د. محمود عباس
مصالح وظروف إدارة البيت الأبيض الحالية، وفي هذه المرحلة، لا تسمح لتركيا باجتياح ما تبقى من جغرافية نفوذها، المنطقة الكوردية في شرق الفرات، وتكرار خطأ إدارتي أوباما وترمب.
فالتصريحات الدبلوماسية بين الطرفين، والتي بدأها أردوغان في 23 من الشهر الماضي، والردود الأمريكية الهشة من عدة محاور إلى أن ختمها وزير الخارجية أنتوني بلينكن، لا تقارن بالعامل الداخلي الأمريكي الكارثي المتعارض مع المتطلبات التركية، وحيث التضخم المتصاعد والمؤدي إلى تراجع شعبية إدارة بايدن والحزب الديمقراطي، والمؤدي إلى تكثيف الحزب الجمهوري لانتقاداته، مع بحث دائم عن علل إضافية يطعن بها الحزب الديمقراطي.
وبالتالي فمن غير المتوقع أن تجازف هذه الإدارة، بإضافة أزمة أخرى إلى ما تعانيه، خاصة وهي تواجه إشكاليات إستراتيجية، كالصراع المحتدم بينها وبين روسيا وخلافاتها مع الصين، وورقة السلاح النووي الإيراني وغيرها. فالسماح لتركيا، تعني تعريض أمن الشعب الأمريكي والأوربي إلى الخطر، أي أنها، في المنطق العسكري-السياسي، تتخلى عن منطقة الأداة التي تستخدمها في محاربة داعش. وقد أصبح معروفا لدى القيادة الأمريكية، أن تركيا كانت عرابة داعش طوال السنوات الماضية، حسب تصريح المسؤول الأمريكي عن سوريا، ومستشار الأمن القومي، ماك كفيرك، أمام الكونغرس، فأية خطوة كهذه سترجح كفة الجمهوريين في الانتخابات القادمة، وربما خسارة مؤكدة لإدارة بايدن.
فيما إذا قررت أمريكا التخلي عن شرق الفرات، كجدلية لا نزال نراها بعيدة الاحتمال، عليها أن تجد حلا مناسبا لقادم سوريا عامة، والمنطقة الكوردية بشكل خاص ولصالح الشعب الكوردي، لتحفظ إدارة بايدن ماء وجهها أمام جماهيرها والشعب الأمريكي عامة، وتبين على أنها لا تتخلى عن حلفائها بدون سند، وبالتالي لن يضعف مركزها أمام الحزب الجمهوري مستقبلا.
تظل منطقة عفرين، وغربي الفرات عامة، الضحية التي درجت ضمن حوارات مؤتمر أستانة الأخير، المنطقة التي لم تنتبه روسيا أهميتها ومدى ما خسرته، إلا بعد حين، وتبينت ذلك عندما سمحت تركيا لخمسة عشرة منظمة، ما بين المرتزقة والتكفيريين، وجماعات تجار الحروب، وأدوات عند الطلب، بأن تنهب وتعبث فيها، وتدمر البنية الثقافية والاجتماعية والقومية الكوردية تحديداً، تقسو أو تخفف من فجورها بناء على ما تتطلبه مصالح عرابها، وبالتالي أصبحت من ضمن المعادلات التي تحاورها تركيا عليها.
منبج وتل رفعت كانتا محور الخلافات في مؤتمرهم الأخير، بينت روسيا عن رفضها لأي اجتياح تركي، لعدة أسباب، تتعلق بظروفها الجارية في حربها مع الناتو، ووجودها الإستراتيجي في سوريا، والتي هي مواجهة مباشرة لأمريكا، وهو ما دفعت بتركيا إلى تحريك أدواتها، المنظمات التكفيرية السورية المسلحة، لإثارة الفوضى ما بين منطقتي إدلب وعفرين.
سمحت لهيئة تحرير الشام بالهجوم على المناطق المتاخمة لتل رفعت والمنبج، كمحاولة لتبرئة موقفها من الانتقادات الروسية حول سلاح المنظمة المنضوية تحت قائمة الإرهاب، على أنها تقع خارج سيطرتها، وتتحرك بدون أوامرها، وأن القوة التي ترغب بالاجتياح ليست القوى المسماة بالجيش الوطني، وقد بينت عمليات الإخلاء التركي والمنظمات الأخرى من المناطق التي دخلتها عن التمثيلية الهشة، والتي لم تؤثر على الموقف الروسي الرافض للاجتياح التركي، وهو ما أدت بتركيا إلى إعادة الهيئة إلى مناطقها الأولية مع إصدار بيانات فضفاضة.
بعد المؤتمر السادس عشر لمؤتمرات أستانة، والتي تعهدت فيها تركيا على سحب الأسلحة الثقيلة من يد هيئة تحرير الشام، مقابل احتلالها لعفرين، ولأسباب تتعلق بأمنها الداخلي، واحتمالية حدوث موجات أخرى من المهاجرين، وغيرها من الإشكاليات، لم تنفذ وعدها، وهو ما أدى إلى أمتعاض روسيا طوال السنتين الماضيين، انتهت برفض مدعوم من إيران في مؤتمرهم الأخير، السماح لتركيا باجتياح تل رفعت ومنبج، إلى جانب أسباب أخرى تتعلق بطموحها في السيطرة على كلية سوريا من خلال إعادة سلطة النظام، وقد كانت تلك طعنة في تقديرات تركيا لخدماتها الدبلوماسية حول الحرب الأوكرانية، والتي تعرضها كمنة سياسية.
الخلاف الروسي – التركي في مؤتمر أستانة الثامن عشر، دفع بالمبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف في الأربعاء الماضي على القول بإن روسيا تعتبر عملية تركيا العسكرية المحتملة في سوريا عملا غير حكيم لأنها قد تتسبب في تصعيد الوضع وزعزعة الاستقرار، وأضاف، كنوع من التهديد على أن «العملية التركية المرتقبة لن تحل أي مشكلات وإنما ستخلق تهديدات جديدة لأمن تركيا». مع توضيح ربما أرعبت تركيا أكثر من أي تصريح أخر، ليس من الكورد بل من الاحتمالات المتوقعة في حال تجاوزها الموقف الروسي، عندما قال وفي حديث لوكالة “نوفوستي” «قد تدفع الأكراد نحو إقامة دولة، وسيكون لذلك عواقب بعيدة المدى على دول الجوار». ” قلنا لزملائنا الأتراك إن هذا قد يؤدي إلى زيادة المشاعر الانفصالية بين الأكراد وتحفيزهم على إقامة دولة، وهذا ليس في مصلحة سوريا، أو تركيا، أو إيران، أو العراق”
وهو ما أدى إلى تخفيف تركيا لتكرار حجتها الدائمة، عليها أن تحتل شمال سوريا لأن واشنطن وموسكو نقضتا وعودهما بدفع وحدات حماية الشعب الكردية مسافة 30 كيلومترا بعيدا عن الحدود التركية. وإن الهجمات من المناطق التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب في سوريا قد زادت.
من المرجح أن ما قاله لافرنتييف في مستهل محادثات ””””أستانا”””” بشأن سوريا، على إن المشاركين في المحادثات سيناقشون الوضع “على الأرض” تغطية على احتمال الاتفاق على خطة بديلة، وهي إحلال النظام وروسيا مكان قوات قسد، في منطقتي تل رفعت والمنبج، وبالتالي تكون قد حصلت تركيا على ما ترغبه، وتمكنت روسيا من جهة أخرى، بالحد من التوقعات الأمريكية على أن روسيا ستنسحب جزئيا من سوريا، ومن محاولة أمريكا التمدد نحو منطقة عفرين، وطرد المنظمات المعارضة المدرجة ضمن قائمة الإرهاب، عند الدولتين، والتي هي تحت الرعاية التركية، الإشكالية التي لم تعد تستطيع إنقاذ ذاتها منه.
رغم ما بلغته الحوارات بين القوى المعنية بالأمر، والمؤدي ربما إلى تأجيل تركيا لمخططها إلى حين، أو العمل على عرض مخطط مغاير، قد يتم فيه التركيز على منبج وكوباني، بعدما تقوم بتقديم خدمات أكثر للطرفين، حول الحرب الأوكرانية، تكون كافية لإقناعهما بعدم الاعتراض على اجتياح المنطقتين المذكورتين في هذه المرحلة، ولكن ما يظهر حتى الأن، ومن خلال دراسة استراتيجية روسيا وأمريكا في الشرق الأوسط، وسوريا تحديدا، وطموحاتهما، يرجح استمرارية الرفض لمرحلة طويلة إن لم يكن بشكل كلي، والأكثر توقعا في المستقبل القريب، أن تطلب روسيا من تركيا سحب قواتها من سوريا.
من المؤلم معرفة الحقيقة التالية وعدم التمكن من وضع حل لها، وهي أنه، ليست الشعوب السورية، وخاصة الكورد والعرب، هم الذين لا يصلون إلى اتفاق، بل الدول المذكورة، المسماة بالراعية للقضية، والتي لولا مصالحهم وتدخلاتهم لكان من السهل حل الخلافات بين المعارضة الوطنية والحراك الكوردي، ولتمكنوا من خلق جبهة وطنية بإمكانها إسقاط النظام بسهولة.
لكن مصالح الدول المذكورة دفعتها لعقد ثمانية عشرة مؤتمرا حتى الأن، تسمى بين الشعب السوري بمؤتمرات تجار الصفقات، أو ناهبي سوريا، والطامحين لتجزئتها، ومن أحد أهم نقاط التقاطع بينهم، ألا يتم اتفاق كوردي عربي.
ولتعميق الصراع بين الطرفين، تقوم تركيا وإيران بنقل الخلافات بين طرفي القوى السياسية، إلى خلق العداوة بين الشعبين، من خلال، إقامة المشاريع الكارثية في المنطقة الكوردية، وتشكيلهم لمنظمات عنصرية، تحت أغطية متنوعة، تكفيرية إسلامية عروبية، أو قومية عروبية عنصرية، بقيادات تركمانية أو فارسية، أو من البعثيين السابقين، ودفعهم على نشر الكراهية تجاه الكورد وقضيتهم، كتعميق مفهوم تكفير الكورد، وعلى أن الطموح الكوردي مشابه لدولة إسرائيل اليهودية، بعدما جعلوا من وجود إسرائيل جريمة بحق الإله، متناسين النصوص الإلهية، ومضامينها عن التاريخ. إلى أن أصبح التعامل مع الكورد شبه كفر، والتحاور على المطالب القومية خيانة وطنية، خاصة من قبل الأدوات التي خلقوها لمصالحهم، والمسماة جدلا بالمعارضة، ومن بينها المنظمات العابثة في عفرين وإدلب، والجيش الوطني، والحكومة المؤقتة، والإتلاف، والقوى الأخرى العاملة تحت خيمتهم، وجلهم على مقاس النظام الأسدي الإجرامي.
الولايات المتحدة الأمريكية
23/6/2022م