د. محمود عباس
الجدلية المعروفة، أن الولايات المتحدة الأمريكية مثل سابقاتها من الإمبراطوريات؛ تتعامل مع الدول حسب حجم مصالحها، القضية الكوردية بشكل عام وفي سوريا بشكل خاص تصنف في نهايات سلم اهتماماتها، بعدما كانت القوات الكوردية في القمة قبل سنوات، يوم كانت تحارب المنظمة الإرهابية، يمكن تقييم ذلك من خلال زيارات الدبلوماسيين الأمريكيين، والتي تتصاعد وتهبط كلما تأثرت علاقاتها مع الدول الإقليمية المجاورة أو المحتلة لكوردستان، فخلال السنوات الثلاث الماضية لم تتجاوز سوية المستشارين والمسؤولين عن المنطقة، آخرها كانت لـ (برات مكغورك، المبعوث الأمريكي الخاص للرئيس جو بايدن) للإقليم وإلى مدينة السليمانية تحديداً؛ بغض النظر عن الوجود العسكري والدبلوماسي الدائم لممثليهم في كل من الإقليم الفيدرالي، ومنطقة الإدارة الذاتية، كما ويمكن استشفافها من مدى حضور القضية الكوردية في تصريحات مسؤوليها الكبار، علما وعلى سوية المنطقة تتبين على أن جانب واسع من مصالحها مرتبطة بالوجود الكوردي كقوة عسكرية.
الحضور الكوردي هذا بدأ يتأثر أكثر بمدى قبول أو رفض تركيا وبعض الدول العربية لهذه العلاقة، ولهذا فعلينا كحراك كوردي التركيز على هذا التوجه الإقليمي، ونرجح التعامل السياسي -الدبلوماسي على العداوة أو الصداقة الدائمة، لأن معظم المؤشرات السياسية والعسكرية تبين على أن مستقبل سوريا، لم تعد مرهونة فقط بالحوار الأمريكي الروسي، فتركيا وإيران أصبحتا من القوة بحيث لا يمكن تجاوز مصالحهما في المنطقة، سهلت لصعودهما هذا الخلافات الروسية الأمريكية، واستغلوها بحنكة، خاصة تركيا.
فالواقع المذهبي لإيران، وتحركها على منهجيتها، عرضتها لمخاطر الحصار الأمريكي المهلك، وكان المتوقع أن تقوم أمريكا بتحريك العامل الكوردي ضمن جغرافيتها، لكن مصالح روسيا والصين حفظتها إلى درجة بإمكانها أن تفرض شروطها على الولايات المتحدة ضمن حوارات جنيف.
وهو ما كادت أن تسقط فيه تركيا أيضا، وقد تم تداول شائعة سياسية على أن أمريكا هي التي حافظت على قنديل بعد حرب الخليج الثانية يوم لم تستجب تركيا للمطالب الأمريكية باستخدام قاعدة إنجرليك لقصف العراق، إلى درجة بدأ الترويج على أنها ستزيل حزب العمال الكوردستاني من قائمة المنظمات الإرهابية، وتصاعد الخطر عندما بدأ أردوغان يشد من زمام الرئاسة السنية بالمنهجية الراديكالية، قبل أن يدركها لاحقاً، خاصة عند أول تلويح للحصار الاقتصادي تحت حجة تعامل البنك التركي مع إيران المحاصرة، وتمكن بدبلوماسية التراجع إنقاذ تركيا من حصار مشابه، أو ببداية مماثلة، وحفظت على مكانتها كثاني قوة في الناتو، وأبقت العمال الكوردستاني ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، والحفاظ على مكانة تركيا ضمن الدول العشرين اقتصاديا في العالم، وبالتالي أستمر نموها الاقتصادي، رغم تعرض عملتها واقتصادها مؤخرا إلى العديد من المطبات قد تكون مدمرة، فيما لو أستمرت الشركات الرأسمالية العالمية بتخفيض دعمهم لها، ونحن نعلم أن دعمهم بلغت سويات دخلها الوطني على مدى عقد من الزمن.
لذلك فأي حوار لوضع حل لقادم سوريا، بمناطقها شبه المنفصلة أو المستقلة في الواقع العملي، التي هي تحت هيمنة تركيا أو الولايات المتحدة أو روسيا وإيران، وحضور القضية الكوردية، لا بد وأن تكون بمعادلة متوازنة بين مصالح الدول الأربع، حتى ولو فرضت أمريكا وروسيا مصالحهما على طاولة الحوارات، واستخدما التهديد الاقتصادي أو ربما السياسي- العسكري، وطرقها عديدة ومتنوعة ومتوفرة لكلا الدولتين الكبريين، لكن بالمقابل لتركيا وإيران أدواتهما، ومفعولهم مؤثر، تجارب العراق وسوريا وأذربيجان وأرمينيا وليبيا وغيرهما في المنطقة تعكس هذه الحقيقة، تدركها أمريكا وروسيا، إلى جانب أنهما بخلافاتهما يبقيان الأبواب مشرعة لمطالب خصميهما على المصالح الإقليمية، وعلى الأغلب أن تنازل روسيا لتركيا في احتلال عفرين، وسماح ترمب لها باحتلال ما بين سري كانيه وكري سبي كانت ضمن اتفاقيات فرضت فيها تركيا شروطها عليهما.
فكما يلاحظ، أن أحد أضعف الحلقات التي من السهل أن تتفق عليه الدول الأربع فيما لو تلاقت مصالحهم، هي قضية الشعب الكوردي والمتاجرة بحراكه، خاصة مع تزايد الخلافات الداخلية بين الطرفين الحزبيين المفروضين على الشعب من الحراك الكوردي.
فلو عدنا إلى منطق توازن المصالح بين الدول المعنية بسوريا، وحيث القضية الكوردية المتصاعدة، لوجدنا أن المصلحة الأمريكية تتطلب البقاء في سوريا، أي في المنطقة الكوردية الأكثر ثقة بين كل من تم التعامل معهم، وأمانا لجنودها، خاصة وهي تتخلى عن بعض من قواعدها في العراق، والتي هي في الواقع السياسي توريط ما بين طرفي الشيعة، العربي والإيراني. وبعد خروجها من أفغانستان، علما أنها خطة استراتيجية لتوريط الصين وروسيا.
لذا لا بد من دراسة الجدلية الخطيرة هذه على مبدأ المصالح، والتي كثيراً ما تغيب عنا أو نتناساها، إما عن عدم معرفة لدراسة الواقع السياسي واستراتيجية تعامل الدول بين بعضها، أو على خلفية المصالح الحزبية، أو نكاية بالطرف الكوردي الأخر، والمؤدي إلى قبول التبعية شرط سقوط الطرف الأخر.
وعلى المداخل الاستراتيجية في الشرق الأوسط، توسع الولايات المتحدة وجودها في المنطقة الكوردية مع مدى ترسيخ روسيا لمواقعها في منطقة النظام ضمن سوريا، وبقدر ما تود الأخيرة السيادة على الجغرافية السورية، ستدعم أمريكا أدواتها ومن بينهم القوة الكوردية، وقد تصعد إلى سويات البعد الإستراتيجي خاصة وأن مؤشر الحوارات بدأت تظهر بين روسيا وأمريكا، ومصالحهما المتضاربة في المنطقة على المحك، كمصلحتها وعلاقاتها مع تركيا. وكثيرا ما يهمل المحللون السياسيون أهمية القضية الكوردية هنا، مثلما يتناسونها بالنسبة لتركيا وإيران، الدولتين اللتين بالإمكان التنازل عن الكثير من مصالحهما مع الدول الكبرى شريطة تخليهم عن الكورد، ومنع صعود قضيتهم إلى المحافل الدولية، إلى درجة من السهل لتركيا التراجع والاعتراف بسلطة بشار الأسد، فيما لم يتمكن من إقناعهما في فرض المعارضة العروبية على المنطقة الكوردية.
فكما نوهنا سابقا، وعلى ما نعلم أن العامل الوحيد الذي تسخره أمريكا لمصالحها، ضمن سوريا، هي القوة الكوردية، بعدما فشلت مع غيرهم في السابق، ولهذا فالقوى الإقليمية تشهر وتحارب العامل ذاته للطعن في الوجود الأمريكي، وفي الواقع وباستثناء روسيا، جميع من يعادون الوجود الأمريكي في عمقه معاداة للنهوض الكوردي في سوريا، ومحاولات لعزلهم من الحوارات حول مستقبل سوريا القادم، العملية التي نجحوا فيها إلى درجة تمكنوا من تهميش قضيتهم ضمن لجان تعديل الدستور …
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
21/7/2021م