شاهين أحمد
بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية ، ودخول الغرب وخاصة أمريكا وبريطانيا على خط الأزمة، وضخهما أسلحة نوعية في ميدان المعركة لإدامة أمد الحرب، وتوسيع رقعة الدمار، ودوام الاستنزاف لمختلف أطراف الصراع وخاصة روسيا ، وتداعيات ذلك على أوربا بشكل عام وألمانيا وفرنسا بصورةٍ خاصة نتيجة استخدام سلاح الطاقة (النفط والغاز) من جانب الروس ، وكذلك المواد الغذائية مثل القمح والذرة ومشتقاتهما، والتشابه الكبير، والتداخل المعقد بين الملفين الأوكراني والسوري نظراً لأن الأطراف الأساسية المتورطة بقوة في كلتا الساحتين هي نفسها ، وبالتالي مايجري في أوكرانيا سوف يؤثر بشكل مباشر على الميدان السوري،
وقد نجد مستقبلاً مقايضات محددة على مساحات معينة في البلدين . كل ذلك يضعنا كسوريين – موالاة ومعارضة – إلى التحلي بالشجاعة وأخذ المبادرة، واستغلال الفرصة،والخروج من حالة الضعف والترهل ، والبحث عن مخارج واقعية، وصيغة معبرة عن حقيقة سوريا المتنوعة قومياً ودينياً ومذهبياً ، وتعريفها كما هي، وتحديد هويتها الوطنية بعيداً عن الشوفينية القومية والتطرف الديني، وكذلك تسميتها المتوافقة مع التنوع المذكور،وشكل دولتها المستقبلي وطبيعة نظام الحكم فيها، وصياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع ومعبر عن وجود وحقوق كافة مكوناتها، والتأسيس لمرحلة يتم فيها صياغة عقد اجتماعي جديد ومختلف لإعادة إنتاج سورية جديدة، والتخلص من كافة أنواع الاحتلالات المباشرة والمقنعة . صيغة تضمن حقوق الجميع ، وتقطع الطريق على الانتقامات التي تنتظر مستقبل السوريين نتيجة الأحقاد والجرائم التي ارتكبتها مختلف الجهات التي حملت السلاح. صيغة تشعر العلويين بالاطمئنان ،والكورد والسريان بالشراكة،والسنة بالانصاف والدروز والتركمان بالمواطنة الحقيقية…إلخ . من الأهمية بمكان هنا التذكير بأنه قبل انطلاقة الاحتجاجات الشعبية السلمية في آذار 2011، ربما كان مجرد التفكير بطرح هكذا مواضيع مثل تغيير شكل الدولة، وتعريف هويتها الوطنية المعبرة عن حقيقة تنوعها المكوناتي، وطبيعة نظام الحكم فيها، وكيفية التخلص من الاستبداد وإقامة البديل الوطني الديمقراطي يعد انتحاراً لأن الأجهزة الأمنية لنظام البعث كانت تزج بكل مخالف في غياهب السجون والأقبية الأمنية حتى إذا كانت تلك المطالب في الجوانب الخدمية والإدارية. لكن بعد انطلاق تلك الاحتجاجات بدأت أوساط وشرائح غير قليلة من الشعب وخاصةً المشاركين في تلك الاحتجاجات بالتفكير جدياً، والبحث عن الأسباب التي أدت بالبلاد إلى هذا الجحيم، والبحث عن السبل الكفيلة بإخراج البلاد من النفق المظلم الذي أدخله البعث. وهنا ونظراً لأن شكل الدولة الحالي والنظام المركزي الشمولي كانا السبب في الحرمان والاضطهاد والدمار فكان لابد للسوريين العقلاء والمخلصين البحث عن شكل مختلف للدولة ونظام الحكم فيها، لأن الشكل الحالي للدولة والنظام القائم منذ ستة عقود أثبتا فشلهما التام العملي والنهائي في الميدان، وبالتالي أية محاولة للإبقاء عليهما أو تكرارهما أو إعادة استنساخهما لاتعتبر جريمة بحق الشعب السوري فحسب، بل تعني دوام المأساة وتدمير ماتبقى من سوريا، وقتل وتهجير من تبقى من شعبها.وهنا نرى في الفدرالية كشكل ناجح للدولة السورية المستقبلي، والديمقراطية التوافقية لنظام الحكم فيها يشكلان خياراً واقعياً لإخراج البلاد من المحرقة. لكن بكل أسف هناك قوى داخلية سورية وأخرى خارجية لاتريد الخير للسوريين تحاول تشويه هذا المخرج الواقعي في نظر السوريين وتحويله إلى فوبيا لإخافة الشعب من هذا الطرح الواقعي النبيل!. وهنا يجد المرء نفسه في مواجهة السؤال :
من يتحمل تشويه الفدرالية وجعلها فوبيا في ذهنية السوريين ؟
بدون أدنى شك أن منظومتا البعث والأسلمة السياسية تتحملان الجزء الأكبر من تلك المسؤولية ، والعامل الآخر الذي ساعد المنظومتان المذكورتان في تشويه الفدرالية هو الوجود الإشكالي والغير شرعي والغير قانوني لـ حزب العمال الكوردستاني في مناطق واسعة من كوردستان سوريا، وجعله لتلك المساحات ساحات حرب مفتوحة لـ صراعه الدموي المفتوح مع الدولة التركية، وتأثير توجسات تركيا نتيجة وجود pkk على حدودها الجنوبية على المكون العربي السني داخل المعارضة السورية وعوامل أخرى منها تتعلق بضعف الإعلام المهني الموجه لدى مؤيدي هذا الطرح (الفدرالية)،وجهل غالبية الشعب السوري لمزايا الفدرالية. ومن جهة أخرى نخب الشعب السوري ومن مختلف المكونات لم تستطيع تكوين تصور متقدم وإجماع وطني من مختلف المكونات حول نجاعة هذا الخيار. علماً أن الجميع يعلم بأن الدولة السورية بحدودها السياسية والإدارية المعروفة، هي نتاج التقسيمات التي تعرضت لها المنطقة وذلك خلال الحرب العالمية الأولى وبموجب اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 ووفق إرادة المنتصرين في تلك الحرب، ورغماً عن إرادة شعوب سوريا والمنطقة .
هل حقاً منظومتا البعث الشوفيني والأسلمة السياسية الراديكالية تشكلان معاً الركيزة الأساسية لتقسيم سوريا ؟.
قد يتفاجأ القارئ الكريم من هذا السؤال، وخاصة أن المكونان المذكوران – حزب البعث العربي الاشتراكي والأسلمة السياسية بأجنحتها المختلفة – هما أكثر جهتين أغرقتا ساحات الوطن بشعارات كبيرة تطغى عليها الحرص النظري الزائد على وحدة سوريا وسيادتها وسلامتها، وهما بنفس الوقت أكثر جهتين أضرتا بسوريا وشعبها وعلاقاتها ومستقبلها. حيث البعث الذي سيطر على سوريا من خلال سلسلة من الانقلابات التي بدأت رسمياً في الـ 8 من آذار 1963 وأدخل سوريا بنفق مظلم منذ اغتصابه للدولة بمواردها المتنوعة وناسها،وزور تاريخها،وهمش مكوناتها الأصيلة،ودمر نسيجها الاجتماعي المتنوع والمتعايش، ورفع شعارات قوموية شوفينية، وألغى الحياة السياسية،وغير المناهج التربوية والتعليمية بما تنسجم مع المخطط الشوفيني للحزب، وجعل الحزب المسار الوحيد المتاح أمام المواطن كي يدخل من خلاله إلى مؤسسات الدولة المهمة ، وتحول الحزب شيئاً فشيئاً إلى حاضنة أمنية، أفرز نوعاً من الطائفية السياسية كحامل للدكتاتورية والشمولية مع مرور الزمن، وباتت مكونات سورية الأصيلة وفي مقدمتها الشعب الكوردي غريباً في بلده، وفقيراً على أرض أجداده!.وكذلك فإن الركيزة الثانية المتمثلة في الأسلمة السياسية لم تكن أقل خطورةً من البعث، فإذا كان البعث قد سلب سوريا الدولة بمواردها المختلفة، فإن الأسلمة السياسية قد سرقت الثورة من السوريين، وحرفتها، وأخذتها إلى مكان آخر تماماً، وعمقت الشرخ المجتمعي الذي عمل عليه البعث منذ ستة عقود،وحاولت ولاتزال استكمال ما بدأه البعث من خلال إعطاء انطباع بأن كل السوريين الثائرين هم من أتباعها، وتسببت في إدخال الراديكاليين الإسلاميين المعولمين إلى مفاصل الثورة، ومن ثم المعارضة المسلحة، وكذلك فإن المعارضة السورية الرسمية هي الأخرى لم تنجُ من شرور الأسلمة السياسية . ومن المفارقات المضحكة أنه بعد كل هذه الممارسات من جانب هاتين المنظومتين بحق سوريا ومكوناتها ، تحاولان إلصاق تهمة الانفصالية والتقسيم بالحركة التحررية الكوردية المعروفة تاريخياً بطرحها قضية الشعب الكوردي طرحاً موضوعياً ،وتعمل على حلها حلاً وطنياً داخل الحدود السياسية والإدارية المعروفة للدولة السورية، وكذلك تلصق هذه التهمة بقوات سوريا الديمقراطية ” قسد ” – التي لنا مئات الملاحظات عليها وعلى من يقودها من حيث التركيبة والدور والأهداف – والمكونة أساساً من مزيج من العرب والكورد والسريان والتركمان وبغالبية عربية واضحة، ولاتملك أساساً أي مشروع قومي أو ديني أو مذهبي انفصالي في سوريا!. وهنا لابد من التذكير ببعض المشتركات الأساسية بين منظومتي البعث العربي الحاكم والأسلمة السياسية المعارضة والتي تشكل الأرضية لتعميق الشرخ والانقسام المجتمعي ،وتدفع بمكونات سوريا الأقل عدداً سواءً كانت قومية أو دينية أو مذهبية إلى التفكير جدياً بكيفية التخلص من هيمنة المنظومتين المذكورتين وضمان حماية نفسها منهما :
1 – غياب مشروع وطني سوري تغييري جامع وشامل يأخذ بعين الاعتبار وجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية لدى منظومتي البعث والأسلمة السياسية .
2 – التشابه الكبير في رؤية المعارضة الرسمية التي تسيطر عليها الأسلمة السياسية مع رؤية نظام البعث فيما يتعلق بشكل الدولة السورية المستقبلي، وهويتها، وطبيعة نظام الحكم فيها .
3 – المساهمة المشتركة من جانب المنظومتان المذكورتان في نشر الكراهية وزيادة الاحتقان نتيجة المصالحات المحلية التي حصلت بين المنظومتين، وترك تلك الفصائل الإسلامية المسلحة جبهات القتال مع النظام والتوجه صوب المناطق الكوردية والمسيحية في الشريط الشمالي والشمالي الشرقي الأمر الذي أدى إلى نزوح مئات الآلاف من سكانها الأصليين، وكذلك فشل المعارضة في تقديم نموذج حكم مختلف ( حوكمة رشيدة)، وخدمات، ومساحات لحرية الرأي أفضل من النظام أوحتى من مناطق سيطرة قسد .
ملخص الحديث
نحن اليوم بأمس الحاجة إلى التفكير بحكمة وواقعية، وقبول بعضنا البعض، والخروج من مستنقع الطائفية والشمولية، والانتقال إلى مساحات التوافق والشراكة الوطنية. وأن الخوف من الفدرالية ناتج أساساً عن الاعتلال الذي زرعه البعث أولاً ،والأسلمة السياسية تالياً في ذهنية المواطن السوري. لأن الفدرالية هي المخرج الوحيد الذي من خلالها يمكن تحرير السلطة والثروة من أيدي فئة قليلة اغتصبت سوريا لستة عقود وتوزيعها على جميع المواطنين . وللتغطية على فشلهما، ومحاولة الإبقاء والاستئثار بالسلطة والثروة والقرار نرى المنظومتان المذكورتان تحاولان تشويه الفدرالية ومزاياها في ذهنية المواطنين، متناسين أن أكثر من 75 % من الدول المتقدمة في العالم هي دول فدرالية مثل أمريكا وألمانيا وسويسرا والإمارات العربية المتحدة وغيرها. وبالتالي وبعد أكثر من 11 عاماً من المقتلة السورية، وتراكم الأحقاد،وتفشي الكراهية، وتعميق الروح الطائفية، والانقسام المجتمعي الحاد، وروح الانتقام والأخذ بالثأر …إلخ. فلا بد لنا كسوريين البحث عن الصيغة التي تضمن الحفاظ على بلدنا موحداً ومستقراً وقابلاً للعيش المشترك بأمان وسلام . وهنا يجد المرء نفسه في مواجهة السؤال: ماهي الخيارات الواقعية المتاحة أمام السوريين للحفاظ على بلدهم موحداً ومستقراً وآمناً ،سوى القبول والعمل على صياغة مشروع الفدرالية الجغرافية لعموم سوريا، والديمقراطية التوافقية أساساً للشراكة وحكم البلاد ؟.وخاصةً أن المشهد السوري بات واضحاً تماماً، في مناطق النفوذ الرئيسية الثلاث نلاحظ وجود مشتركات لجهة القمع ووالإقصاء والانتهاكات ، وما يهم الشعب السوري هنا المعارضة التي كان يعلق عليها الشعب آمالاً كبديل لنظام البعث ، فغالبية الفصائل العربية السنية المسلحة التي تنتمي لحقل الإسلام السياسي الراديكالي، ومن خلال تصريحات وتصرفات قادتها تهدد العلويين والكورد والمسيحيين والدروز …إلخ، وتؤكد بأن المجازر والمقابر الجماعية تنتظر أبناء المكونات المذكورة، ناهيكم عن إصرارغالبية الواجهات السياسية لتلك الفصائل على حصرية الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد أو رئيسي للتشريع في العقد الاجتماعي المستقبلي لسوريا!. تمهيداً لـ حرمان معتنقي الديانات المسيحية والإيزيدية واليهودية…إلخ من جزء أساسي من حقوقهم. وبالتالي نحن اليوم أمام لوحة واضحة تماماً وهي: سوريا منقسمة ومحتقنة وملتهبة، لن يقبل فيها العربي السني بعد اليوم أن يعيش تحت حكم العلوي مهما كلفه ذلك من ثمن، ولن يسلم العلوي السلطة للسني لأنه يدرك تماماً المصير الذي ينتظره، ولن يرضى الكوردي بعد اليوم أن يعيش مهمشاً محروماً من حقوقه كما كان خلال حقبة البعث، ولن يسمح الدرزي ولا المسيحي ولا الآشوري بأن يتحكم فيه الإسلامي الراديكالي بإسم الدين، وهكذا بالنسبة للتركماني وغيره . هنا يجد المرءُ نفسه في مواجهة سؤال مصيري: هل نريد أن نعيش سوياً في بلد واحد من جديد ؟ والجواب سيكون بالإيجاب قطعاً، إذاً ماهو الشكل الذي يحفظ لسوريا وحدتها، وللمكونات حقوقها وخصوصياتها، ويقطع الطريق مستقبلاً أمام سيطرة مكون محدد على مقاليد السلطة بإسم الدين أو القومية أو الأكثرية ؟. بكل بساطة هناك خيار واحد ووحيد فقط يمكن أن يحقق ماتم ذكره لجهة التخلص من الشمولية والحفاظ على سوريا موحدة، وذلك من خلال صياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع وشامل يأخذ بعين الاعتبار وجود وحقوق جميع المكونات القومية والدينية والمذهبية، ويقطع الطريق أمام محاولات إعادة إنتاج منظومة استبداد وتكرار تجربة مشابهة لتجربة البعث، ويؤسس لـ سوريا فدرالية بنظام قائم على أساس ديمقراطي – توافقي، يتم فيها الفصل بين السلطات ، ويتكون برلمانها من مجلسين ، الأول نيابي يعتمد مبدأ النسبية في تمثيل الشعب لتشريع القوانيين الإدارية، والآخر ” توافقي ” للمكونات ، وبيد الأخير القرارات السياسية والمصيرية الأساسية داخلياً وخارجياً . ويبقى السؤال :
هل هناك خيارات أخرى واقعية أمام السوريين للحفاظ على بلدهم موحداً ومستقراً وآمناً ؟