شـــــريف علي
تركيا و رغم العلمانية التي تبنتها منذ تعريف ذاتها كجمهورية في عشرينيات القرن الماضي، إلا انها بقيت متمسكة بقناع الدين الذي اعتبرته الاطار الجامع للغالبية العظمى من السكان ممن حدد جغرافيتهم بحدود الدولة التركية بغية الحفاظ على ما تبقى من إرث الإمبراطورية الاستعمارية العثمانية التي تأسست أصلا بنصلة سيف الإسلام في الوقت الذي غزت فيه البلدان الإسلامية قبل غير الإسلامية ، و تتابع السياسة الإستعمارية ذاتها تجاه الشعب الكوردي تحديدا الذي تمكن من إفشال مجمل ما اتبعتها الحكومات الأتاتوركية من الأساليب لإخضاعه وصهره في البوتقة التركية لطمس معالم هويته القومية ،وجعل جغرافية ترابه جزءا من كيان الإرث العثماني المفتقر أساسا لأسس الدولة الوطنية القادرة على إحتواء كل من يعيش ضمن حدودها وفق قوانين ومواد دستورية تضمن حرية الجميع وحقوقهم المشروعة .
السياسة التركية هذه لم تقف عند الجزء الكوردستاني الذي أحتفظت به كمستعمرة كل ما فيها وما عليها مباح وبشتى السبل الممكنة، بل امتدت بأطماعها التوسعية إلى كل من كوردستان الجنوبية والغربية بمبررات ذهنية المهزوم الذي يستذكر بتبعية هذين الجزأين في وقت ما للإمبراطورية العثمانية من جهة،و رهاب قيام دولة كوردية تشكل العمق الاستراتيجي للجزء الكوردستاني الملحق بالدولة التركية بالنظر لما يمثله كوردستان الجنوبية تحديدا كمعقل النهوض القومي الكوردي والعمود الفقري للحركة التحررية الكوردية ،بالنظر الى المراحل المتقدمة التي وصلت إليها في إطار بناء الدولة الوطنية المعاصرة .
على ضوء النظرة التركية هذه للشعب الكوردي والقضية الكوردية فإن أنقرة لم تفوت أية فرصة إن لوحدها أو بالتنسيق مع بقية عواصم الطوق الغاصب في التصدي لأي نهوض قومي كوردي أينما كان و بشتى الوسائل بما فيها العسكرية، وما هو قائم اليوم،ومنذ فجر العشرين من شهر نوفمبر تشرين الثاني المنصرم سوى التأكيد على السياسة التركية تلك حيث بدأت المقاتلات والمسيرات والمدفعية التركية بقصف القرى والبلدات الكوردستانية في جنوب وغرب كوردستان بالتزامن مع القصف المدفعي الايراني على كوردستان الجنوبية والذريعة هي ذاتها ملاحقة – المعارضة الإرهابيين – وكأنه لا معارضة لكلا النظامين سوى الكورد .
من الطبيعي أن مثل هذه الاعتداءات المتكررة تتم وفق آليات زمانية ومكانية محددة من جانب المعتدي، وإن كانت الاهداف المكانية واضحة للعيان فإن توقيت العدوان التركي ينم عن دلالات أرادت منها تركيا أن لم يكن حافزا دوليا وإقليميا لعمليتها العدوانية، يكون ضمان صمت اللاعبين على الساحة السورية كحد أدنى وهو ما سعت تركيا إلى توفيره في سياق عدوانها الأخير على الشعب الكوردي من خلال التوقيت الذي اختارته لعدوانها في ظل إمتلاكها لحزمة أوراق على الصعيدين الاقليمي والدولي.
إذ تجد روسيا التي تجمعهما سوتشي ،و الغارقة في الوحل الأوكراني من جهة والسوري من جهة، وتبحث عن كل ما يمكن أن يخفف العبء عنها لمواجهة أزم اتها الخانقة،في الموقع الذي لا يمكن لها ان تقف في وجه عمليتها العسكرية بشكل جاد حتى وإن كان بمقايضات مناطق نفوذ خاصة إذا شمل ذلك مناطق خاضعة للنفوذ الأمريكي، وهي أي روسيا التي تأخذ بعين الإعتبار الدور الإيجابي لتركيا بالنسبة لها في الحرب الأوكرانية من حيث كونها بوابة خارجية من وجهة النظر الروسية ،إلى جانب التفاهمات التي حصلت بين الطرفين في الآونة الأخيرة بشأن ما حصل في مناطق سيطرة الفصائل الموالية لتركيا وما يمكن أن توفره أية عملية عسكرية تركية من ضغط على إدارة ب ي د التي باتت تحت الوصاية الأمريكية للعودة إلى دمشق ، و في الجانب الأمريكي التي تجمعها معها وبثقل مميز مظلة الناتو لم تتردد تركيا في إستغلال المرحلة الحرجة التي يمر بها الحلف متمثلا بالقيادة الأمريكية والبريطانية تحديدا في ثلاث قضايا ذات اهمية بالغة بالنسبة لمستقبل الحلف، محاربة الإرهاب ،مواجهة الفزو الروسي لأوكراينا ، إنضمام السويد و فنلندا إلى الحلف ، ولما يمكن لتركيا أن تلعبه من دور محوري في المسائل الثلاث كأوراق رابحة ترجح كفة التغاضي الامريكي و الأوربي عن مشاريعها العدوانية في المنطقة. أما في المنحى الإقليمي حيث الحضور الإيراني الذي انتقل إلى طور الانحدار بعد تفجر الوضع الداخلي هناك إثر اغتيال الفتاة الكوردية جينا أميني على يد عناصر ما كان يسمى بشرطة الآداب أواخر أكتوبر تشرين الأول الماضي، وتركيز ردة فعل السلطات الإيرانية باتجاه إقليم كوردستان بذريعة إيواءه للمعارضة الإيرانية، وإعادة النظر بتواجدها في الشمال السوري، بما يتقاطع مع الهدف الأساسي للعدوان التركي الذي يستهدف المشروع القومي الكوردي الذي يحمل رايته الحزب الديمقراطي الكوردستاني بزعامة الرئيس مسعود بارزاني والذي اصبح دون منازع مرجعا عالميا في مجمل السياسات الدولية ذات صلة بالشرق الأوسط . وهو الاستهداف المنسجم مع تطلعات دمشق بعودة سيطرتها العسكرية على ما تبقى من المناطق الكوردية (مركز الثروة الاقتصادية) التي تديرها ب ي د من خلال التوافقات الأمنية مع أنقرة في ظل الانهيار الاقتصادي الصارخ للعملة السورية وتردي الحالة المعيشية في سوريا إلى أدنى المستويات بما يشكل التهديد الأقوى للانهيار العملي للدولة. وإذا كانت تلك الأوراق الخارجية فإن الحزب الحاكم في تركيا – المقبلة على انتخابات برلمانية – أرادت من هذا التوقيت لتوظيف عمليتها العدوانية كورقة داخلية لتجييش الداخل التركي وإعادة ترتيب صفوفه التي تشرذمت جراء سياسة الحزب العدوانية وتدخلاتها الإقليمية والفشل الاقتصادي وما لحق به من انقسامات وتشكل أحزاب قوية منافسة له في الفترة الأخيرة، وعلى ضوء ما سبق ذكره من حيثيات توقيت العدوان التركي على إمتداد الحدود الشمالية لكوردستان الجنوبية والغربية وفي ظل استمرارية توفر المبررات المعدّة تركيا وإنتعاش بورصة الإرتزاق من جهة وتصاعد حدة الصراع الروسي-الأورو أمريكي من جهة ،فإن سلسلة الإعتداءات والتهديدات التركية تتواصل، و إن بتسميات وذرائع ممختلفة .