إبراهيم اليوسف
ما إن تم الإعلان عن افتتاح مقر لمكتب للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في قامشلي، في أواخر كانون الثاني 2021، حتى راح بعضهم ينظر إلى هذا الإعلان، وكأن كائناً غريباً من كوكب آخر، قد حطَّ الرحال في إمبراطوريته، إلى الدرجة التي خضع لهذا المؤثر- وإن لأول وهلة- بعض الشهود على تاريخ ودور هذه المؤسسة. ابنة المكان، والمولود الأول من نوعه الذي استطاع أن يواصل مسيرته، من دون أن يكون مجرد إعلان سياحي، نزووي، أو مرحلي، موقوت، من دون أية ترجمة، بالرغم من أن المؤسسة التي انبثقت من قامشلي، كمكان ولادة، وبتاريخ 2004، الرقم ذي الدلالة الاعتبارية لدى كل كردي، ناهيك عن رمزية يوم الصحافة الكردية التي شئنا أن يكون مثبتاً في سجلات قيده المدني!،
وكان له أعضاء في: كوباني- عفرين، كما سائر منطقة الجزيرة، كما الخارج- وإن لم نرد التوسع لها- أي للمؤسسة- آنذاك لاعتبارات تتعلق بالحرص على كاتباتنا وكتابنا- يسجل لها، ويشرفها، أنها كانت أول مولود نقابي، محدود شروط النقابية، أو مؤجلها، مع تفعيل بعض ما يلزم في معركة مواجهة الاستبداد الذي بصدد محو الوجود الكردي فوق ترابه. محو الإنسان الكردي في وطنه، عبر آلة تعريب هائلة- كما شبيهتيها من آلتي التفريس والتتريك في جزأين آخرين- ومن دون أي اعتراف لا بالآخر، ولا بثقافته، فكان اسم: رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، كمبادرة أولى لتسمية: اتحاد الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، مدوياً، صاعقاً، وهو يرصد الانتهاكات بعيد انتفاضة الثاني عشرمن آذار2004، أو يصدر بيانات حول بعض القضايا، ما كان يجعلنا متواريين إلى حين، مكتفين بالإعلان عن بعض أسماء زملائنا وزميلاتنا، فحسب!
مؤكد، أن قرار افتتاح مقر للاتحاد في قامشلي لم يكن انفعالياً، فهو في رأينا- في المكتب التنفيذي- ومن حولنا زميلاتنا وزملاؤنا، جاء في لحظته المناسبة، ولا أبالغ قائلاً “في لحظته التاريخية” فلأن قرارنا في العام 2012- ومابعد بأن وضع آرمة على مكتب لنا يعني ما لانريده، واستغرق ذلك سنوات عديدة، في الوقت الذي تشفى، وتشدق أبعاضهم بإعدام هذا المولود، تلفزة، أو عبر بيانات، أو في ندوات ومؤتمرات تآمرية، وكان قرارنا في كل مرة ألا نقدم على افتتاح مقر لنا هناك، لأن لمثل هذه الخطوة دلالات محددة، كانت في عداد ماهو ملغى، وسط معادلة لم نرها، على امتداد بضع السنوات الماضية مؤاتية، وإن كنا نرى في الوقت ذاته أن مجرد إيجاد مقر لن يفرض حضورنا الفاعل، ما لم يكن لنا ما يشفع من دور نؤديه في خدمة أهلنا، لاسيما إن افتتاح مقر كذلك كان يمكن أن يؤثر على خطاب الاتحاد الذي يرى ذاته مستقلاً، إلا من خلال أداء دوره في سبيل خدمة رسالة أهلنا، وثقافتهم، في أحرج مرحلة تاريخية نمرُّ بها، من دون أن ننسى سلسلة المؤامرات التي تعرضت لها هذه المؤسسة، لدواع طالما كتبنا عنها، وهي مثبتة لدى الهيئة التي تقودها، ناهيك عن زميلاتنا وزملائنا الذين كانوا شهوداً، سواء هؤلاء الذين كانوا في الوطن، وتعرضوا للضغوط لترك الرابطة/ الاتحاد، والانضمام إلى الهيئات المولودة بالإضافة إلى من لم ينضووا في هذه الهيئات المستولدة لدواع حزبوية، أو هؤلاء الذين كانوا خارج الوطن، وكان صوتهم أعلى، ولعلنا جميعاً شركاء في اتخاذ هذا الموقف التاريخي في مسيرة العمل النقابي لحملة الأقلام، بعد أن تم- على عجل وعلى إيقاع سقط جدار الخوف وتلاويح و دنو ساعة الصفر- جمع “بعض” من لاعلاقة لهم بالكتابة، ومن قال في قاعة المؤتمر “الانشقاقي” وإن رمم بأسماء جديدة:
” مواضيعي التعبيرية في الإعدادية كانت جيدة وسأبدأ بالكتابة”، أو غير ذلك من الأمثلة التي لا أريد إيرادها لئلا تحال إلى أحد ما، ما أثر على هيبة المؤسسة النقابية بعد أن باتت في سباق من أجل تضخيم أعداد المنضوين تحت أجنحتها!
الخارج والداخل
قراءة جديدة!
بدهي، أن حضور المرء في وطنه، لاسيما في اللحظات العصيبة من تاريخه أمر على درجة كبيرة من الأهمية، كما أنه وفي ظل الدكتاتوريات فإن كثيرين يضطرون لتجرُّع علقم الهجرة، او التهجير بعيداً عن وطنهم، ولعلنا راينا كيف أن أصحاب الرأي كانوا الأكثر استهدافاً، بعد الثورة السورية المغدورة2011، من قبل أمراء وفراعنة الحرب، و أن معادلة البقاء في الوطن، أو الخروج منه، لايمكن أن تستثمر لترجح كفة من هو داخل أو خارج، فوجود الكاتب في الخارج يمنحه فضاء الحرية، وهذا ما يجب ألا يلوح به كامتياز على قرينه، وفي المقابل، فإن من استطاع التكيف مع ظروف الحرب، مغامرة ولا أقول نتيجة ضمان فلا ضمان في زمن الحرب لأحد، لهذا السبب أو ذاك- عليه ألا يجعل من ذلك بطاقة مواطنة ذهبية رقم “1” وقد قرأنا لبعضهم- ومن المثقفين الذين تقاسمنا الحلم والرغيف والهواء- من يقول: غداً، لن تقبل أرضنا أجساد من هاجروها، وأمام عيني أكثر من حالة لمن قال مثل هذه العبارة وهو خارج الوطن أو من حاول الخروج، وهو ما لا نضعه في ميزان المواجهة، باعتبار أن كثيرين منا، وفي لحظات الحرب والحصار انفعل، وجانب الصواب، إلا أن من يغادر وطنه لأن رأسه كانت مستهدفة نتيجة موقفه حين يقابل بأمر من لم يغادر وطنه باعتباره لم يقدم أسباب ذلك، ولا أفصل -وما أكثر من بقيوا هناك وقدموا ولايزالون يقدمون الكثير- أو أوجد لذاته موطئاً تحت ظلال بندقية- هذه البندقية التي تقدس في لحظة ذودها عن الكائن والمكان لاسيما في مواجهة الإرهاب، بتدرجاته، داعشياً وما قبل داعشي وما بعد داعشي، ناهيك عن أن الكاتب، أو الإعلامي اللذين هما خارج الوطن إلا أنهما لم ينفصلا عن أهلهما، وأحوال أهلهما، عبر خطابهما، وليسا بعيدين عنهم، لاسيما إذا قورنا بحالة من لا يقول- داخلياً- إلا ما هومسموح له -وهو معذور- ولعلي إن كنت هناك لربما ما قدرت أن أقدم أكثر منه، إلا أن علي ألا ألغي سواي!
إنني -هنا- أتحدث عن عينات فقط، ممن تبتهج بابتعاد أقرانها، عن الساحة، وترى أن هذه الساحة مطوبة باسمها، ويكون الأمر أكثر درامية أو حتى كاريكاتيرية، عندما نكون أمام اسم- الاتحاد العام للكتاب والصحفيين- الذي كان له حضوره الفاعل في أصعب لحظات مواجهة الطغاة، عندما لم تكن هناك بندقية كردية تسنده، ولا مقاتل بطل يحرسه، بل كانت قوته في كلمته وارتباطه بأسئلة وتطلعات شعبه، وما كان لهذا الناكرعليه حضوره الحالي، أي دور ميداني في المواجهة المباشرة، ولا أقول في الكتابة الجمالية، أو حتى التراثية، أو التي لاتستفز!
أسماء تحفرعالياً
أشير، إلى مثل هذا الأمر، لأن خلطاً كبيراً تم في المشهد الثقافي، وإن كانت أسماء كثيرة تقدم أو ستقدم -إعلامياً مثلاً- أكثر من واحد مثلي، وقد ظهرت بعد العام 2011، في حقول الإبداع، أو الإعلام، وأنظر إلى هؤلاء بعين الإعجاب، بينما المهيمنون على المشهد من بينها أسماء، مهرولة للظهور، من دون أن يشفع لها رصيد إبداعي، ماخلا رصيد تكرار العبارات الممجوجة، في إهاب إدعاء الثقافة. لاضير، لقد تم خلط كبير، بعد انشقاقات صفوف الكتابة، والتموقعات الطارئة المؤسسة، ليس على الخلاف الفكري، وإنما على خلاف تقديم الذات، وما يلحق بذلك من مكاسب معنوية أو ماعداها، وإن كان حق التفكير بتأمين الرغيف مطلوباً، بل مفروضاً، ولكن ليس على حساب أي تنازل!
وسط مثل هذه الحالة، وظهور بعضهم تسلل إلى- رابطة الكتاب- اسم ما أو أكثر، من بينهم، بتخطيط ودراية، في إطار شق مؤسسات المثقفين، تم الاستعداء علينا، ووجدت الرابطة ذاتها معزولة، ولم يبق حولها إلا أقل من عشرين زميلة وزميلاً – تحت التهديد؟- لم نرد أن نسبب مزيداً من وجع الرأس لهم، فلم ينخرط هؤلاء في المؤسسات الطارئة التي باتت تنظف ذاتها، تدريجياً، من هؤلاء الذين أرادوا منها مطايا- وأتحدث هنا عن الكتاب الذين صمدوا قبل العام 2012- وقبل ظهور المؤسسات التابعة للإدارة الذاتية، وباتت أعداد هؤلاء تتضاءل، بسبب الهجرة أو التهجير من الوطن: وهكذا بالنسبة إلى زملاء آخرين في الوطن، وتم افتتاح مكتب لهم. مكتب غير معلن، قررنا تعليق أنشطته أمام التهديدات التي تمت بحق الرابطة، وصرنا نقرأ اللوحة الجديدة، بدقة، إذ كان يجمعنا -خارج الوطن وداخله- رؤية الحرص على إنساننا، ومكاننا، ناهيك عن روح التعاون التي يمكن استشفافها، وقراءتها، منذ عشر السنوات الأخيرة- على سبيل المثال- بالرغم من أن لكل منا رؤيته، إلا إننا نتفق على القواسم المشتركة، وما أكثرها!
هذه اللوحة، التي أتناولها بشفافية، لابد منها كمقدمة لرؤيتنا، كاتحاد عام، للعلاقة الناظمة بيننا وأهلنا الكتاب، إذ نشير إلى هفوات تمت، وإلى متسلقين انكشفت أوراقهم، وها هم ينسحبون تدريجياً- وهم ندرة الندرة وقد يكونون أقل من عدد أصابع يد واحدة- إلا أنهم استطاعوا بدهائهم، شل العلاقة بين الكتاب، كي يشكلوا- أرضيات- لمؤسسات جديدة، تتجرأ على انتهاك وجود مؤسسة جامعة لحملة الأقلام، وبالرغم من كل هذا، فإن من أول الخطوط التي نعتمدها مدّ أيدينا للكتاب جميعاً، على أمل أن نترفع كلنا عن ردود أفعالنا تجاه بعضنا، بعضاً، لتكون لنا هيبتنا، وإن كنا ندرك أن من ينتفع من هنا أو هناك ليس من مصلحته أن يوفر السبل لإقصاء الآخر، وإن ليس بيننا أحد يفكر بمس طريقة أحد في تأمين لقمته، على أن تكون نظيفة، وألا يتحول إلى أداة للاستعداء على أقرانه الكتاب!
جبهة ثقافية!
لم أرد أن أتوغل في هذه المحاكمة، البتة، وإن كنت أستخدم في ذلك ما هو عياني، بعيد عن شخصنة أحد، وذلك لأننا جميعاً، مطالبون، في هذه المرحلة التي عاثت فيه السياسة، بل وآلة الحرب، وشوهت كل ماهو جميل، بل وتقدم كل ماهو قبيح، في ظل تصاعد دخان وسخام وألسنة نيران الحرب، فاستطاع كثيرون ممن تماهوا مع تلك العتمة تحقيق مكاسب ما، عبر طرق نعرفها جميعاً، لذلك فقد تطلعت الأنظار إلى المثقفين، إلا أن المثقف الذي لم يعط المجال للمشاركة في صناعة أي قرار كردي في سوريا، إما بسبب تبعية بعضهم وتزلمهم: حاجة، أو استظلالاً، أو خشية من التأثيم، أو إعدام سبل الوصول إلى مراكز إبداء الرأي، وإقصائهم، أنى جيء ببعضهم ديكورياً، ناهيك عن أنه مثلما تم إفساد السياسة من خلال الدخلاء عليها في زمن مابعد سقوط آلة الرعب، فهو ما حدث في المشهد الثقافي، إذ إنه بات يخيل إلى أوساط هائلة من المبحرين عبرشبكات التواصل الاجتماعي أنهم غدوا: كتاباً، ونقاداً، وشعراء، وقاصين، ومحللين سياسيين، وصحافيين، وإعلاميين، وفي ظل غياب النقد، والجرأة في مواجهة الأدعياء، لذلك فإن الكتاب الحقيقيين، على أصناف إبداعاتهم، ومعهم الفنانون، في المجالات الإبداعية كافة، مطالبون بأن يعملوا ضمن أطر مؤسسية، كخطوة للتنسيق تحت مظلة جامعة، للعمل على جبهات عديدة، من بينها مواجهة أعداء تطلع شعبنا للحرية والتحرر، بالإضافة إلى العمل على التئام الجروح التي خلفتها السياسات الجائرة، لاسيما في سنوات الحرب العشر، ليس لتكريس التمايز، وإنما لإعادة روح الوئام أبناء شعبنا، بعد أن غدا ضحية استبدادات متوارثة، متتالية!