صبري رسول
استتباب الأمن «بقوة العنف» في المنطقة الكردية في الجزيرة لا يعني أبداً أنّ الأمور تتجه نحو الاستقرار، فالعنفُ المسلّحُ ما مازال وارداً وقابلاً للظهور في ظلّ الانقسام الكردي العميق، وتجميد الحوارات بين الطرفين، وغياب أي بوادر للوحدة الكردية المنشودة،
هزيمة «داعش» عسكرياً على الأرض لاتعني هزيمته فكرياً في عقول شبابٍ مغرّر بهم، ولديهم جاهزية نفسية لارتكاب أكثر الأعمال عنفاً ودمويةً، وخاصّة لدة الشباب العرب المتحمسين لاستعادة أمجاد الخلفاء.
مازال «تنظيم داعش» يمتلك «مخزوناً بشرياً» ضخماً معبأً بسموم الفكر العنفي السلفي القائم على التقديس، هذا المخزون المُهمّش، أهملتْهُ أنظمةٌ القمع والاستبداد وهيّأتها لكل الاحتمالات، فهزيمته نهائياً تتطلب هزيمته في كلّ الجبهات: النفسية، الفكرية، السياسية، كما هُزِمَ عسكرياً.
على الرغم أن اللقاءات الجديدة بين المجلس الوطني الكوردي ونائب المبعوث الأمريكي ديفيد براونشتاین وقسد تشير إلى التفاؤل والانفراج، وأن الأمريكيين يرغبون في الوصول إلى تفاهم نهائي واتفاقية كاملة إلا أنّ المُعيقُ الذي قد ينسف أي فرصة لذلك هو وجود كوادر (PKK) في منطقة شرق الفرات ، وفق رؤية المجلس الوطني الكردي، الذين يُديرون الشّؤون العسكرية والإدارية فيها، وإظهار حزب الاتحاد الديمقراطي كواجهة سياسية له، وهذا الحزب لا يلتزم باتفاقياته مع أيّ طرف كردي، وهذا ما حصل لاتفاقية دهوك 2014 على أن تكون هذه الاتفاقية هي «الأساس للمفاوضات» رغم أنّ (ب ي د) أدار لها الظهر مبكّراً.
وما يعكر الأجواء، كلّما اتجهت الأمور إلى التهدئة، وخفَّ التشنج، هو ظهور حدثٍ غير متوقع، فيهدم كلّ شيء، ويقضي على كلّ تفاهمٍ أنجِز، كما في حادثة مقتل الشاب الكردي أمين عيسى العلي من عائلة القيادي الكردي بشار أمين تحت التعذيب في سجون (ب ي د)، وتبليغ أهله 28 من حزيران / يونيو 2021 لاستلام جثته. هذه الحادثة ألقت بظلالها على الوضع الكردي، وتبادل الطّرفان، المجلس الكردي و (ب ي د) الاتهامات بشأن حادثة الوفاة بسبب التعذيب، التي هي جريمة سياسية بشعة، تدلّ على همجية مرتكبيها ووحشيتهم، وتتحمّل مسؤوليتها بشكل مباشر «الإدارة الذاتية» لأنّ جريمة القتل حدثت في سجونها، وتحت سيطرتها وفي إطار مسؤوليتها عن «أمن وسلامة المواطنين»، بوصفها سلطة الأمر الواقع التي تدير المنطقة.
يبدو أنّ الظروف السياسية استلبت من الكردي شخصيته، فاستلابُ التفكير لدى الكردي، كانَ بدايةَ لاستلابِ شخصيته، فأوكلَ مهمة التفكير إلى الآخر، ومعه، أوكلَ حياتَه، ومصيرَه ومصيرَ بلادِه إلى مَنْ يفكّر بدلاً منه، ويتّخذ القرار نيابة عنه، وأسندَ تبعيتَه إليه، وبات مهمّشاً على قارعة الحياة، لذلك لم يعد منتجاً لأيّ شيء.
هذا حصل لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يتبع حزباً من خارج البلاد، ويخضع لإرادته في كلّ شيء حتى عسكرياً. فلم يسمع التنظيم الكردي صوتَه المبحوح، ولم يسعَ إلى خلاصه من الاستلاب الفكري. فماذا وكيف نتوقّع من مواطنٍ لا يملكُ الإرادةَ والقرارَ وحرية التفكير أن يساهم في رسم مصيره ومصير شعبه؟
المجلس الكردي يرغب باتفاقية شاملة في مجالات الحكم والإدارة والدفاع مناصفة، بناء على بنود اتفاقية دهوك، وتنظر إلى العلاقة مع القوى الكردستانية كعمق استراتيجي وليست تبعية سياسية، بينما ترى «أحزاب الوحدة الوطنية الكردية» التي يقودها (ب ي د) بأنّها لا تتبع الحزب العمال الكردستاني، رغم تبعيتها له في العلاقات والدفاع وقوى الأمن الداخلي.
المفاوضات المرتقبة ستكون متشنّجة، لأنّ الخلافات أعمق وأكثر قوة من الإرادة السياسية لدى الطّرفين، وباتت تضرب النسيج الاجتماعي والسلم الأهلي، وكي تعود المياه إلى مجاريها لابد من تشكيل لجنة تحقيق مستقلة ونزيهة بمشاركة ممثلين عن المنظمات الحقوقية، لكشف الجناة، وتقديمهم للعدالة ومعاقبتهم قانونياً.