صبري رسول*
تعرّضَ الكُرد خلال مئة عامٍ مضت لكثير من الحملات الظّالمة استهدفت وجوده، وحقوقه، وثقافته، وكانت بعض تلك الحملات عنيفة جداً إلى درجة استخدام الأسلحة الكيماوية والإبادة الجماعية، رافقتها حملة إعلامية تحريضية لتشويه صورة الكُرد لدى الشّعوب المجاورة والمتعايشة معه. ناهيك عن تجاهلهم في المناهج التّعليمية، وممارسة سياساتٍ لتذويبهم والقضاء عليهم.
«إذ ليس في غرب آسيا جغرافيا تعرضت للتّشويه مثل جغرافية كردستان، ولا يوجد تاريخ شعب أصبح عرضة للتّحريف والتّعتيم والتّغييب مثل تاريخ الشّعب الكُردي، وكانت النّتيجة أنّ الأجيال العربية خاصة، وشعوب غربي آسيا عامة ، تعرف معلومات وافرة عن كثير من الشعوب والبلدان في هذا العالم، أما عن كردستان والشعب الكردي فلا تعرف شيئا في أحيان كثيرة، أو ثمة القليل في أحسن الأحوال، بل حتى ذلك القليل لم ينج من التّشويه والتّحريف» .
لكن من الصّعب نسيان أو إمحاء تاريخهم الحافل بالأحداث، لأنّ «الأكراد أحد أقدم شعوب الشّرقين الأوسط والأدني، فقد تركوا أثراً ملحوظاً في تاريخ المنطقة، وشاركوا تقريباً في أهم أحداث الماضي. وبما أنّ لديهم ثقافة أصلية فقد ساهموا مساهمة كبيرة في التّطور الروحي لشعوب تركيا وإيران والبلدان العربية»( ).
والتَّاريخ الحقيقي يفنّدُ كثيراً من المواقف المشوّهة التي اتخذتها اتجاهات شوفينية من المتشددين الترك والعرب التي تتنكّر لمساهمة الشَّعب الكردي في محطات مفصلية من تاريخ المنطقة، والمساهمة في بنائها وازدهارها، فكانت تنتشر ممالك كردية عديدة على مساحات هائلة من جغرافية المنطقة، وبقيت مستمرة حتى في العهد العثماني، «ففي عام (1515م) قام العلامة إدريس، بعد تفويضه من قبل السّلطان العثماني، بعقد اتفاقية مع الأمراء الكرد، يتضمن اعتراف الدّولة العثمانية بسيادة تلك الإمارات على كردستان وبقاء الحكم الوراثي فيها ومساندة الأستانة لها عند تعرضها للغزو أو الاعتداء مقابل أن تدفع الإمارات الكردية رسومات سنوية كرمز لتبعيتها للدّولة العثمانية» .
تقسيم كردستان:
جاء التّقسيم الأول لبلاد الكُرد المعروفة بـ«كردستان 435 ألفكم2» بين الإمبراطورية العثمانية والدّولة الصَّفوية وفقاً لاتفاقية جالديران 1514م، التهمَت الدَّولةُ العثمانية المنتصرةُ عراقَ العرب، وعراقَ العجم وإقليم الجبال الذي يتضمن المناطق الجبلية الكردية والفارسية والآذرية، وبذلك خضعَت غالبية أراضي الكُرد «311 ألف كم2» تحت النفوذ الدّولة العثمانية التي نهبت تاريخهم وثقافتهم كباقي بلاد العرب وغيرهم، وبقيت أجزاء أخرى من بلاد الكرد أكثر من 125 كم2 تحت النفوذ الصّفويين.
قبل أن نوضّح جذور المشكلة الكردية في العصر الحديث، لنُلْقِ نظرة سريعة على وضع الكرد في ظل العهد الإسلامي. فقد أسّس الكردُ إماراتٍ ودولاً كثيرة، مستقلة، وشبه مستقلة، امتدت لفترات طويلة، وشملت مناطق واسعة من الجغرافية الكردستانية، كالدّولة الرّوادية والدّوستكية، وجغرافية غير كردستانية كحال الدّولة الأيوبية في مصر والشّام. لن نستطيع في مقال كهذا أن نقف على أهميتها وتاريخها وقوتها، وعوامل انهيارها، سنكتفي بذكر بعضها:
الحكومات الكردية في العهد الإسلامي( ).
(1)الحكومة الروادية (230 – 618 هـ)
(2) الحكومةالسالارية بآذربيجان (300 – 420 ھ)
(3) الحكومة الحسنوية البرزكانية (330 – 405 ه) بهمذان.
(4) الحكومة الشّدادية بأران (340-465ه)
(5) الحكومة الدّوستكية المروانية بديار بكر (350 – 380 – 476 هـ)
(6) الحكومات الأيوبية بمصر والشّام (567 – 685 – 950)
(7) الحكومة الأردلانية بايران (617 – 1284)
الحكومة الملكية الكردية بخراسان (143 – 785)
كان التّقسيم الأول نتيجة الاصطدام بين الدّولة العثمانية الصّاعدة والدّولة الصّفوية الذي هزّ المنطقة كلّها وغيّر الجغرافية السّياسية لشعوبها، وتمّ تقسيم المنطقة بينهما بتسوية تتناسب قوة كلّ منها.
استمر الوضعُ بضعة قرون على ذلك التَّقسيم الأليم، حتى الحرب العالمية الأولى عندما بدأت الإمبراطورية العثمانية تنهار، وتتساقط منها الأقاليم، وازدادت أطماع المنتصرين في الحرب لنهش الجسم المريض المتهاوي، فتقاسمت فرنسا وبريطانيا بقايا وجودها في المنطقة خاصّة في (سوريا والعراق) في اتفاقية «سايكس بيكو» التي جزّأت بلادَ الكُرد «وكان ذلك التّقسيم الثّاني لكردستان»، فأُلحِقَ جزءٌ منها يُقدّر بـ 72 ألف كم2 بالعراق (تحت الانتداب البريطاني) ووجزء آخر يُقدّر بـ 40 ألف كم2 بسوريا (تحت الانتداب الفرنسي) وبقي الجزء الأكبر تحت سيطرة الدّولة التّركية 194كم2 واحتفظت إيران بـ124كم2 فكان هذا التقسيم الرّباعي أحد العوامل الأكثر شدة في تعقيد القضية الكردية في العصر الحديث، وزاد في التعقيد شراسةً الصّراعاتُ السّياسية بين أنظمة هذه الدّول والحروب التي لم تتوقف بعد.
ورغم بعض التّوصيات والمطالبات الدّولية خلال فترة الانهيار العثماني ونهب أراضيها من قبل القوى العظمى كفرنسا وبريطانيا التي رجّحت مصالحها على حساب حلّ القضية الكردية، فقد قّدم عضو الوفد الأميركي في مؤتمر باريس البروفسور ألبرت ليبي مذكرة تضمنت مقترحات لحلّ المسألة الكردية: »أنه يجب منح الأكراد المنطقة الجغرافية الطّبيعية بين أرمينيا المقترحة في الشّمال، وميسوبوتاميا في الجنوب، وبين الفرات ودجلة، على الحدود الغربية وبين الحدود الفارسية من الشرق ويجوز منح هذه الأراضي الواقعة تحت حكم انتدابي صارم، الإدارة الذّاتية لإعدادها للاستقلال أو لاتحاد فدرالي مع جارتها على أساس اتحاد له إدارة ذاتية واسعة»11
معاهدة سان ريمو، التي كان الموضوع الكردي أحد المواضيع المطروحة فيها للمناقشة، مهّدت الأرضية لاتفاقية سيفر التي أقرّت حقوق الكرد في دولة مستقلة ببنود 62 و62 و64 لكن مصالح بعض الدّول حالت دون تنفيذ الاتفاق وتجاهلت معاهدةُ لوزان تلك الحقوق التي اختفت تحت جنازير الدَّبابات وفوّهات المدافع الكمالية.
الثّورات والحركات الكردية:
اقتنع الشّعب الكردي بأنّ الإخوةَ في التّاريخ والجغرافية والجوار، الإخوة في الدّين، قد طعنوه من الظّهر، فلم يجد الكُردُ أمامهم إلا القيام بالثّورات في وسط سياسي شديد التّعقيد، ردّاً تعبيرياً على اتفاقية لوزان، كثورة الشّيخ سعيد بيران 1925، ثورة جبل أرارات مركزها آكري عام 1927- 1930 وثورة درسيم 1937.
وفي إيران أعلن الكُرد جمهورية مستقلة (جمهورية مهاباد) في الجزء الملحق بالدّولة الإيرانية 1946، لكنها لم تستمر سوى سنة واحدة، فقد تخلّى السّوفيت عنها فسحقَتْها القوات الإيرانية واستمرَّ العمل السّياسي حتى 1973 حيث اعتمد المؤتمر الثَّالث للحزب الدّيمقراطي الكردستاني بقيادة الدّكتور عبدالرحمن قاسملو عام 1973 الشّعار «الديمقراطية لإيران، والاستقلال الذاتي لكردستان»، واللجوء إلى العمل العسكري لتحقيق الهدف. اندلعت الثّورة الكرُدية عام 1967 في إيران في مارس 1967، لتحقيق استقلال ذاتي للكُرد في كردستان إيران، في إطار جمهورية فدرالية.
لجأ الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى القتال المفتوح مرة أخرى بين عامي 1989 و 1996 حيث حدثت انتفاضة من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني في كردستان الإيرانية، بسبب اغتيال زعيمه المنفي قاسملو في يوليو 1989، ويتميّز النّظام السّياسي هناك باستخدام العنف الدّموي ضد معارضيه.
أما في العراق: لم يهدأ الوضع الكردي فيه، فقامت ثورة أيلول وهو صراع مسلح شهده إقليم كردستان مابين عامي 1961 – 1970، وثورة البارزاني الثاني 1974-1975، والانتفاضة الشّاملة بعد هزيمة العراق في الكويت 1991، وشكّل الكُرد برلماناً وحكومة في أربيل بعد فرض الحظر الجوي على شمال خط 36 واستمرّ حتى إسقاط النّظام بعد التدخل العسكري الأميريكي فيه.
بما أنّ الشّعب الكردي توزع بين أربع دول ذات أنظمة سياسية واجتماعية مختلفة، منها من تنكّر لوجوده وحقوقه، ومنها من استخدم العنف المفرط في القمع والتّنكيل به، كالأسلحة الكيمياوية في حلبجة وخورمال، لم يجد الكُرد بدّاً سوى اللجوء إلى تنظيم قواه الحية في أحزابٍ تقود النّضال السّياسي، فمحاولة الكُرد للنّهوض سياسياً اصطدم بتعنُّت الأنظمة، فبرزت القضية الكُردية كأحد القضايا الجوهرية في الشّرق الأوسط، لاتّساعها الجغرافي وشمولها أربع خرائط قلقة، ولتعداد سكانها الهائل، من هنا «اكتسبت القضية الكردية في وقتنا أهمية كبيرة ، ويتلخص جوهرها في التّناقض بين المستوى الرفيع لوعي الأكراد، الذي يتجلى في نضال بطولي عنيد في سبيل حق تقرير المصير ، وبين رفض السّلطات الحاكمة في الدول التي تقتسم كردستان، الاعتراف بحقوق الشّعب الكردي المشروعة. وحسب إحصائيات تقديرية، يعيش حاليا حوالي عشرين مليون كردي( ) في الشّرق الأوسط، منهم عشرة ملايين في تركيا، وستة ملايين في إيران ، وثلاثة ملايين في العراق ، ومليون في سوريا. ولا تؤثر القضية الكردية في الوضع السّياسي في بلدان الشّرقين الأوسط»
إن الحدود السّياسية التي رسمتها اتفاقية «سايكس بيكو» على الطّاولة لم تكن حدوداً تتناسب والتّوزع القومي لشعوب المنطقة، بل كانت تنسجم مع مصالح المنتصرين الذين نهبوا ممتلكات الرّجل المريض فتداخلت القوميات والحدود، هكذت كانت القومية الكردية مقسمةً بين دولٍ شديدة القسوة في تعاملها معهم. وجرّت على الثّوب الكُردي جراحات عديدة كارثية للشّعب وقاسية على الخرائط الجبلية المدماة، وكذلك عرقلت التّطور الطّبيعي للكُرد ولتلك الشّعوب.
الوضع الكردي في سوريا: قضية سياسية بامتياز:
بدأت القضية الكُردية في سورية تطفو على السّطح كقضية سياسية بعد تجاهل الحكومات السّورية المتعاقبة لوجودها، وإنكارها لحقوق الكُرد السّياسية، فشكّل الكُرد حزباً سياسياً عام 1957م بهدف تحرير وتوحيد كردستان، فتعامل النظام معه منذ لك الوقت بعنفٍ شديد، السّجن والنّفي والقمع. فقامت الدّولة بعدة إجراءات عملية لأنهاء الكُرد والقضاء عليهم في سوريا، منها: القيام بتجريد أكثر من 150 ألفاً كردياً من الهوية الوطنية عام سنة 1962 وفق المرسوم التّشريعيّ رقم (93) الذي كان جرحاً استنزف الشعب الكردي أكثر خمسين سنة، ونجمَ عنه انقسام الكُرد إلى ثلاث فئات:
•الكرد السّوريين الذين يملكون الجنسيّة السّورية.
• الكرد السّوريين المجرّدون من الجنسيّة السّوريّة.
• الكرد السّوريون المجرّدون من الجنسيّة وغيرُ المسجّلين في سجلات الأحوال المدنيّة الرسمية (هذه الفئة تم وصفهم بـمكتومي القيد، وهو مصطلح يشير إلى عدم وجود أيّ إشارة للشخص المشمول في السّجلات الرسميّة، ويشمل كل من ولِدَ من أب أجنبي وأم سورية، ومن ولِدَ من أب أجنبي وأم مكتومة القيد، وأيضاً من أبوين مكتومي القيد).
وكذلك الاستيلاء على أراضي الكُرد الزّراعية في منطقة الجزيرة المحاذية للحدود التّركية- العراقية، خلال ما عُرفَ سابقاً بـ«مشروع الحزام العربي»، الذي حرّم الكُرد من مصدر رزقهم، بهدف إفقار الكُرد وتهجيرهم، وثمّ توزيعها على عشائرَ عربيةٍ تمَّ استقدامُها من المحافظات الأخرى، إضافة إلى تعريب معالم المنطقة، ومنع اللّغة الكُردية من التّداول والتّعليم، ورغم ذلك كان الكًرد يطالبون بحلّ قضيتهم ضمن إطار الدّولة السّورية، فتلخّصت مطاليب الحركة الكردية في بناء حكم ديمقراطي لسوريا وتوفير الحريات السّياسية، والاعتراف الدَّستوري بحقوق الشّعب الكرُدي، كالمشاركة في الحياة السّياسية، واستخدام اللغة الكردية في التّعليم والنشر والحياة العامة، في مناطق ذات الأغلبية الكردية، وإزالة المراسيم والإجراءات العنصرية بحقهم، كالحزام والإحصاء والتّعريب القسري، والتّغيير الدّيمغرافي، فقد كانت الإجراءاتُ السّياسية التي استهدفت الوجود الكُردي، وطمسَتْه أشبهَ بعملية فتكٍ للثَّقافة الكردية، لغةً وفنّاً وفلوكلوراً وموسيقى، فرضتْ وفق إيديولوجية قومية قاتمة، لوناً واحداً في الحياة وألغت ما يخالفها في الموقف والفكر، بل أخضعَتْ بقوة العنف جميع الاتجاهات السّياسية لمنظوراتها القمعية.
هكذا كانَ الأمر حتى انفجار الثّورة السّورية المغدورة في مهدها، وقيام العاصفة التي اجتاحتْ كلّ الجغرافية السّورية. ورسمت أوضاعاً استثنائية للوطن السُّوري كلّه بعربه وكرده، ولهذا الأمر حديثٌ آخر.
[1] تاريخ الكرد في العهود الإسلامية، أحمد محمود الخليل، دار الساقي 1013 بيروت، ط1 ص22
[2] الحركة الكردية في العصر الحديث، جليلي جليلي، م.س. لازاريف. م.أ. حسرتيان. شاكرو محويان. أولغا جيغالينا. ترجمة: د. عبدي حاجي، دار أراس للطباعة والنشر. ط2 2013م.
[3] تاريخ الدول والإمارات الكردية في العهد الإسلامي، محمد أمين زكي 1937، مطبعة السعادة مصر، 1948، ص28
[4] تاريخ الدول والإمارات الكردية في العهد الإسلامي، محمد أمين زكي 1937، مطبعة السعادة مصر، 1948، ص28
[5] العدد (عشرون مليونا) إحصائية تشير إلى سنوات قبل 2000م، العدد الكلي عام 2020 أكثر من (45) مليوناً. (الملاحظة لكاتب المقال).
[6] الحركة الكردية في العصر الحديث، جليلي جليلي، م.س. لازاريف. م.أ. حسرتيان. شاكرو محويان. أولغا جيغالينا. ترجمة: د. عبدي حاجي، دار أراس للطباعة والنشر. ط2 2013م.
[7] في 23 آب/ أغسطس سنة 1962، أصدر رئيس الجمهوريّة السّوريّة، ناظم القدسي، المرسوم التّشريعيّ رقم (93)، الذي نصّ على إجراء إحصاء سكاني استثنائي في محافظة الحسكة. استندَ المرسوم إلى المرسوم التّشريعي رقم (1) والمؤرخ في 30/4/1962، وإلى القرار الصادر عن رئيس مجلس الوزراء، بشير العظمة، والمؤرخ في 22/8/1962.
——————–
*صبري رسول: ناقد وكاتب قصصي من سوريا، له خمس مجموعاتٍ مطبوعة، وعدة مخطوطات، يكتب في الصَّحاقة العربية والكُردية.
(عن مجلة ميريت الثقافية المصرية، العدد 44 أغسطس 2022)