من جيب الفرنكات إلى جيب الدولارات

 ابراهيم محمود
ربما، حتى ما قبل ثلث قرن من الآن، كان يصعب رؤية بنطال ما، إلا ويتقدمه جيب يُسمَّى بـ” جيب الفرنكات “، وهي تسمية كانت تشمل النقود ” الفراطة : من الفرنك حتى الليرة “، حيث كان للفرنك قيمته، كان يمكن شراء سلع كثيرة، بالنسبة للأطفال خصوصاً، أي كان الفرنك شاهداً على وفرة اقتصادية وطنية نوعاً ما. كان في وسع المرء أن يضمّن جيب الفرنكات ما يحتاج إليه في مصروفه اليومي، بالمعنى المفصِح عن التالي: مادام جيب الفرنكات موجوداً، فثمة امكانية لتدبير المتطلبات اليومية، وعند اختفاء هذا الجيب، كان ذلك مؤشراً على تدهور القيمة الشرائية للعملة السورية.
لا يعني الحديث عن الفرنك بطبعته الفرنسية أصلاً، استدعاءً لما كان، وإنما هو التقابل بين وضع لم يكن مفرحاً كما يجب بالتأكيد، لكنه لم يكن يتهدد المرء في حياته في لقمة عيشه، أو مصدر رزقه. الفرنك كان شاهداً على عصر استمر عقوداً من الزمن، ويشكل مدخل حياً لمعرفة الكثير من حيثيات ما كانته سوريا على الصعد كافة، ومع احتضار الفرنك في ثمانينيات القرن الماضي، وشهقة العملة السورية، وقد انتقلت تدريجياً من فئة المائة إلى الخمسمائة وتالياً الألف، شكَّلت هذه المسافة النقدية الهائلة بما لا يقاس بيسر، ومن لدن الإنسان العادي، إلا بمصاعب حياتية خاصة، بين الفرنك ببساطته، ومكانه الصغير إنما المعتبَر، وخشخشة القطع المعدنية: من الفرنك مروراً بالفرنكين والربع، وانتهاء بالليرة الفضية، وقطعة الألف ليرة الورقية، المسافة ذاتها بين الذين كانوا يتحدثون باسم جموع/ جماهير الفقراء، الكادحين، ذوي الدخل المحدود، صغار الكسبة…الخ، ومن كانوا من بين هؤلاء بالمقابل، والذين استهجنوا تالياً من يتحدث عن جيب الفرنكات أمامهم، ربما لأنهم يدركون في قرارة أنفسهم كيف كانوا ” متفرنكين “، وبقدرة ” قادر ” خاص، أصبحوا ” متدلورين “، والشكر والحمد والنعمة لقائمة الشعارات والهتافات وأشرطة الوعود المصورة على مستويات مختلفة، وهي تعلِم بقرب انتقال المجتمع إلى ما يصبو إليه في سوريا، حيث يبقى للفرنك اعتباره، نضاله، رمزه، علامته، شهادته على زمن لا يُنسى،  ولتتشكل قائمة من الجيوب العلنية: وما أقلها، والخفية، وما أكثرها، جيوب منتشية برائحة الدولارات، كما هي الأصابع التي تتحسسها وهي بفئات لا تقل الواحدة منها عن العشرة أو العشرين دولاراً، تأكيداً على تحولات التاريخ.
جيوب، جيوب، جيوب جنسيات، وماركات، يصعب على أي كان، وبالسهولة المفترضة، حصرها، ووصفها وترتيبها، بأنواعها وأشكالها ومكوناتها ومغذياتها، وقد صار من المستحيل بمكان، الحديث عمَّن يكون الفلاح، أو العامل، أو  المياوم، أو الكاتب، جهة التحول المباغت في نوعية الجيب الواحد أو مصدره ومن وراءه إيحاءاً وتصميماً وإغراء رهان عليه .
جيوب متفاوتة في مقاييسها، تنمّي حساسية ” الجيوب الأنفية “، بقدر ما تضاعف من وجود المقِيمين في ” الجيوب الخفية ” في المجتمع، بقدر ما يتم التركيز على جيوب ” الثروات الباطنية والظاهرة، بقدر ما تداخلت الجيوب، كما هو التداخل المريع بين من يمكن أن يكون الوطني اليوم، والحريص على السوري فيه، بكل المنتمين إلى الجغرافيا السورية المعلومة حتى الآن، ومن يمكن أن يكون الساعي إلى تدمير البلد جملة وتفصيلاً، جيوب لم تعد لها حدود مسماة، وهي تفصَّل أو تحدّد أدواراً لمن يكونون رموزاً لها نجوميتها منذ سنين خمس على الأقل، بحيث أصبحت قطعة الألف ليرة سورية في واقعها نظيرة الفرنك قبل المدة السالفة الذكر، وللنبيه أن يدخل في لعبة الحساب بعملياته الأربع، وما يترتب على هذه الانعطافة المريعة من تغيير يستحيل ضبط حقيقته، أو توصيفه، إلا من ناحية واحدة، تلخص النواحي كافة في البلد، ومن يقيمون فيه ومن هم خارجون عنه، وهي أن الجغرافيا قد انقصفت، وبات من الصعب جداً جداً، النظر في رقعة يستغرقها سكون ما، كما هو جيب الفرنكات، لصالح جهات تكاثرت وتلخصت في جهة واحدة بدورها، هي جهة الدولار، وما يستقطره الدولار في إثْره من دوار روحي وقيمي وكارثي، كما هو معاش هنا وهناك أبعد من حدود سوريا عينها بالتأكيد.
وأمسى في وارد القول التشديد على هذه اليافطة: أنا دولاريٌّ، إذاً أنا موجود !
دهوك- في 23-1-2016 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف بعد أن قرأت خبر الدعوة إلى حفل توقيع الكتاب الثاني للباحث محمد جزاع، فرحت كثيراً، لأن أبا بوشكين يواصل العمل في مشروعه الذي أعرفه، وهو في مجال التوثيق للحركة السياسية الكردية في سوريا. بعد ساعات من نشر الخبر، وردتني رسالة من نجله بوشكين قال لي فيها: “نسختك من الكتاب في الطريق إليك”. لا أخفي أني سررت…

مع الإعلان عن موعد انعقاد مؤتمر وطني كردي في الثامن عشر من نيسان/أبريل 2025، في أعقاب التفاهمات الجارية بين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأحزابه المتحالفة ضمن إطار منظومة “أحزاب الاتحاد الوطني الكردي”، والمجلس الوطني الكردي (ENKS)، فإننا في فعاليات المجتمع المدني والحركات القومية الكردية – من منظمات وشخصيات مستقلة – نتابع هذه التطورات باهتمام بالغ، لما لهذا الحدث من أثر…

فرحان كلش   قد تبدو احتمالية إعادة الحياة إلى هذا الممر السياسي – العسكري ضرباً من الخيال، ولكن ماذا نقول عن الابقاء على النبض في هذا الممر من خلال ترك العُقَد حية فيه، كجزء من فلسفة التدمير الجزئي الذي تتبعه اسرائيل وكذلك أميركا في مجمل صراعاتهما، فهي تُسقط أنظمة مثلاً وتُبقى على فكرة اللاحل منتعشة، لتأمين عناصر النهب والتأسيس لعوامل…

شفيق جانكير في زمن تتزاحم فيه الأصوات وتتلاشى المعايير، يبقى صوت الأستاذ إبراهيم اليوسف علامة فارقة في المشهد الثقافي والإعلامي الكردي، لا لبلاغة لغته فحسب، بل لما تحمله كلماته من وفاء نادر وموقف مبدئي لا يهادن. في يوم الصحافة الكردية، حين تمضي الكلمات عادة إلى الاحتفاء العابر، وقفت، عزيزي الاستاذ إبراهيم اليوسف، عند موقع متواضع في شكله، كبير بما يحمله…