د. محمود عباس
رغم وجود رجب طيب أردوغان في القمة السياسية، داخليا وفي العالم السني الإسلامي، لكن بدايات مرحلة هبوطه بدأت تظهر، من خلال ظهور عوامل ذاتية وموضوعية، وتكاثر المشاكل حوله، على خلفية الأخطاء التي ظهرت في سياسته الداخلية والخارجية وفي البعدين الديني والقومي:
1- في البعد الإسلامي، حاد وحزبه عن الطريق الإسلامي الليبرالي، وبدأت تهيمن عليه الغرور شخصيا، وهي التي أدت إلى ظهور الخلاف بينه وبين أحد أقرب الناس إليه وأحد أقطاب المخطط الليبرالي، وقام بدعم المنظمات التكفيرية، واستخدامهم كأدوات لمصالحه الذاتية كحزب والموضوعية كدولة، وهي نتيجة حتمية من حيث البعد الديني والمخطط الأمريكي الخاطئ في استراتيجية الفرز بين الإسلام الليبرالي والراديكالي.
1- وأخطأ في البعد القومي أو الوطني، فقد حاول حل القضية الكردية من منظوره وحسب مصالحه القومية التركية، وليست مصالح الشعب الكردي ولم يسأل الحركة القومية الكردية عن رغباتها ومطالبها ولم يتحاوروا معهم في الإصلاحات البسيطة التي قاموا بها والتي لم تتجاوز أبعاد بعض الإعلام ومدارس باللغة الكردية، وظلت غير مدعومة من الدستور ولا من ميزانية الدولة، ولا يستبعد أن عملية السلام أو الخطوات الإصلاحية البسيطة كانت تندرج ضمن الاستراتيجية الأمريكية في تشييد الاستراتيجية الليبرالية، وتخلى عنها مع انزياحه إلى النهج الراديكالي، في البعد القومي مثلما فعلها في البعد الإسلامي، وعلى الأغلب ستثبت الأيام بأنه أخطأ عندما هدم مسيرة السلام مع الكرد، وستتأكد له ولحزبه بأنه بدون التعامل مع الحركة الكردية بمرونة وديمقراطية سيكون أفوله مؤكداً وسريعاً.
2- وفي السياسة الخارجية، تمادى على المصالح الإسرائيلية، بتعميق علاقاتها كدولة مع منظمة حماس الفلسطينية الإسلامية الراديكالية ومع الدول السنية الراديكالية كالسعودية وقطر، والأخطر بالنسبة له تصعيد الصراع مع روسيا على خلفية نفس الغاية. وفي حال إلغاء منطق مؤامرة الدولة الطورانية العميقة في عملية إسقاط الطائرة الروسية بدون علم أردوغان، تحت ذريعة الدفاع عن الطائفة التركمانية في سوريا، واختراق أجوائها، سيكون أردوغان قد أنجرف إلى مستنقع موبوء في العلاقات الدولية.
3- معظم المنظمات الإسلامية السياسية، الراديكالية أو الليبرالية، على خلفية الصراع السوري، تساند تركيا الإسلامية ضد روسيا، والتي تقصف كل المعارضات السورية، المدرجة عند كل الأطراف كمنظمات إرهابية، باستثناء تركيا والسعودية، وظهور قائمة المنظمات التكفيرية والمعارضة الإسلامية لسلطة بشار الأسد، خلقت إشكالية في العلاقات التركية بشكل عام، وقويت مكانة الروس في المنطقة مقابل ضعف موقف حكومة أردوغان.
أردوغان كزعيم سياسي إسلامي سوف يستمر مهيمنا خلال السنوات القادمة، حتى ولو تراجعت القوة التركية الاقتصادية أو تقلصت هيبتها السياسية، وذلك لأن الفترة الطويلة التي سمح لحزبه بإسناد الثقافة الدينية المتراكمة سابقا في تركيا، أدت إلى بناء قاعدة سياسية -إسلامية ليس فقط ليبرالية بل شريحة واسعة من المتشددين والتكفيريين، وهي التي ستستمر على مساندة حزب العدالة والتنمية، ولن يكون من السهل تغيير المسار حتى ولو تكالبت عليها القوى السياسية العلمانية أو المعارضة معا، إلا بعد تدهور الوضع الاقتصادي في تركيا بشكل واضح. علما أن تركيا كدولة ستخبو هيبتها ومن المتوقع أن يحصل التراجع في السنوات القادمة، لعدة عوامل:
1- الحصار الروسي عليها، أي بما معناه معاداة روسيا وإيران لها، وستتفاقم إذ استمر الصراع.
2- تراجع الدعم الرأسمالي العالمي لها، وكما ذكرنا أن اقتصادها أزدهر استناداً على دعم الشركات الرأسمالية العالمية، وهي لا تملك ثروات داخلية مهمة، وقد بدأ يظهر التراجع في سويات الدخل القومي في السنتين الأخيريتين.
3- حربها على الكرد، وعلى العمال الكردستاني، وهي في عمقها بدايات ظهور لحرب أهلية، قد تنتقل إلى داخل المدن التركية الكبرى مستقبلا.
4- دعمها للمنظمات التكفيرية كداعش وغيرها كطريقة لمحاربة الكرد وطمس قضيتهم، وهذه ستؤدي إلى تزايد امتعاض حلف الناتو والدول الأخرى المتأثرة.
أما هبوط نجمه في العالم الغربي بدأ عندما تخطى حواجز العلاقات الاستراتيجية، على عتبة الإنجازات والتطورات الذي حصلت عليها تركيا، على خلفية انحرافه الواضح عن الاستراتيجية الليبرالية، فرغم التغاضي الأمريكي عن مساعداته المباشرة والفاضحة للمنظمات التكفيرية كداعش، لكنه يتمادى ويستند عليهم في تكتيكات تركيا ضمن المنطقة، وهو بهذا يدعم ويقوي المنهج الراديكالي الإسلامي مع البعد القومي التركي، رغم محاولاته بالتغطية على هذه التجاوزات، بإصدار قوانين علمانية حضارية في تركيا، مشابهة للموجودة في الدساتير الأوروبية والمتعارضة بمطلقها مع الإسلام، كالدعم على شرعية بيع الخمر في تركيا، ومساندته لحقوق المثليين في تركيا، وغيرها من القوانين المتضاربة مع الشريعة الإسلامية، مع ذلك فالتجاوزات للاستراتيجية الأمريكية الليبرالية، ستكون على الأغلب من أحد الأسباب المؤدية إلى أفول نجمه مستقبلا. وفي الحقيقة انحراف أردوغان عن المسيرة أكد على خطأ الاستراتيجية الأمريكية، باستنادها على النهج الإسلامي الليبرالي التركي للوقوف في وجه الإسلام المتطرف، والتخلي عن الواقعية في التعامل مع العالم كقوة عظمى عسكرية اقتصادية مهيمنة، وبها تبينت على أنه لا يمكن الوثوق بأية قوة إسلامية للحد من إرهاب الإسلام المتطرف، أو تغيير منهجهم، وهنا تتناسى المراكز الاستراتيجية الأمريكية حقيقة صارخة، وهي أن معظم المنظمات التكفيرية تنبع من العالم الإسلامي بكليته ولا حدود واضحة بين من يخلقها ومن يمدها بالجهاديين والتكفيريين.
ودعم أردوغان وحزب العدالة والتنمية مع تهميش الكرد كشعب وحركتهم السياسية، وقضيتهم كمطلب ديمقراطي ليبرالي في تركيا وكلية كردستان من الأخطاء الكبرى التي ستدفع ثمنها شعوب المنطقة وأمريكا كدولة عظمى، وأردوغان كزعيم تركي سياسي متفوق. وأفضل الطرق للخروج من هذه المعضلة بالنسبة لأمريكا هي بدفع أردوغان وحزبه إلى العودة إلى مسيرة السلام مع الكرد وحل قضيتهم بما تتلاءم وطموحاتهم، وعلى الولايات المتحدة دعمها ويجب أن تبدأ باعتراف سياسي ودبلوماسي بالكرد وحركتهم ضمن تركيا وكلية كردستان، دونها لن ترى استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية الليبرالية النجاح في الشرق الأوسط. والغريب، رغم كل ذلك، لا تزال أمريكا تعول على تركيا، في إنجاح استراتيجيتها، والتي تستغلها تركيا وبقوة أمام الصمت الأمريكي، وستؤدي إلى تدمير المنطقة الكردية وتهجير ما تبقى من الكرد، وهي غاية أردوغان والمعارضة العروبية الإسلامية، وهو فشل أخر سيضاف إلى جملة تراجعات أمريكا، وبها سيسجل الكرد في صفحات تاريخهم خدعة دولية أخرى تضاف إلى السجلات التاريخية المتعددة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
1/8/2016