دهام حسن
أن تكون سياسيا، يعني أن تكون واعيا لما اعتنقته من مبادئ، وما آمنت به من أفكار، وما اختطته لنفسك من طريق نضالية، أما أن تكون قائدا سياسيا ملتزما بحزب ما، فهذا يعني أن تكون مثقفا، وواعيا للعلاقات الاجتماعية في محيطك، مدركا للصيرورة التاريخية للمجتمعات، متفهما للصراع الدائر بين مكونات مجتمعك الطبقي، صادقا في علاقاتك الرفاقية، وتعاملك مع الآخرين، أمّا أن تكون أميّا، فهذا يعني أنك خارج السياسة.! فقادة بعض الأحزاب من النسق الأول ستجد فيهم من يقودون التنظيم بفهم قاصر، ومزاج حاد، ونفسية متعالية، فهؤلاء المسؤولون الحزبيون هم الذين يستقدمون العناصر الانتهازية، ليقحموهم في صفوف الحزب، لتقوية مركزهم وترقيتهم إلى دفة القيادة، ليكونوا بالتالي مطايا لهم، ورهن إشاراتهم وهم بدورهم يمتثلون لأوامر ونواهي من أتى بهم دون أن يكون لهم أي رأي أو قرار،
أجل يمتثل هؤلاء للإيعازات جراء ضعفهم وانتهازيتهم وعيوبهم فعلى هؤلاء ينطبق ما قاله نابليون:(يمكن إدارة البشر بواسطة عيوبهم، أكثر مما يدارون بفضائلهم) من جانب آخر فإن الإخفاق السياسي لأي حزب كثيرا ما يكون سببه إهمال الجانب التنظيمي، وعدم التقدير لضرورة وأهمية المستوى المعرفي، فالواقع السياسي يقتضي منّا شكلا من النضال يقوم بالأساس على حزمة من المفاهيم والمبادئ والأفكار، لنأخذ بها كقناعة والتزام، ونناضل في سبيل ترجمتها على أرض الواقع، وبالتالي فغير مسوّغ أبدا تبعية الفكر للسياسة، حيث ينجم عن هذا بالضرورة لجم النشاط الفكري، لذلك أقول لا يجوز ربط العقل المبدع بقيود السياسة، أو بالأحرى بتبعية الفكر للسياسة، أي خضوع المثقف لذاك السياسي الضئيل الفهم، الضحل الثقافة، لكن مما يؤسف له أن كثيرا من مثقفينا قد تربّوا بروح التبعية والانتهازية والخنوع.. من جانب آخرغالبا ما يكون المثقف ذا نزعة يسارية في مفاهيمه، لأنه في داخله يرفض التقاليد الجامدة، مما يدفعه إلى التقدم والتغيير، ونتمنى من هذا النزوع إلى اليسار أن يتحول إلى فكر وممارسة وقناعات.
وفي سياق الموضوع ذاته من الأهمية بمكان التذكير بوجوب أن يتاح للمفكرين من طرح أفكارهم، ولابأس من التلاقح بين التيارات الفكرية المختلفة رغم التعارض فيما بينها، وذلك بالجدل المستمر، فالفكر يتطور كما هو معلوم ويتبلور ويغتني ويتقدم بتعايش المتناقضات، أي في صراعها في دائرة القلم فحسب.. فعادة ما يكون للأحزاب إطار تنظيمي، ومنه ينطلق النضال السياسي، فبدون الأحزاب لا جدوى يذكر من النضال النظري وحده، بيد أننا نفتقد في الوقت الراهن حالة التواصل بين السياسة والثقافة، لأن المثقف هو الذي يسدي للسياسي الشعار النضالي الحقيقي، فربما طرح السياسي الكوردي في خطابه القومي آراء غير متماسكة، بل ربما خرج بخطاب إشكالي، فيطرح مثلا مسائل عصية على الحلّ، بعيدة عن الواقع، بما يصوغه فهمه القاصر والمتشنج دون أخذ الظروف بالحسبان، ومن هنا يبقى الذهن مرتعا لتلك الأوهام دون القدرة على فكّ رموزها والتحرر منها وتجاوزها، وبالتالي الخروج بحلّ مرض ومناسب، هنا ينبغي التنبه للمؤسسات الحزبية بحيث يشعر كلّ عضو بمسؤوليته، لا بتبعيته لهذه المؤسسة الحزبية أو تلك فحسب، فلا يرضى أن يتحكم بها من تراه قليل الخبرة، ضحل الثقافة مع التدني في مستوى التعليم، من جانب آخر على المسؤول الحزبي المتقدم في الموقع التنظيمي ألا يكون رائده وقفا على الجاه والمال فحسب، ما أعنيه هنا هو انكباب السياسي المسؤول على كيفية اكتساب المنصب والثروة، فالثروة كما يقول هولباخ تفسد الأخلاق، والركض وراء المنصب يؤسس لروح الانتهازية، فنتمنى ألا تكون “شهوة رجل السياسة الوحيدة هي السلطة” بتعبير هولباخ، أو المال بتعبير كثيرين، وعلينا هنا أن نتذكر أنه من مفارقات التاريخ، ومن سوء حظ شعبنا الكردي أنه ابتلي بـ(هذه القوى الرعوية من الرعي الطبيعي للحيوانات إلى الرعي السياسي للبشر) بتعبير أرنولد توينبي..لهذا أقول أن التخلف السياسي هو جزء من التخلف الاجتماعي، فما نشهده اليوم من نهوض سياسي مجتمعي، وزعيق الشعارات الطنانة، بتأثير صخب طوباوي، دون أخذ الظروف بالحسبان، ليس له أساس واقعي، فالحضارة والتقدم يقتضيان التمازج بين الأفكار والتطلعات والحالة الاجتماعية، لهذا أقول:على المناضل السياسي لدى معالجته لمسألة ما، عليه أن ينطلق من الواقع المعيش لا من الممكن أو المتخيل، وفي هذه الحال يتوجب على المثقف أن يسدي للسياسي الشعار النضالي الصحيح، فلا يقول له (كفّ عن النضال فكل نضالك باطل) بتعبير ماركس، فالمثقف من واجبه نقد العقل المذعن للمثقف الذرائعي من جانب، وأيضا نقد العقل المسيطر من جانب آخر في التنظيم الحزبي، فكلاهما يخلّف خيبات أمل، أليس نقيصة وعارا أن يضع السياسي جدارا بينه وبين النخبة الثقافية.؟ ولا يحاول بالتالي أن ينهل ما أمكن من ينبوع الوعي والمعرفة، فما على السياسي هنا إلا أن يدرك أن ما يسند إليه من مهام هو تكليف وليس تشريفا، فيقتضي منه بالتالي بثّ الروح النضالية والحيوية في خلايا جسم التنظيم الحزبية، ويتجنب الجمود والخمول، بالمقابل فالمطلوب من المثقف ألا يقبع في صومعته، ويخاظب الناس من عليائه، بل يتوجب عليه أن يواكب المجتمع في تحوله الدائم، بحيث يبقى في علاقة نقدية مع ذاته، وبالتالي عليه أن يظلّ خارج أبنية السلطة ما أمكن، وحتى لو تمّ وجوده في سلك ما، يتوجب عليه أن يكون رائده نشدان الحقيقة، لا أن يمتثل لإرادة هذا السياسي أو ذاك امتثال الأعمى لما يملى عليه، وهنا ما عليه سوى أن يدرك أن أيّ واقع سياسي يقتضي منه أسلوبا من النضال يتكئ على مبادئ وقيم وأفكار استحوذت على تفكيرنا وشكلت قناعاتنا..!