظم الشعوب الإسلامية لا تزال لا تفهم القرآن لغة، والإسلام فكراً ومفاهيما، ومعظم الخلفيات التاريخية بلغتهم مشوهة، فيتناولون الدين بعبادات شكلية، ويتعلمون طقوسه مدموجة بطقوس قريش الجاهلية، وحسب فهم وتأويلات فقهاءهم الذاتية، ومعظم هؤلاء يحفظون الآيات القرآنية باللغة العربية دون معرفة معانيها، ونادرا ما يراجعون الترجمة والتي تغيب فيها الكثير من التأويلات المستندة على قواعد اللغة العربية والعوامل التاريخية والتفسيرات المتنوعة، والفروقات دقيقة مبنية على مجازيات اللغة العربية.
بعد التراكمات المعرفة العلمية والثقافية عند الشعوب، ظهرت، وحسب الترجمات، العديد من التناقضات في القرآن، وعكستها المذاهب، فتعمق فقهاء الإسلام بالتنقيب عن قواعد اللغة العربية وتصريفاتها ليخرجوا بتفسيرات تتلاءم والعصر، لأن الاختلافات أدت إلى تزايد الهوة بين المفاهيم، والتي على أثرها ظهرت الصراعات المذهبية، والذين كفروا بعضهم أكثر ما كفروا الأديان الأخرى، فظهر الإسلام وفي عقودها الأولى، على بعدين متناقضين، الإسلام الراديكالي الإرهابي المؤمن بالعنف والقتل والمستند على النهج المديني في نشر الإسلام، وعليه تسير معظم المذاهب التكفيرية النابعة من شبه الجزيرة العربية، وخلفهم نصف المسلمون في العالم بشكل أو آخر، وهم الذين يكفرون كل القوى الحضارية والثقافات غير الإسلامية، ولا زالوا يؤمنون بالغزو والغنائم والسبي والقتل وغيرها من مفاهيم العنف. والإسلام ذو النهج الليبرالي والداعي إلى السلام، والتعامل الإنساني ورفض العنف، ويتعاملون مع المفاهيم الحضارية ويتقبلون التغيير والتلاؤم مع ثقافات الشعوب الأخرى. فالإسلام في حقيقته، دينين أو أديان مختلفة، لكنها لا زالت تدرج تحت اسم الإسلام. وعليه يفرض السؤال التالي ذاته: ما هي العلاقة بين المذهب الوهابي، والشيعي، والمذاهب الإسلامية الأخرى، كالعلوية أو عليّ إلهي، أو الدروز، أو الإسماعيلية، وغيرهم؟
السلطات الإسلامية العربية، منذ سقيفة بني ساعدة وحتى اللحظة، كانت تهمها السيطرة أكثر من مفاهيم الدين، وأغلب الذين برأوا الإسلام عنهم كانوا من الشعوب غير العربية، وكانوا على قناعة أن شرورهم ومجازرهم لم تكن لنشر الإسلام بقدر ما كانت للسيادة والسيطرة، دون أن تنتبه هذه الشعوب أن إسلامهم لا يتشابه والإسلام الذي آمن به معظم القبائل العربية، مما أدى إلى أن يبلغ بهم مجالات اطلاق الأحكام الإلهية والدفاع عنه بالجهاد وتوسيع مفاهيم القتل وطرق العنف، وأعادوا منطق القبائل العربية الجاهلية، وغزوا تحت عباءة حماة الله على الأرض، مع غياب المفاهيم الروحية في ثقافتهم، وقناعاتهم مبنية على أن سيادة الله يحتاج إلى حماية الإنسان، وظل الله في معتقدهم كملك يحتاج إلى من يدافع عنه وينشر أفكاره، ويحرس أملاكه، دون أن تدرك الأغلبية، أن منطق الدفاع عن الله كفر، فهو انتقاص لقدراته. وما يجري اليوم على الأرض من العنف، والشرور هو هذا الكفر بكل مسافاته، وعودة للإسلام الذي خرج من شبه الجزيرة العربية، أو الذي على أسسه اجتاحت القبائل العربية الشعوب المجاورة، ويطبقون ما طبقته تلك القبائل بين بعضها وفي غزواتها.
خارج هذا البعد الجغرافي السياسي، وصراعات علم الكلام، معظم الشعوب الإسلامية غير العربية اقتنعوا بمفاهيم الإسلام على المنحى الروحي، ورجحوا جوانب السلام، ولم يؤمنوا أو لم يتقبلوا الآيات المحرضة على القتل والعنف أو تغاضوا عنه، ولم تحجز بينهم وبين هذه المفاهيم مجازيات اللغة العربية وتأويلاتها، وعليه ظهر إسلامهم مخالفا ومختلفا عن إسلام العرب، ومن فهم القرآن على أيدي أئمة العرب انحازوا إلى العنف مثلهم، وتشربوا ثقافة الغزو وقبلوا بالقتل والعنف كأحد أهم ركائز الإسلام، وما يرى في بعض الدول الإسلامية من العنف انعكاس لتلك الثقافة الدينية القادمة من ثقافة القبائل العربية الجاهلية، المركزة على الآيات التي تشد على العنف، والسبي والغزوات، والقتل، ونشر الإسلام بالسيف، سهلوا لهم الإسلام بدون التعمق في مجازيات لسانهم وتأويلاتهم وتبريراتهم لقتل الآخر، وطمسوا العلاقات الروحية بين الإنسان وربه، والتي هي في حقيقتها مفاهيم كانت غريبة عليهم.
وعلى بنية تناقض الإسلام العربي مع الواقع الحضاري ومعارف الشعوب الحضارية الذين اصطدموا بهم منذ البدايات، ظهرت التبريرات والتأويلات العديدة والمتناقضة لآيات ومفاهيم عديدة، وتغيرت باستمرار على مدى المراحل التاريخية الإسلامية وحسب السلطات السياسية، ويعتبر هذا البعد الأخير أقوى سند لفقهائهم، على أنها تعكس تلائم الدين مع كل الظروف والأزمان والشعوب، رغم تضارب هذا التبرير مع عادات وتقاليد ومعيشة العرب القدامى، وتستند في كليته على مجازيات اللغة العربية، والتي كثيرا ما تخرج متناقضة بين فقيه لغوي وآخر أو مذهب وآخر.
الإسلام في مجمله، أو في جزئه العنفي، التجسيدي دين نبع من ثقافة القبائل العربية وبني عليها، ورسخت تلك الثقافة ونشرتها بين الشعوب تحت غطائه، واللغة جسر ينقل عبرها وعلى متنها ثقافة وعادات وتقاليد شعب ما إلى الأخرين، وكما ورد سابقاً، فالمسلم الذي لا يتقن لسان العرب، ومن لا يلم بلغة القرآن، ومجازياته يعتبر فهمه للإسلام ناقصاً، بل ويدحض كل مفسر أو محاور في الدين، ولا تؤخذ برؤيته، ولا يحق له النقاش في الإسلام، وهو ما أدى إلى ظهور ونشر الجامعات والفروع المتنوعة في اللغة العربية، ودراسة القرآن من جوانب لغوية عديدة، أكثر من الجوانب الفكرية، بل وفي معظمه، كل تعمق في المفاهيم لا بد وأن تسند باللغة العربية، وعلاقتها بالماضي، والبيئة الثقافية التي صدرت منها، وكانت تؤثر على معاني الآيات، أي عمليا لا يمكن فهم الإسلام دون التمكن من لسان العرب، لهذا فالإسلام هو إسلام العرب، تحتضن ثقافتهم ومفاهيمهم، وتستسقي أبعادها من بيئتهم دون بيئة الشعوب أو الحضارات المجاورة، فلم تظهر الفلسفة الروحية-الفكرية الميتافيزيقية في شرح الإسلام أو تحليل القرآن، والتي كانت غريبة عن القبائل العربية ولم يكن لهم معرفة بها، وكفرو كل من انزاح إلى ذلك المنحى، وللتغطية على هذه الإشكالية خرجت على عتبات اللغة محاورات ونقاشات فكرية في بدايات الخلافة الأموية سميت بعلم الكلام، وهو نابع ومدعوم باللغة العربية دون سواها من لغات الشعوب التي آمنت بالإسلام…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
12-7-2015