الكورد والأزمة السورية

جان كورد 
الأزمات عديدة ومختلفة، فمنها الاقتصادية والمالية والصحية والسياسيةوالنفسية، تصيب الفرد والمجتمعات، في فترةٍ من الفترات، وقد تُحدِثُ شروخاً عميقة في حياة الإنسان والمجتمعات، ومنها ما يستمر حيناً من الدهر بسبب الجهل والأخطاء وتعمّد البعض إدامتها لأسبابٍ نفعية خاصة أو يتّم التغلّب عليها بقوى ذاتية أحياناً وبدعمٍ من الآخرين أحياناً أخرى، وليس هناك فردٌ أو مجتمعٌ لم ولا يتعرّض للأزمات التي منها البسيطة ومنها العنيفة التي ترهق الأبدان والنفوس البشرية، ولربما تتحوّل إلى كارثة عظيمة، مثل أزمة الكورونا الصحية التي نعاشرها الآن على المستوى العالمي، أو تصيب اقتصاد بعض الدول كما هو الحال في تركيا اليوم، حيث هبط سعر الليرة التركية إلى حافة الانهيار شبه التام، وتعاني تركيا من أزمةٍ ماليةٍ خانقة. ومن الأزمات النفسية ما يصيب الإنسان بأمراضٍ وعلل وقد تؤدي به إلى المستشفيات الخاصة بالأمراض العقلية.
لا يستطيع أحد إنكار وجود واستمرار “الأزمة الشاملة” في سوريا منذ تحوّل التظاهرات السلمية للشعب السوري في عام 2011 إلى تحرّكات مسلّحة، قام بها النظام ضد الشعب وردّ عليه المتظاهرون بالسلاح، فدفع الطرفان بالبلاد إلى الانزلاق صوب حربٍ أهلية دموية دمّرت كل سوريا على مختلف المستويات، فإذا بالسوريين يجدون أنفسهم في “أزمة شاملة”، مجتمعية، سياسية، مالية، اقتصادية، صحية ونفسية، وأخطر ما فيها هو تعرّض السوريين إلى مذابح جماعية وتدمير ومدن وتغيير ديموغرافي للسكان في العديد من المناطق في البلاد وتهجير قسري ونزوح اضطراري بذريعة “المصالحات” بين قوى المعارضة والجيش السوري… ومن نتائج ذلك الانسياق السريع صوب الأزمة العميقة الشاملة، هو تواجد عدة جيوش أجنبية على الأراضي السورية، الأمريكية، الروسية، التركية والإيرانية، إضافة إلى العديد من المنظمات المختلفة الألوان والأسماء والكثير من الفصائل التي يقودها مغامرون مرتزقة، من شتى البقاع، في ظل النظام وفي أحضان المعارضة على حدٍ سواء، ووصل الأمر إلى حد مساهمة السوريين البائسين في حروبٍ بعيدة عن بلادهم، لا ناقة لهم فيها ولا جمل، واستبداد قوى غير سورية بالشعب السوري دون أي رادع خلقي سوى أنهم يعملون للحصول على مزيدٍ من القوة والمال والاستبداد بالسوريين. ولم يعد للدولة هيبة أو قدرة على الخروج من مسلسل توالي الأزمات، حتى ولو اتفق النظام مع المعارضة، حيث كلاهما ضعيفان، والضعفاء يحتاجون لمن يساعدهم في حل مشاكلهم وإسعافهم في مرضهم.
والطامة الكبرى تكمن في أن كل هذه الدول التي لها جيوش في سوريا، وفي ظلالها كافة المنظمات السياسية التابعة والفصائل المسلّحة، لا تقدر على إيجاد حلٍ للأزمة السورية الشاملة، حتى أن هذه الدول تفشل حتى اليوم في تحقيق التقارب بين النظام والمعارضة على مستوى تحديث الدستور السوري، الذي لربما يكون الخطوة الأولى للتفاهم الوطني بين الجميع… وإنّ إحداث أي منعطف في المسارالسوري الوطني، بعد أن تأكّد الجميع من فشل الحل العسكري، يكمن في تفكيرالنظام والمعارضة على حدٍ سواء، وليس التفكير السطحي أو الأعمق قليلاً بل التفكير المستنير الذي يدخل في تلافيف الأزمة العميقة ويخرج منها بحلول معقولة وموفّقة بشكل يرضى به الطرفان المتحاربان أو المتخاصمان، وكذلك من وراء الطرفين من القوى الاقليمية والدولية، أي الحل الناجع الناجح…
ربما كان بعض الساسة السوريين والشرق أوسطيين يستهترون بقوة المكوّن الكوردي في سوريا، ومنهم من كان ينكر وجود الكورد في سوريا أصلاً ومنهم من كان لا ينكر وجودهم ولكنهم لا زال يستهتر بمطالبهم القومية المشروعة، حتى أضطر بعض القوى الكوردية إلى إلغاء الصفة القومية عن حراكهم السياسي – الثقافي إرضاءً لأعداء الشعب الكوردي والدول الألد عداءً للكورد وكوردستان، السوريين منهم وغير السوريين. ولكن ثبت للجميع من أصدقاء وأعداء للكورد خلال العقد الأخير من الزمن أن هذا المكوّن له دورٌ لا يقل أهمية عن دورأقوى التنظيمات السياسية السورية، بل يمكن أن يتحوّل إلى قوة سياسية – عسكرية واقتصادية تؤّثر في مجمل الصراع السوري المستمر، كما يمكن له أن يصبح لحمةً وطنية بين المعارضة والنظام، أي سبباً من أسباب فض الأزمات السورية، الواحدة تلو الأخرى… وعندما اكتشفت الدول التي لها مصالح في دوام الأزمة السورية، فقد دفعت سياسة الدولتين تركيا وإيران صوب تحجيم وتقزيم القوة الكوردية في سوريا، فالدولة التركية المدعومة من قبل حلفائها في حلف النيتو لا تنفك عن اتهام الكورد ب”الانفصالية” عن سوريا، وكأن سوريا مستعمرة تركية، وتشن الحرب عليهم بهدف قضم مناطقهم في الشمال السوري لهدفين: الأوّل هو منع الكورد من تحقيق أي مطلب قومي لهم في سوريا، والثاني هو توسيع الممتلكات التركية والوصول إلى منابع النفط في المنطقة الكوردية الواسعة، وتستغل حماقة بل خيانة بعض رؤوس ما يسمى ب”المعارضة السورية” لتحقيق أهدافها التوسعية على حساب الشعب السوري عامةً والمكون الكوردي منه خاصة.
أما إيران، كما نفهم من مسعاها لتحقيق تفاهم واتفاق بين المجلس الوطني الكوردي “السوري” وحزب الاتحاد الديموقراطي “الأوجلاني” في عام 2016، عن طريق دعوة الطرفين الكورديين إلى اجتماع حضره كل من الدكتورعبد الحكيم بشاروصالح مسلم، فقد عرضت المال والسلاح على المجلس الكوردي ووعدت بالسماح لبيشمركة روژ بدخول سوريا قادمةً من جنوب كوردستان، في حال وقوفه مع النظام ضد المعارضة كما يقف حزب أوجلان وتابعه السوري حزب الاتحاد الديموقراطي وحكومة العراق آنذاك، فرفض المجلس أن يقف ضد المعارضة السورية، بل انضم إلى ما يسمى بائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية بالحث والدفع من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاء الكورد، أي الرضوخ للمظلة التركية التي يحملها نظام ديني – عنصري معادٍ لكل طموحات الشعب الكوردي، حتى ولو أرادوا نصب خيمةٍ لهم على سطح المريخ، باعتراف بعض زعمائهم الطورانيين، ومنهم من ينكر وجود “كوردستان” بقوّة مثل العجوز باغجلي وكأنه لا يدري وجود جزأين معترف  بهما دستورياً في إيران والعراق، حيث في إيران ولاية باسم كوردستان وفي العراق اقليم باسم كوردستان… 
وعلى الرغم من خلافات الكورد الداخلية فيما بينهم، وهي مشاحناتٌ تثيرها أعداء الكورد الظاهرين والباطنين، ويستفيد منها العملاء والمرتزقة بين الكورد أنفسهم، إلاّ أن لهم أهداف تكاد تكون متطابقة ومتشابهة من حيث المطالب القومية، السياسية والإدارية، وكذب الذين يتهمون الكورد بالانفصالية، إذ ليس هناك حزب كوردي سوري يطالب بدولة كوردية مستقلة ومنفصلة عن سوريا، والشيء الآخر الذي يمكن أن يجعل الكورد كتلة بينية متماسكة تستطيع تقريب مزيدٍ من التقارب بين المكونات السورية، فهو رفض الكورد لمذهبة الصراع السوري، فالكورد ليسوا طائفيين أو متشددين دينياً، ويعيش بين ظهرانيهم ومعهم من شتى الأديان والمذاهب والطوائف، منذ قرون، ولربما المجتمع الكوردي من أكثر مجتمعات الشرق الأوسط تسامحاً عقيدياً، والتاريخ يثبت ذلك، على الرغم من أن مرحلة الحرب السورية الأهلية قد أثارت النعرات المتشنجة في المجتمع السوري بأسره، وثمة من لا يكف عن هرائه ونفث أحقاده التاريخية على الكورد، ثم يلجأ إليهم حين يتعرّض للتقتيل والتهجير…   
فما العمل؟
برأيي أن يمنح النظام وتمنح المعارضة الحراك السياسي الكوردي مجالاً أوسع لرأب الصدع السوري والتخفيف من وطأة الأزمات الخانقة التي يودّ الجميع الخروج منها، وهذا لن يتحقق إلا أن يتفق الكورد فيما بينهم على الحد الأدنى من التعاون والتنسيق والتوحد في سبيل أن يتحولوا إلى قوة سياسية سورية فاعلة، ويعني أيضاً الاستفادة القصوى من حجم التواجد الكوردي على الأرض في أوروبا وسواها بحيث يمكن للكورد أن يصبحوا نواة أي حراك شعبي وأي حراك حقوقي – إنساني يدافع عن الشعب السوري ويطالب العالم بدعمه للتخلص من أزماته، ويكون لهم “لوبي” قادر على الصعيد الدولي. 
ولكن مساهمة الكورد في مجمل السعي الوطني السوري لن تتم بالشكل المأمول إلاّ بتنازل النظام كما المعارضة أيضاً عن غرورهما واستكبارهما ورفضهما منح الكورد حقوقهم المسلوبة منهم والتي تنص عليها الشريعة السماوية والقوانين الدولية، وهذا يتطلب الاستمرار في الحوارالوطني الجاد والصادق من أجل إحقاق الحقوق، إذ ليس هناك من يعمل دون أجرلاستمراراستغلاله وكبت حريته وسلبه خيراته ومنعه من العيش الكريم على أرض آبائه وأجداده… 
2/11/2021

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…