إبراهيم اليوسف
لطالما خيل إلي، أن الصديق الأديب محمد قاسم حسين لما يزل بتلك الحيوية التي كان ووجدته عليها، عندما التقيته آخر مرة، قبل حوالي عقد ونصف، وهو في ذروة نشاطه وقوته، ولربما كان ذلك عندما حضرت أحد أنشطة وفعاليات ديرك الثقافية المحلية، ولعله كان النشاط اليتيم الذي حضرته هناك، وإن كانت ديرك ذاتها المدينة الدافئة المدهشة التي دأبت على الالتزام بها من جهتي، وجعلها عنواناً، لإقامة أنشطتي التي لم يكن يسمح لي بإقامتها في مرحلة مابعد 1986 لا في الحسكة، ولا في قامشلي، وإنما في مدن الأطراف: ديرك- الدرباسية- الرميلان، أو تل حميس وعامودا لاحقاً، بعد سنوات طويلة من المنع، وكان محمد قاسم أحد الذين يحضرون أكثرها، تقديراً للضيف، إلا إن متابعتي لمقطع فيديو أخير مؤثرله، بعد انتهاء زيارته- الوداعية- لهولير/أربيل، آلمني، وهو يسير متكئاً على عكازته التي وجدتها غريبة عنه!
عرفت ديرك، لأول مرة. ديركا محمد قاسم، في أوائل ثمانينات القرن الماضي. عندما زرناها: أنا وسلام نعمان ومحمد عفيف حسيني عبداللطيف عبدالله وآخرون ماعدت أتذكرهم، وكان في استضافنا الصديق إبراهيم محمود الذي كان يدرس فيها، ومعه وليد حسو- شقيق نيروز مالك- وعبدالباسط سيدا وآخرون، لأدمنها، وأوثق علاقتي مع عدد من مثقفيها، وبعض شيوعييها، وظلت إحدى مدننا الأكثرزيارة لها
منذ بداية تسعينيات القرن الماضي قرأت، لأول مرة، بواكير كتابات محمد قاسم الذي عرفته مربياً، مدرساً للفلسفة، واسماً له حضوره في المشهد السياسي، كما الاجتماعي. كما الثقافي، من خلال حسن علاقاته، مع الحركة الكردية، وثمة خيط من الود والاحترام بقي بيننا، وحافظنا عليه، ليتعزز ذلك، ويترسخ أكثر، خلال التقائنا في فضاء التواصل الاجتماعي، من جديد، بعد اضطراري على مغادرة الوطن، وإن كان بريده الإلكتروني، لايفتأ يوصل إلي جديده. في الوطن، وخارجه، مع أول تفاعله مع هذا العالم، إلى جانب الحوارات” الماسنجرية” التي لم يتخلف عنها، وتكلل كل ذلك، في العقد الأخير من حضوره عبر”الفايس بوك “بنشره مواداً ذات عمق فلسفي فكري، كانت نتاج خبرته الطويلة، كمثقف، وكمرب، وابن أسرة دينية، بل وككاتب، وكباحث!
ولعل أبناء ديرك أكثردراية مني، بدوره، ويده البيضاء، في مجال تأسيس وإدارة الملتقيات الثقافية التي انطلق بعضها من ديرك، وكانت عامل التفاف بين المثقفين، من جهة، وبينهم وجمهورهم، من جهة أخرى. الجمهور الذي كان يرفد الحراك الثقافي، بين حين وآخر، باسم جديد، بوساطة هكذا منتديات ومجموعات ثقافية، وهوما يبدو كلاماً عادياً، إن لم نشرإلى آلة الرعب التي كانت تستهدف أية ملتقيات أو تجمعات ثقافية، ما كان يضطرالقائمين عليها إقامة أنشطتها سراً، بعيداً عن أعين الرقباء، ولقد كانت ديرك، في حدود معرفتي بيئة مناسبة لاحتضان مثل هذه الفعاليات، نتيجة عوامل عديدة، تسجل لها.
عندما انتهيت من كتابة روايتي “شارع الحرية” اخترت عدداً من الأسماء الثقافية لتقرأها، وتبدي رأيها فيها، وكان أ. محمد قاسم أحد هؤلاء الذين تم اختيارهم من قبلي، واحتفظت برأيه الذي كان فيه على ما أذكر بعض- النقد- والتحفظات، إلى جانب ما رآه في هذا العمل من نقاط مضيئة، وارتأيت نشر الآراء التي وصلتني في ذيل طبعة تالية.
قبل أسابيع، اُستعين بي، في إعداد مواد ملف الأدب الكردي لمجلة “أوراق” التابعة لرابطة الكتاب السوريين، اتصلت به، من ضمن من اتصلت بهم، ولم يتأخر في تلبية إعداد مشاركته، وإن راح ينظرإليها بتواضع العلماء، طالباً رأيي، وسوى ذلك قبل النشر، ثم سرعان ما مدني بنسخة بديله تم اعتمادها ونشرها، ضمن ملف ذلك العدد الخاص الذي أعده جدّ مهم، رغم ما قد تسجل على هكذا مبادرات من نقود.
كثيراً ما كان يعلق على ما أنشره من آراء-ضمن حدود معينة- بما يتساوق مع طبيعة رؤاه، أو لربما، نظراً لحساسية الكتابة، بالنسبة لكل من يعيش في الوطن، وكنت أفعل مثل ذلك على صفحته، مبيناً رأيي مختلفاً معه، أو متفقاً، من دون أن يثير ذلك أي استفزاز لديه، رغم أنه من عداد قائمة الأسماء الأكثر تقديراً بالنسبة إلي: واقعاً لا افتراضاً، لما يتوافر فيه من خصال حميدة، قوامها حسن الأخلاق، وسعة الثقافة، واستيعاب الآخر، وكل هذا ليس بغريب على سليل أسرة علم وأدب!
ما إن سمعت بنبأ مرضه، حتى بادرت بكتابة بطاقة تمن بالشفاء له، باسم الاتحاد العام للكتاب والصحفيين، لأعلم، بأن هناك من لايريد نشر الخبر، ما جعلني أعلم الزميل المحرر بضرورة طي البطاقة، وإن لم يرق لي هذا التنبيه، إلا إنني تفهمته، وأصررت على عدم إعلام أخي الكبير أبي بيمان به، عندما كتب إلي في الخامس من شهرأيلول الجاري. أي قبل بضعة أيام من رحيله، البارحة ليلاً، وبعد أن طمأنني عن صحته ابن أخيه الصديق الكاتب والسياسي كومان حسين، بل بعد أن كتب إليه هو نفسه وكانت آخر عبارة كتبها لي “جزاك الله خيراً”، من دون أن أعلم أن هذه العبارة هي آخرما سيكتبه إلي!
وإذا كان أبو بيمان قد توقف قلبه عن النبض بعد ساعات قليلة، من رحيل الكاتب رفعت داوود- وبين الرجلين العديد من الصفات- أو القواسم المشتركة، كمربيين وكمثقفين وككاتبين رحلا في يوم واحد من جراء فيروس كورونا، بل كونهما سليلي أسرتي رجال دين. علماء، فإن في رحيله وهو في العقد السابع من عمره ما يدل-كما حالة الأديب رفعت داوود – على بؤس منظمة الصحة العالمية التي تخاذلت في تأمين اللقاح لمسني بلد أجهز عليه الحرب، وها هوكوفيد التاسع عشر يواصل مهمة ما لم تفلح الحرب في تحقيقه.
سلاماً لتراب ديركا حمكو. جارة دجلة العظيم، وهي تحتضنك، بعد أن كان ذلك المكان البهي: قرية، وريفاً، ومدينة، ملعب ملعب طفولتك، ومسرح شبابك و فضاء وملاذ كهولتك، وشيخوختك، لم تتخل عنها، مؤثراً عليها كل غوايات المدن المخادعة، وإن رحت تنسب ذاتك إلى الفضاء الأوسع: الجزيرة. عاصمة بلدك، و وطنك المكبل، اسماً أول، موازياً لاسمك في- البطاقة الشخصية- أو على غلاف كتابك، أو توقيعاً على مقالاتك وبحوثك ودراساتك العميقة التي كانت خلاصة تجربة وثقافة عميقتين!