أحمد عبدالقادر محمود
الثعلب بوتين دباً
إن عُرف من أين أتى بوتين ؟، وكيف تربع كحاكم أوحد على سدة الحكم في روسيا ؟ حينها لن يكون من الصعوبة استقرائه وإدراك مطامعه ونزعته المتفردة بالتملك كأي رجل مافيوي، هذا الرجل لاعب ماهر يمتلك ذاكرة مشبعة بالأحداث التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي .
وعليها بنى تصوراته للمكانة التي يجب أن يغدو إليها كطاغية يتلاعب بمصير الشعوب والدول، مُدركٌ جيداً أن روسيا حاملة الأرث السوفيتي ستبقى هدفاً لن تحيد عنه أمريكا و الغرب الأوربي وخاصة أنها مثقلة بالسلاح النووي المرعب الكابوس الذي يزور أحلام الأوروبيين في سعيهم لتجاوز ويلات الحروب في تمتين نظام قوامه الأمن والسلام والحياة الهادئة أو كما يتصورون ، ووفق مقولة إن هبّت رياحك فاغتنمها، انطلق بوتين ليؤسس نهج عُرف فيما بعد بالبوتينية ، ولأنه لاعب ماهر وملم بقواعد اللعبة وضع خرائط استراتيجيته وتكتيكاته أمامه فكان لا بد من البدء بتقوية الإقتصاد الروسي الضعيف قياساً لدول المجابهة، فلن يستطيع خوض أي نزال إن لم تكن مصبات المال وفيرة ولا سيما أنه يمتلك مادتها الخام (الطاقة والغاز )، نجح إلى حد الرضى منذ أن تسيد المشهد عام 2000م بدايته الحقيقية .
السياسة الخارجية سيفه البتار
الداخل المنكمش وإن كان قويا لهو ضعيف إن لم يمتلك أذرع فاعلة ومؤثرة خارجه، إذا لا بد من التمدد وإيجاد مناخ و جغرافية مناسبة لنمو هذه الأذرع التي سيعتمد عليها في التصدي لتوسع الناتو المتسارع القاضم لغالبية الدولة المنفرطة من الاتحاد السوفيتي السابق والتي تشكل طوقاً محيطا بالجغرافيا الروسيا من كل جانب كحبل أحكم برقبة المعدوم. أولى رسائله والتي أعلن فيها عن نواياه والتي لم يدرك الغرب حينها أوربما لم يلقوا لها بالاً، وهم من دأبوا على مراقبة بوتين وأمثاله في كل حركة و سكنة. ضد توسع حلف الناتو كانت في مؤتمر ميونيخ حول الأمن العالمي في العام 2007 م عندما ندد بكلمته بالعالم الأحادي القطب وسياسته، وأتبعها بعملٍ جريئ في جورجيا على أقاب ثورة الورود التي وقف خلفها تحالف الشمال الأطلسي و التي عومّت شاب مؤيد للغرب ( ساكاشفيلي ) الذي وثق جدا بوعود الناتو وعلى رأسها أمريكا وبنتيجتها خسرت جورجيا أوستيا وأبخازيا الناطقتين بالروسية لصالح دبابات بوتين التي وطأتها بسهولة ويسر، هذا هو السيناريو المكرر بحذافيره الذي تشهده اليوم أوكرانيا مع رئيسها الشاب المؤيد للغرب (زيلينسكي )، لم يتعظ الأوكرانييون سابقا وتحديداً في 2014 م عندما أطيح برئيس موال لروسيا ( يانكوفيتش ) الضمانة الروسية أتجاه التمدد الناتوي الأطلسي، ونصبوا مكانه (بوروشينكو ) الذي فتح من جديد الأفاق أمام الناتو ووضع روسيا و بوتينها من جديد أمام خطر الناتو وضرباته الأستفزازية ، إذا لتكن الضربة الأرتداية هي ضم جزيرة القرم، أوكرانيا الخط الفاصل “لأكون أولا أكون ” لبوتين ، هكذا قرأ حلف الناتو بزعامة أمريكا أفكار بوتين ، إذا لتكون أوكرانيا قطعة العسل المسمومة للدب الروسي، الدب الروسي يعي اللعبة وأفخاخها وكي يوصل المتعة لذروتها أتجه لمناصرة الطغاة الشمولييين الذين وضعهم الناتو ومعه الأتحاد الأوربي نصب أعينه، فتدخل في سوريا لصالح الأسد في 2015 م وجعله إحدى أصابع ذراعه وأرتد لليبيا في 2017 م وأضاف الخليفة حفتر إصبع أخرى إلى ذراعه وألتف إلى أفريقيا الوسطى (مالي ) المنطقة الجيو سياسية لفرنسا وشكّل من تواديرا إصبع أيضا لذراعه في 2019 م ثم قفز إلى أذربيجان في صراعها مع أرمينيا على ناغورني كرباغ وثبّت ألفين من الجنود الروس مع معداتهم كأصبع في العام 2020 م . كل هذا وعينه لم تغب عن قفة العسل (أوكرانيا) ولا يرمش لها جفنه. الناتو ضجر من أفخاخه (أصابعه) التي ذرعها هنا وهناك في طريقه، إذا لا بد من جعله يلتهم العسل المسموم لمعاقبته، لقد أحدث خراباً بدبيه هذا ولإيقافه يجب هز قفة العسل المسموم أمامه أكثر ولا سيما عندما قرؤوا له كلمات في مقالٍ منشور في موقع الكرملين يؤكد فيها أن أوكرانيا أراضٍ روسية تاريخيا كاشفاً عن نيته بضم مزيدا منها. زيلنسكي الرئيس الشاب الذي أتى للمسرح السياسي من المسرح الفني هو العصى التي هش بها الناتو القفة المسمومة ، طالب بالإنضمام لحلف الناتو (لكمة موجعة جدا ) لبوتين ،مما يعني إن ما تم الأمر أمتلاك أوكرانيا لأسلحة متطورة جدا قادرة للوصول إلى موسكو في غضون دقائق معدودة كما صرَح بوتين في قيديو متلفز على قناة روسيا اليوم، هنا خبط الدب بوتين على جزء من القفة وثبتها بإعلانه الأعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك اللتين كان قد وضعهما سابقا تحت إبطيه يإجراء أستفتاء على أستقلالهما وتمخض عنها أتفاقية مينسك التي رعتها فرنسا والمانيا ، حان الأن زمن الضربة القاضية بتوقيت الناتو .
حسابات على حافة أوكرانيا ( صعّد لتخفيف التصعيد ) .
كان بوتين قد وضع تصورات لكل خطوة سيخطوها في تمرده على المجتمع الدولي المعادي لمخططاته وبحسابات مدروسة وهذا ما أُستقرأ من كل قراراته وممارساته وعربدته السابقة ، نعم عمل تحت سقف إستحالة جره لحرب عالمية ثالثة بواقعها النووي، أكون أولا أكون هي تحت هذا السقف ، لن تغامر الدول الكبرى التي قطعت مراحل هامة في ترسيخ الأمن والاستقرار بزج هذه الإنجازات في مهب ريحٍ بوتينية ، وهي غير مستعدة للتخلي عن ما حققته في مجالات التطور على كافة الأصعدة جراء حرب مع معتوه حسب رؤيتها ، أدرك بوتين بأستقرأته أن العقاب على تمرده إنما هو عقاب اقتصادي ليس إلا ، كما اتضح من تصريحات زعماء الدول الكبرى التي تعلن جهاراً نهاراً وأمام وخلف كل ممارساته العدوانية في تمرده على مجال توسعهم أنها لن تتدخل عسكريا ، أيقن المغامر بوتين أن العقوبات الأقتصادية مهما علت لن توقف زحف أفكاره لنيل لقب القيصر بوتين العظيم ، وإحتمالات تقليل تأثير الضربات الاقتصادية ممكنة باتخاذ إجراءات ردعية من شأنها النجاة من الأنهيار التي قد تتسببه في الداخل الروسي وعلاقات روسيا التجارية مع العالم وخاصة في مجالي الطاقة والغاز ، فأوجد( spfs) شبكة بديلا ولو كانت صغيرة للشبكة العنكبوتية الضخمة ( سويفت ) التي تربط إحدعشر ألف هيئة مالية ببعضها ضمن مائتي دولة ومقرها بلجيكا وخاضعة لقوانيين الإتحاد الأوربي (العدو ) ، وخفّظ التعامل مع الدولار في علاقاته التجارية مع الصين من حولي 90% إلى 30% ، وإجراءات أخرى تصب في هذا الإتجاه مثل تشكيل عصابة مسلحة مرتزقة قوامه بضعة ألاف تحت أسم ( فاغنر ) يقودها رجل غامض يدعى أولغاريتش مهمتها تنفيذ ما يطلبه من جرائم تخدم مصلحة بوتين ، كما فعلت في سوريا وليبيا وأفريقيا وأوكرانيا، كل ذلك من أجل المنازلة الكبرى على الأرض الأوكرانية . للتذكير قلتْ أن أوكرانيا ( دودة الصنارة ) هي الفاصلة أمام فعل تحيده والدب مدرك لهذا الأمر جيداً، وربما قصة صدام حسين مازالت ماثلة أمامه من حيث عملية الإستجرارإلى النهاية ، ولكن لبوتين سيناريو مختلف فيما يخص النهاية ، لم يكن لدى صدام سلاح نووي قاهر يردع دول التحالف .
أضرب بقوة وأفتح أفق للمفاوضلات والإتفاقات ، حلٌ مُرضي للدب المتثعلب .
أنهالت الضربات الأقتصادية من كل حدب وصوب رداً على ضربات بوتين التي أنهالت على أوكرانيا ، وفي كل المجالات ، الأقتصادية والفنية والرياضية ووووو وحتى الشخصية ، ربما اللكمة كانت قوية نوعاً ما حتى هذه اللحظة ولا شك سيكون لها تداعيات في المستقبل على صحة وجسد أفكار بوتين ودماغه ولكنها لن تسقط روسيا ، كما أسقطت العراق وليبيا ، بوتين يعي هذه الحقيقة ويعي أيضا كما أسلفنا أن خياراته مريرة تحت شعار أكون أولا أكون ، ويعي أن الغرب المتحالف لا يرى في أوكرانيا سوى منزلق له بأتجاه الهاوية على موجات الدماء الأوكرانية ، كما قدموا الكويت وقبلها إيران لصدام ، غاية الغرب الناتوي رأسه يدرك الدب هذا جيدا، رغم كل ذلك بوتين يتقدم ويخطب في الجموع لن أتوقف حتى أحقق الهدف، أوكرانيا لن تدخل في حلف الناتو ولن أسمح لها بأن تكون خنجرا في حلقي، النووي على أتم الأستعداد لمن خلفها ، لن اتوقف إلا لحلٍ يرضيني ويناسبكم هذا أخر القول وزبدته وليكن ما يكن .
أخر ما أود أن أقوله في هذه الفسحة من البياض المسطر، لو أن حلف شمال الأطلسي كان عادلا في تطلعات أتجاه الشعوب المنكوبة ومحقاً في لا إنتقائية ممارساته أتجاه مصالح هذه الشعوب ، لما رأينا معاتيه أمثال بوتين وأردوغان ومن سبقهم يستبيحون الدماء البريئة من أجل تطلعاتهم الخبيثة المتوارية خلف حق الدفاع عن أمنهم القومي أو الأقليمي .