د. محمود عباس
الدم كوردي، والمتهم قيادة الـ ب ك ك، وهي تنفي، وفي الحالتين، الجريمة أو البراءة، يظل الخاسر الوحيد هو الشعب الكوردي، لأن الطعنة بعمقها هي في القضية وقادم الأمة، والمستفيدون هم محتلو كوردستان، تركيا وإيران تحديداُ، إن كانت ضمن جغرافية الإقليم الفيدرالي أو في شمال كوردستان.
خمسة) بيشمركة (من جنوب كوردستان، أبناء الأمة المعانية، سقطوا شهداء، تسامت أرواحهم من على منصة التضحيات التي تكاد أن تكون بلا نهاية، إلى جانبهم مجموعة من الجرحى، معاناتهم وأهالي الشهداء انضمت إلى مآسي الألاف من أبناء القرى الهاربة من ساحات المعارك، وإلى الملايين من قرى شمال كوردستان المندثرة آثارها مع ضياع سكانها في غياهب الغربة.
مواجهة القضية مرعبة، سوف تجرنا إلى ساحة خلافات مدمرة قوميا ووطنيا. ففيما لو كانت تهمة أو فرضية جدلية، أو حقيقة، على أن الـ ب ك ك هي الفاعلة إن كانت عن طريق دروناتها والتي أصبحت تملكها، كما تدعي إعلامها، أو بشكل مباشر من قوات الكريلا، تكون قد خسرت الكثير مقارنة بما يقال على أنها ستربح جولة في مواجهة الإقليم، وحروب طويلة الأمد مع العدو الألد؛ الأنظمة التركية المتتالية. وتأويلات العملية هو أن الهدف الوحيد منها خلق إشكاليات ما بين حكومة الإقليم وتركيا، ومن بينها توسيع ساحة المعارك، وإقحام قوات البيشمركة في الصراع العسكري مع تركيا، وبالتالي قطع العلاقات السياسية والدبلوماسية بينهما؛ والتجارية إلى طعنة مدمرة؛ البالغة قرابة 8 مليار دولار، والخاسر هو شعب الإقليم وحكومته وحزب العمال الكوردستاني، مقابل ما تربحه أنظمة العراق وإيران وتركيا.
فالاتهامات المتواصلة حول تواطء الإقليم الفيدرالي مع التدخلات التركية في شمال العراق جهالة سياسية مغلفة بإيديولوجية ساذجة طوباوية، لأن قادة حكومة العراق، والبعث المختفي وراء الحراك السني، ينتظرون مثل هذه الاتهامات لتبرئ قادة العراق السابقين، ومن بينهم المجرم صدام حسين من اتفاقية الخيانة مع تركيا. وعلى أثرها سيكرسون من ضغوطاتهم على حكومة الإقليم، لتوسيع خسارات الشعب الكوردي للمكتسبات الحاصلة عليها خلال العقود الثلاث الماضية. ففي الواقع ضياع الإقليم الفيدرالي تعني وبشكل مباشر ضياع قنديل أيضاً؛ وانهيار منظمات الـ ب ك ك، وكذلك الإدارة الذاتية في غرب كوردستان.
أما إذا كانت التهمة خاطئة وجائرة، وقيادة ب ك ك صادقة في أقوالها، وتركيا هي التي قامت بالعملية، وبأساليب تمويهية، لتتجه الأصابع إلى قوات الكريلا (بالمناسبة حصلت مثل هذه كثيرا في تاريخ الحروب) فتكون إدارة أردوغان قد كسبت الكثير، ومنها:
1- تعريض درونات قوات الكريلا للمساءلة كلما أقدمت تركيا على قصف شمال الإقليم الفيدرالي.
2- تعميق الصراع ما بين البيشمركة والكريلا.
3- قطع أو تجميد العلاقات المباشرة وغير المباشرة بين حكومة الإقليم وقيادة قنديل.
4- وبالتالي إعادة المجتمع الكوردي المؤيد للطرفين إلى مربع تخوين البعض، والمؤدي إلى إضعاف الحراك الكوردستاني على عدة مستويات.
تركيا دولة قوية، لها مؤسسات وأجهزة أمنية-عسكرية متطورة وذات خبرة، ومراكزها الاستراتيجية تتعامل مع الدول الكبرى والناتو، وكما نعلم، ويدركها التركي العنصري والوطني، أن الهدف الوحيد لجميع حكوماتها بالنسبة للأمة الكوردية، هو عدم قيام كيان كوردستاني أو دولة تمثلهم، وبالتالي جميع مخططاتها ممنهجة وبدقة، ومتوجهة نحو محاربة أية قوة سياسية أو عسكرية كوردية صاعدة. وفي الواجهة الأن هي فيدرالية الإقليم الكوردستاني وإدارتها، فحتى لو لم تكن تحاربها بشكل مباشر، تتأمر مع كل الأطراف لتقويضها.
فما تقوم به قيادة قنديل تسهل لها بشكل غير مباشر، مسيرة تنفيذ مهماتها لبلوغ غايتها، إن كانت لجهالة أو خطأ في التقدير. ومن جهة أخرى تضعف موقف الإقليم، المتصارع أصلا داخليا؛ ما بين السليمانية وهولير، أمام القوى الإقليمية المحتلة لكوردستان، وأمام حكومة المركز (بغداد) والتي أدت إلى خسارة شنكال، مثل خسارتها لكركوك وأجزاء أخرى من الجغرافية الكوردستانية البالغة قرابة 30% من مساحة جنوب كوردستان، وكذلك عدم تنفيذ المادة 140 والتي كان لبعض الأطراف الحزبية ضمن الإقليم دور في هذا التراجع.
لا شك حروب تركيا مع حزب العمال الكوردستاني والأحزاب التابعة للإيديولوجية ذاتها، درجت بشكل دائم ضمن مخططات الحكومات التركية المتعاقبة ومؤامراتها على الشعب الكوردي، بغض النظر عما يقال على أن الحرب الجارية قرابة نصف قرن، هي مؤامرة بحد ذاتها، لإفراغ القضية الكوردستانية من محتواها، ولإحداث التغيير الديمغرافي للمنطقة الكوردستانية، وما تقوم به الحزب وأفرعه في جنوب وغرب كوردستان امتداد لتلك المؤامرة، وغيرها من الاتهامات، نجد بالمقابل أن الحزب مع مؤسساته، كانت طوال هذه الفترة في مقدمة أولوياتها السياسية والعسكرية الداخلية وحتى الدبلوماسية أحيانا، ولو أن الكثير من الأعمال والمفاهيم التي طرحها الحزب بعد اعتقال القائد عبد الله أوجلان تغيرت، لكن مهمات الحكومات التركية ظلت كما هي، مع صعود وهبوط حسب الظروف الدولية والإقليمية، لكنها لم تتوقف يوما عن خلق المؤامرات، لإحداث الفتن بين الأطراف الكوردستانية، والاستفادة من الصراعات المفاجئة بينهم، كالتي تفتعلها العمال الكوردستاني مع حكومة الإقليم الفيدرالي، والذي يزيد من نارها الشارع الكوردستاني المنقسم على ذاته، وشهادة البيشمركة الخمسة هي من ضمن سلسلة المؤامرات التركية.
نسبة عالية من الشعب الكوردي، وأغلبية حراكه، تتهم قيادة ألـ ب ك ك على أنها تعرض القضية بأساليبها إلى الدمار، وكانوا السبب في خلق العديد من الكوارث في عموم كوردستان، وهذه صفحة من صفحات تخويننا للبعض، التي كانت موجودة قبل ولادة الـ ب ك ك، وستظل، أحيانا تصل إلى درجة هدر الدماء الكوردية، كالتي حدثت قبل أيام.
جدلية التهم والتخوين، والإثباتات التي يعتبرها البعض دامغة، والقناعات غير القابلة للطعن، في خيانة الكوردي الأخر، ستبقى مجال نقاشات عديدة عقيمة مسدودة النهايات، والأمثلة لا حصر لها، منها حصرت ضمن الصراعات السياسية، كالتي جرت في غرب كوردستان. ومنها ما أدت إلى مواجهات دموية، كالتي حصلت في جنوب كوردستان وشماله وشرقه أحيانا، والجهات معروفة لا داعي لذكرها. مع ذلك تظل أساليب قيادة العمال الكوردستاني، والجدلية التي أتبعتها في نضالها رغم إيجابياتها على أصعدة عديدة، من أحد أغرب الأساليب في تاريخ الحركات التحررية، والتي بعضها أحلت الكوارث لشعوبها، وخلفت المآسي التي لم تمحى من ذاكرة المجتمع لعقود طويلة، وأفادت الأعداء قبل الشعب الكوردي.
نحن هنا لا نود أن نولج دروب الجدالات العقيمة تلك، فقد أصبحت من شبه المستحيل حل الإشكاليات المثارة، أو بلوغ نتيجة بالحوارات، أو المؤتمرات، أو نشر مقالات وغيرها، لكن من الممكن أيجاد نقاط التقاطع المؤدية إلى تهدئة الخلافات وإيقاف الصراع وموجات التخوين، وقيادة قنديل هي الأكثير معنية بالأمر، وبالتالي عليها أن تتخلى عن نظريتها ومفهومها الشمولي، وهي أن حربها هي حرب جميع الحراك الكوردستاني، أو يجب أن تكون كذلك، وإلا فغير المشارك معها يقف إلى جانب الأخر.
بالتخلي عن هذه الجدلية ستخلق بيئة هادئة بينها وبين الحراك الكوردستاني، كما وعليها تقليل مطالبها التعجيزية من الإقليم والأحزاب الكوردية الأخرى ومن بينها أحزاب غرب كوردستان، ولا تعني هذا أن تتنازل لمحتلي كوردستان، أو عن أيديولوجيتها، أو تتوقف عن محارب الأنظمة الشمولية من أجل تحرير كل شعوب المنطقة ومن بينهم الشعب الكوردي، رغم أنها احدى أهم نقاط الخلاف بينها وبين القوى الكوردستانية الأخرى، مثلما كانت مطالبها الأولى وحيث كوردستان الكبرى كانت نقطة خلافات كبرى.
إننا أمام معضلة مفاهيم وثقافات كوردستانية متضاربة، ونظريات دخيلة على الأمة، وعدم التوافق على طرق تناولنا لها، وتأويلاتنا المتناقضة للمواضيع التي تهم أمتنا، من بينها أساليب معالجة قضية البيشمركة الشهداء الخمسة، وساحات معارك العمال الكوردستاني مع العدو التركي، والتي تهيمن عليها تحليلاتنا الأحادية الجانب ومستخرجاتنا، والتي تؤدي إلى النتائج المروعة كالتي نعيشها حالياً.
هل يا ترى كل هذه الأخطاء هي نتيجة ضحالتنا في معرفة الذات، والإنسان المعادي للكرد؟ فمن الملاحظ هو أننا مهما تعمقنا في نقد مواقف الأعداء وثقافتهم، وبينا الجوانب التي تدفع بهم وأنظمتهم على مناوئة القضية الكوردية، إن كانت من وجهة نظر قومية تعصبية، أو بتقييم منطقي علمي وعلى المستويات الفكرية المتفتحة، تخرج دراساتنا ناقصة، لأننا نعالج جهة من الإشكالية ونتغاضى عن الوجه الأخر وهي شخصيتنا الكردية المعانية من الأوبئة الثقافية التي فرضتها علينا الأنظمة العنصرية، والتي كثيرا ما أعاقت ليس فقط رؤية دروب نضال حراكنا بل جهالة الذات، وهي التي أدت إلى إسقاط قضيتنا من سوياتها القومية والوطنية إلى قضايا حزبية.
وفي الواقع فيما لو عالجنا هذه المسالة الثقافية والسيكولوجية على أبعادها الذاتية، لوجدنا أن العلة الكبرى في الشرائح التي تضع ذاتها ممثلة عن الأمة والقضية، قبل أن تكون في القوى الإقليمية، أو الدولية التي نعاتبها بعد كل نكسة على أنها قوى ليست صديقة وخانت الوعود والعهود، ولا في الأنظمة العالمية التي تتحكم بمصير الشعوب، وخاصة تلك المتفتحة على البشرية حسب مصالحها. معظمنا وحراكنا الحزبي حتى اللحظة لا نتخلى عن معاتبة الأخرين ونتناسى تحليل الذات، ولا ندرس خلفيات ابتعاد المجتمع عنا، والمؤدية إلى عدم القدرة على إدراك أسباب عدم ديمومة القوى الدولية كصديق دائم، وخلفيات ابتعادهم عنا عند أول مطب، والتي على أثرها خرجنا بمقولة لا صديق للكوردي سوى الجبل، وعلى أثره أستمرينا في مستنقع الضياع مثلما نحن الأن أمام دماء خمسة شهداء بيشمركة، نعيد التاريخ ذاته. فهل العلة فينا أم في الأخرين؟ ولماذا سال الدم الكوردي ثانية؟ أي كان المتهم، فجهالتنا هي التي أدت إلى حدوث الجريمة.
الولايات المتحدة الأمريكية
8/6/2021م