Dr. welat . H. Muhammad
قبل أيام أعلن عن نشوء ( أو إنشاء ) حزب كوردي جديد في غرب كوردستان، الأمر الذي أثار من جديد السؤال الذي يطرحه – منذ ثلاثة عقود على الأقل – الكوردي البسيط والمثقف، السياسي وغير السياسي، بخصوص هذا التوالد غير الطبيعي لتلك الأحزاب مقارنة بعدد الكورد الذين تمثلهم .
لمحاولة فهم بعض مسببات هذه الظاهرة لا بد أن نتذكر أن تاريخ حدوث أول انشقاق في أول حزب كوردي في غرب كوردستان يعود إلى عام 1965 م، إذ لم يصمد (الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا – البارتي) سوى ثماني سنوات من تاريخ نشوئه، حتى أصيبب بالشرخ الأول في جسمه الغض، متأثراً بما أصاب الحزب الديمقراطي الكوردستاني – العراق قبل ذلك بسنة واحدة فقط. ومذاك والتكاثر والتوليد مستمران حتى يومنا هذا.
يمكن تقسيم أسباب هذه الظاهرة إلى ثلاثة: منها فردية تخص الشخصية الكوردية، ومنها موضوعية تتعلق بممارسات النظام، ومنها ذاتية ترتبط بالبنية التأسيسية لتلك الأحزاب وممارساتها وارتباطاتها. وهذه الأسباب لم تعمل منفصلة بعضها عن بعض، بل تكاملت وتناغمت وتفاعلت باستمرار، فنتج بعضها عن بعض، وساعد بعضها بعضاً، واستغل بعضها بعضها الآخر حتى كانت هذه النتيجة.
الكوردي بطبعه عنيد، وربما كانت هذه الطبيعة السبب الرئيس في حمايته من محاولات المحو والإزالة التي مارسها أعداؤه في حقه على مدى قرون. ولأنه كذلك فهو لا يتحمل الانقياد (وخصوصا من طرف الشقيق )، بل يميل إلى القيادة، إلى الموقع الأول. ولذلك لا يستطيع القيادي في الممارسة الحزبية أن يستمر تحت قيادة الآخر لسنوات طويلة، فيبدأ في التفكير في أن يكون القائد الأول. وإذا نظرنا في طبيعة الأحزاب في غرب كوردستان سنجد أن الكثرة الكاثرة منها نشأت نتيجة حالات انشقاق عن أحزاب أخرى، وأن قليلاً منها نشأ من ذاته. وهذا يفسر حالة ذهنية التمرد التي أشرنا إليها.
هذه الطبيعة للشخصية السياسية الكوردية تناغمت (وربما هي سبب في الوقت نفسه) مع البنية التنظيمية لتلك الأحزاب التي لم تستطع أن تؤسس لحالة قائمة على المؤسساتية وفصل المهام، وبالتالي لحالة ديمقراطية أساسها تكافؤ الفرص أمام جميع أعضائها، وفتح المجال أمام الطامحين لتولي القيادة، وتحقيق طموحاتهم السياسية داخل أحزابهم، وضخ روح جديدة وأفكار جديدة في أدبياتها (بغض النظر عن جدواها أو صحتها).
عدم وجود كل ذلك سمح بتشكل تكتلات داخل الحزب، وفساد ناتج عن استمرار سياسة ” كلٌ في مكانه” لسنوات طويلة، الأمر الذي أدى إلى تململ قيادات وتمردها، وبالنتيجة إنشاء أحزاب جديدة، ليس لأنها أكثر كفاءة أو ديمقراطية أو إبداعاً من القيادة القائمة، بل نتيجة لغياب الطرق الديمقراطية التي تحقق لها طموحها (وهذا من حقها) في تولي القيادة. وربما – إذا أحسنا الظن – لأن بعضها كان يظن أنه يستطيع أن يقدم للحركة الكوردية ما لم يستطع نظيره، مدفوعاً بتعاليه وغروره وثقته الزائدة بـ(قدراته)، في مقابل استخفافه بعمل منافسه وقدراته المتواضعة التي لا تؤهله (كما يرى) لأن يكون في موقعه القيادي. وربما نستطيع أن نضيف أن الكوردي – في مئة سنة الأخيرة – لم يجد نفسه قائدا لدولة أو لشعب على المستوى الرسمي، لذلك ظل يشعر بالتوق إلى تولي القيادة حتى لو كان على مجموعة صغيرة.
ثمة عامل آخر مرتبط بالحالة التنظيمية تتمثل في ارتباط الحزب الكوردي في غرب كوردستان بأحد أشقائه في إحدى جهاتها الأخرى. هذه الحالة لعبت دوراً ما في حدوث انشقاق في أحد تلك الأحزاب حيناً، أو في نشوء حزب جديد يتبع الشقيق الأكبر في جغرافيته الأكبر حيناً آخر. وهذا ما أحدث شروخاً وتناقضات بين الأحزاب القائمة تبعاً لحالة الاختلاف الناشب بين الأحزاب التي ترتبط بها. وهي حالة ما زال الكوردي في جغرافيته الأصغر يدفع ضريبتها حتى اليوم.
طبيعة الشخصية العنيدة الطامحة للقيادة، وغياب الطرق الديمقراطية لتحقيق ذلك سهّلا مهمة النظام ليلعب (من خلف الستار) دوره المهم في إحداث شرخ وراء شرخ في صفوف الحركة الكوردية، من خلال التشجيع (غير المباشر طبعاً) لمن يريد أن يكوّن حزباً جديداً، أو لمن يريد أن يترك حزبه ليعلن حزبه الخاص. وبالنتيجة بتنا أمام ثلاثة أحزاب وأحياناً أربعة بالاسم ذاته والبرنامج ذاته (وهي ظاهرة فريدة من نوعها في العالم في عملية تكوين الأحزاب)، وبات اسم القائد (المختلف لحسن الحظ) العلامة الوحيدة التي يميز بها أعضاء الحزب والناس عموماً بين تلك التشكيلات. ومن هذه النقطة تحديداً برز مصطلح (جناح فلان) للتمييز بين الأحزاب التي تحمل ذات الاسم. وقد كثرت الأجنحة أحياناً حتى غدا الطائر الحزبي غير قادر على التحليق.
إذا كانت هذه الأحزاب قد نشأت للأسباب المذكورة (وربما لغيرها) وفي ظروف معينة أساسها وجود نظام أمني قوي يمنع العمل السياسي، ما جعل دورها ضعيفاً لحد العطالة في بعض الأحيان خلال العقود الماضية، فإن الظروف قد تغيرت اليوم، وباتت المهام جساماً وتحتاج إلى جهود كبيرة ومضنية، وعقول تؤمن بالمؤسساتية منهجاً للعمل. وهذا يتطلب وجود أحزاب كبرى تتصدى لتحديات المرحلة القادمة. أما الأحزاب الصغيرة – ومعظمها كذلك – التي كانت تعتاش من هنا وهناك فلن يكون لها وجود يُذكر. وبناء عليه إذا أرادت هذه الأحزاب أن يكون لها حضور فعّال في المرحلة القادمة فعليها أن تندمج في أحزاب كبرى كما فعلت تلك التي أنشأت ما سمي (الحزب الديمقراطي الكوردستاني – سوريا)، خصوصاً أن الفوارق بين برامج الأحزاب القائمة تكاد تكون معدومة، وأنها جميعاً مع وحدة.
السؤال المهم الآن: هل ستدرك تلك الأحزاب ألا مستقبل لها بصيغتها الحالية؟. وهل ستدفعها هذه القناعة إلى التجمع في أربعة أو خمسة أحزاب كبيرة وفاعلة وذات وزن، وقادرة على خوض حراك سياسي حقيقي ومنتج، وتنافسٍ نديّ أساسه برامج مختلفة (فعلاً) تقدمها أحزاب تجعلنا نحفظ أسماءها أكثر من أسماء قادتها ؟؟. إن ذلك يحتاج إلى إرادة صادقة ومخلصة، أساسها نكران الذات والعمل من أجل المصلحة العامة. وإذا تحقق هذا فسيتطلب بالضرورة وضع أنظمة داخلية جديدة تنسجم مع روح العصر ومتطلبات المرحلة، ويجد فيها كل عضو فرصته ودوره وقيمته لتسد الطريق – بالتالي – أمام حالات التمرد والانشقاق من جديد. وخصوصاً إذا كانت هذه الأحزاب الجديدة مزاجاً من خبرة الكبار وحيوية الشباب وثقافتهم وأفكارهم وطموحاتهم.
الميلاد الذي لا أستطيع أن أقول له (مبروك) هو ميلاد حزب كوردي جديد قبل أن أرى عمله، أما إذا كان اندماجا وتوحداً من الأحزاب الموجودة فسأبارك لها سعيها ولو اختلفتُ مع برامجها. فهل يفعلون …؟؟؟.