ماجد ع محمد
في إحدى لقاءاته التلفزيونية ذَكَر الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم أنه اعتُقل في زمن سلطة جمال عبد الناصر كما سُجن في عهد السادات، بكونه لم يصبح لا بوقاً لهذا ولا غدا مدّاحاً لذاك، وبقي صاحب ضمير حي وقلم نبيل إلى أن وافته المنية عام 2013، وتجربة نجم تشير إلى أن بقاء المرء نظيفَ الكفِ والضمير ليس بالضرورة أن يكون جزاؤه الحتمي هو الشكر على موقفه وسيرته، أو أنه سيكون محط ترحيب لدى السلطات السابقة أو اللاحقة، وأن الأذى لن يطاله مِن قبل أيٍّ منهم، إنما قد يكون العكس هو الصحيح، إذ في زمن الخطاب العدواني المتطرف وفي زمن الولاءت القسرية فإن بقاء الإنسان نظيفاً غير فاسد قد لا يتلاءم مع طبيعة أهل العسف والسطوة والسلطان أياً كان انتماء ذلك الفرد؛ باعتبار أن الذي لم يتلوث في تُرع الفساد والإعوجاج والتأسن لا يمكن شراء ذمته بسهولة ولا إسكاته عما يجري أمام عيونه، لذا فقد يكون ذلك الشخص مرفوضاً لدى مختلف سلطات الجور والإكراه أكثر من الشخص الضال والعفن ومنتَهِك الحرمات والقوانين.
وبينت السنوات الماضية أن ما جرى مع الشاعر المصري حصل مع الكثير من السوريين الذين تجرعوا المرارة على يد جلاوزة النظام مثلما تجرعوها على يد الأوباش المسلطين على رقاب الناس باسم الثورة، وحيث أن النفور من أمراء الحرب في الشمال السوري أدى إلى تكرار طرح تساؤولات كثيرة في الشارع السوري المعارض عن عاقبة إزاحة جائر النظام إذا ما كان الذي سيتربع على العرش مكانه لاحقاً حاملاً نفس الصفات ومقترفاً نفس الممارسات، بما أن الأوّل محمي من قِبل أجهزة أمن النظام التي تُشرعِن كل جرائمه بحق الوطن والمواطن بدعوى حماية الدولة والشعب، والآخر سيكون محمياً من قِبل أجهزة أمن أخرى تُشرعِن كل تجاوزات الجبار الجديد بدعوى حماية مكتسبات الثورة.
إذ أن انسداد الأفق وغياب الآمال لدى الجمهور الذي انتفض في أغلب المناطق السورية ضد أجهزة أمن النظام في 2011 قد دفع أحد النشطاء إلى طرح تساؤل في محفلٍ غير رسمي بمقهى الوطن في حي أكسراي بمدينة اسطنبول التركية، جلسة كانت أقربُ إلى المكاشفة والتنفيس عن الهموم المشتركة بخصوص ما يجعل ألمع الكتاب والمفكرين وأصحاب الرأي المعروفين بمعاداتهم للطغيان وكذلك الأمر أكثر نجوم الفن من ممثلين وتشكيليين ومطربين يبتعدون في مواقفهم عن خط قوى الثورة والمعارضة يوماً تلو الآخر، علماً أن سِيَر الكثير منهم تشي بأنهم مع العدل والإنصاف وأنهم ما يزالون ضد الظلم والعدوان أينما كان وليس في سورية فحسب؟
وحيال ذلك التساؤل لم أستطع الاستمرار في الصمت مع أني بتُ أُفضله على الكلام منذ أكثر من ثلاث سنوات في هذه الديار، فقلتُ للمُستفسر: عندما تولي على الناس فئة نتنة ممن كانت في قاع المجتمع تقيم، فئة مرفوضة قيمياً وهي من أصحاب السوابق ومن مَجمَع الهوام، وبدلاً من تعريتهم أو محاسبتهم تدافِع عن انتهاكاتهم بدعوى أننا في حالة ثورة، أو التغاضي عن كل ما ارتكبوه بحق البشر والطبيعة بذريعة أن محاسبتهم سيكون له أثر سلبي على مسار الثورة، فشيء طبيعي أن تتبرأ نخبة البلد من أصحاب تلك الممارسات القميئة، بل وللعلم فحتى عامة الناس صارت تكفر بممارسات المسلطين على رقابهم.
وتابعتُ قائلاً: ولئلا يكون كلامنا محلقاً في سماء العموميات سآتيك بمثال حي وطازج، ومن المثال الذي سأورده يمكنك معرفة السبب الذي يجعل الناس تنفر من المحسوبين على الثورة كما نفرت من النظام وشبيحته مِن قبل، ومنها أن ممارسات الغوغاء في عفرين تسببت بموت والدة أول كاتب كردي سوري يدخل مجموعة غينيس للأرقام القياسية بمشروعه الذي وقعه مؤخراً في بيروت، وبذلك لم تخسروا أكاديمياً آخر فحسب إنما كسبتم مناهض آخر من وراء ممارسات الأرذال! فاستفسر آخرٌ كان بجواره قائلاً: ومَن هو هذا الشخص الذي تسبب أوباشنا بموت والدته حرقةً على منزلها الذي سطوا عليه ولم يسمحوا لها بأن تعود إليه، وبقيت تنام في قرية أخرى تبعد عن بيتها عدة كيلومترات منذ السيطرة على منطقة عفرين في عام 2018، وذلك حتى يتنعم قائد الفصيل الثوري ببيتها الذي استولى عليه فور غزوه للقرية؟ قلتُ هو الدكتور محمد وليد يوسف من قرية روطان قي منطقة عفرين التابعة لمدينة حلب، وهو صاحب مشروع سلسلة من الكتب، ويحتوي مشروعه على ستة كتب ضخمة تمت كتابتها وطباعتها وحفظها في ستة أشهر، وذلك المنجز خوله لدخول مجموعة غينس للأرقام القياسية؛ والمشروع الفكري للدكتور محمد وليد يوسف جاء تحت عنوان “نحو عقلنة التاريخ”، وذكرت الوكالة الوطنية للإعلام في لبنان بتاريخ 13 من شهر آب 2022 أن الدكتور محمد وليد يوسف “نقل علم السياسة من مجال العلوم الإنسانية والأخلاقية الى علم تطبيقي أسوة بالعلوم الرياضية والفيزيائية ووضع محاور إحداثيات الفضاء السياسي قياساً على الفضاء الهندسي التقليدي، ووضع قانون الإستقرار السياسي الأساسي وقانون الإضطراب السياسي الأساسي على هيئة معادلات رياضية وهو أمر لم يحصل في التاريخ”.
وبالعودة إلى مثال الشاعر المصري الذي ذاق المرارة على يد سلطتي عبدالناصر والسادات، فالمواطن في سوريا كذلك الأمر كما تجرع المرارة على يد أزلام النظام بنفس الوقت تجرع مثلها على يد الأوغاد المحسوبين على الثورة، وما يتعلق بمثالنا الحي هو أن شقيق الدكتور المشار إليه في الأعلى، أي أحد أبناء الحاجة نازو محمد إيبش (أم أحمد) التي ماتت قهراً على بيتها الذي استولى عليه قائد الفصيل المسيطر على قريتها، كان قد توفي هو الآخر في سجون النظام السوري والذي كان قد اعتُقل قبل سنوات بتهمة الانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين.
وجواباً على تساؤل الأخ عن السبب الذي جعل الناس تُعرض عن الثورة، فالسبب الرئيسي هو محاكاة الكثير من قادة الكتائب المسلحة في المناطق الخاضعة للنفوذ التركي سلوكيات شبيحة النظام، ولا يُخفى على متابعي المشهد السوري عن بُعد أو قُرب آلية استجلاب حزب البعث الحاكم للأدوات الآسنة من لبنان وإيران والعراق لمحاربة الشعب السوري، ولكن المؤسف حقاً هو أن الاستعانة بالأدوات الكريهة لم تقتصر على النظام وحده، إنما الجهات التي ادّعت دعم الثورة كذلك الأمر استعانت بأصحاب السوابق واللصوص في غزو المناطق الكردية والتضييق على السكان الكرد بوجهٍ عام بذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني.
على كل حال سيتضح للقارئ أننا في هذه المقالة القصيرة لم نتحدث سوى عن ضحية واحدة فقط من بين آلالاف الأشخاص من المدنيين العُزل الذين كانوا ضحايا الأدوات التي استُخدمت في منطقة عفرين، ولم نتكلم عما صنعه العمشات في ناحية شيخ الحديد بأكملها أو ما اقتُرف بحق الأهالي في العشرات من قرى المنطقة، إنما جئنا على ذكر ضحية واحدة لمعرفتنا التامة بها، وثانياً ليستشف القارئ من خلال تعامل الرُعاع حتى مع من كانوا ذا خلفية دينية صرفة في المنطقة بأن الذي تم محاربته في منطقة عفرين على مدار السنوات الماضية وفق معظم أهالي المنطقة هو الكائن الكردي على اختلاف توجهاته السياسية، وليس حزب العمال الكردستاني كما تزعم الأدوات ومن استخدمها ويستخدمها.
وفي الأخير فبإمكان قائد الفصيل ومن هم على شاكلته إطلاق العيارات النارية فرحاً بالانتصار المزعوم على حَجة في التسعين من عمرها، فلينام هجعة أهل القبور لأن الحجة نازو لن تطالبه بمنزلها من الآن فصاعداً، لأن الحجة تركته يتنعم إلى حين بمغنمه، حيث غادرت الحجة (نازو إيبش حج كبه) الدنيا وهي محرومة من رؤية ابنها المعتقل لدى أجهزة أمن النظام السوري ذلك الذي انتظرت رؤيته طويلاً بما أنها حتى آخر يوم من حياتها كانت تظن بأنه ما يزال حياً ولم يتم تصفيته من قبل جلاوزة النظام السوري، وماتت نازو بحسرة رؤية منزلها المستولى عليه من قِبل قائد فصيلٍ تم إطلاق يده في القرية ليفعل فيها ما يشاء بممتلكات الناس كما فعل عشرات القادة مثله في العشرات من القرى والبلدات، فغادرت الحجة نازو هذه الدنيا مقهورة بسبب ممارسات النظام وممارسات المحسوبين على الثورة، وفوقها رحلت وهي محرومة من رؤية اسم ابنها الأصغر وهو يدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية بناءً على مشروعه الذي وقّعه في الآونة الأخيرة في العاصمة اللبنانية بيروت.