مصطفى هاشم – واشنطن
ضياء عودة – إسطنبول
ضئيلةٌ هي المعلومات القادمة من مناطق شمال شرق سوريا، الخاضعة لـ”الإدارة الذاتية” (الكردية)، خاصة تلك المتعلقة بالشأن الداخلي وماهية التحركات التي تسير فيها القوات الكردية، والتي تنقسم بدورها لقوات أمنية معروفة بـاسم “أسايش” أو عسكرية تحت مسمى “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
ومن منبج على الخصوص التي تعتبر بوابة مناطق “الإدارة الذاتية” من الشرق تتوارد أخبار عن قضايا فساد وعمليات سرقة وتهريب للآثار، وأخرى ارتبطت بعمليات متاجرة بالحبوب المخدرة، في مشهد قلما يتم التطرق له من قبل السلطات الموجودة على الأرض، كونه ملفٌا “حساسا”، ومن شأنه أن يدفع “الحاضنة الشعبية” لسلوك قد يهدد ما تعمل عليه للمستقبل.
وربما يكون التركيز على منبج كون موقعها يحظى بأهمية “استراتيجية” في خريطة الشمال السوري، فهي المنطقة التي تحاذي مناطق نفوذ فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا، ومن جهة أخرى تحاذي أيضا مناطق سيطرة نظام الأسد، وترتبط مع الجانبين بعدة معابر داخلية، أبرزها معبر “عون الدادات”، لتكون بذلك أشبه بـ”المنطقة الحرة”.
وعلى مدار السنوات الماضية من المشهد السوري بات من العرف أن المعابر الداخلية بين مناطق النفوذ المختلفة تعتبر وصلات رئيسية وبارزة لعمليات التهريب، والتي لا تقتصر على نشاط معين دون الآخر، بل انسحب مؤخرا لعمليات تهريب للمواد المخدرة والآثار، وأيضا عمليات تهريب البشر، وهو ما أكدته مؤخرا عدة تقارير استندت في معظمها لتصريحات من القوى المسيطرة على الأرض.
ملايين الدولارات تُسحب من منبج
في أول يوم من العام الجاري، نجح المسؤول المالي الأول في منبج، ويدعى “نضال” في الهروب نحو مناطق سيطرة نظام الأسد ومعه ملايين الدولارات، حسب ما قال مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، ومصدر آخر من داخل منبج لموقع “الحرة”.
يقول عبد الرحمن: “إن نضال ينحدر من ريف مدينة عين العرب (كوباني)، وهو متورط بملفات فساد كبيرة أفضت إلى سرقته ثلاثة ملايين دولار، وهروبه بعد تأمين وضعه في مناطق النظام السوري”.
ما ذكره مدير “المرصد السوري” يؤكده مصدر آخر من داخل مدينة منبج، لكنه يشير إلى أن “المبلغ المسروق هو أربعة ملايين دولار”، موضحا أن “نضال نجح بالهروب مع رجل آخر يدعى لقمان شكري، وهو مسؤول بالجمارك في منبج”.
ويقطن في منبج الواقعة في الريف الشرقي لحلب حوالي مليون شخص، وتخضع المدينة بكاملها لسيطرة “مجلس منبج العسكري”، الذي يعتبر أحد مكونات “قسد”، بينما تنتشر قوات الأسد على أطرافها إلى جانب قوات من الشرطة الروسية، كانت قد اتجهت لتسيير دوريات في المنطقة في الفترة الأخيرة.
وبعيدا عن العسكرة يعتبر “مجلس منبج المدني” الجهة الأبرز التي تتولى تسيير أمور المدنية إداريا وخدميا، وهو أيضا أحد مكونات “الإدارة الذاتية”، التي تسير وفق نظام “الكانتونات”، المعروفة بالتقسيمات الإدارية.
وبعد هروب “نضال” ألقت القوات الأمنية في منبج (أسايش)، القبض على أسرته وحتى أطفاله الصغار، ما دفعه للتهديد عبر صفحته في “فيس بوك” بكشف فساد” الإدارة الذاتية الكردية”.
ويقول مدير “المرصد السوري” إن “الفساد مستشر في منطقة منبج”، مشيرا إلى حالة استياء شعبي من السلطات الكردية، حالها كحال جميع المناطق السورية، على اختلاف الجهات المسيطرة.
التهديد بفتح أكثر من 12 ملفا
اطلع موقع “الحرة” على التهديد الذي نشره “نضال” عبر حسابه في “فيس بوك”، وعلى الرغم من صعوبة التأكد من صحة الحساب أو الاسم، إلا أن مصدرا إعلاميا من منبج أكد المعلومات الواردة في المنشور، لكنه أشار إلى أن اسم “نضال” هو حركي ووهمي وغير حقيقي، وهي طريقة سبق وأن استخدمها المهربون أو الأشخاص الذين تحيط بهم عدة إشكاليات، أمنية أو غيرها.
التهديد الذي لوّح به “نضال” عبر “فيس بوك” تضمن كشف تفاصيل فساد في أكثر من 12 ملفا، أبرزها: “ملف القمح والشعير في أثناء السيطرة على منبج”، “ملف مكتب الرقابة في الرقة”، “ملف عوائل الشهداء”، “ملف الجمارك”، “ملف الأمن الداخلي”.
وأكد “نضال” أن القوات الأمنية في منبج اعتقلت أطفاله، أكبرهم يبلغ من العمر خمس سنوات، لكنه لم يسرد تفاصيل هروبه إلى مناطق سيطرة النظام السوري، بينما لم يرد على الاتهامات الموجهة ضده.
من جهته أكد منسق مجلس منبج العسكري، شرفان درويش، لـ”موقع الحرة” صحة هروب المسؤول المالي في الإدارة الذاتية، “لكن لست متأكدا من كمية المبالغ التي هرب بها بالضبط”.
وكشف درويش أنه بعد هروب نضال، تم اعتقال الأشخاص الذين كانوا على تواصل معه، مشيرا إلى أنه تم التواصل معه، “وهناك احتمال أن يعود مرة أخرى ويقوم بتسليم نفسه”.
سماسرة سجناء “داعش”
قضية “الفساد” المتعلقة بـ”نضال” ليست الوحيدة التي تعيشها مدينة منبج، فهناك قضايا أخرى تتعلق بتهريب سجناء “داعش”، وفق ما كشفه مدير المرصد السوري، بالقول إن هناك قيادات في “الإدارة الذاتية” متورطة في تهريب مساجين من عناصر تنظيم داعش، عن طريق “السماسرة”.
يضيف مدير المرصد أن “السماسرة” يتلقون مبالغ مالية بـ 20 ألف دولار أميركي لقاء تهريب كل عنصر من التنظيم، ويتابع: “15 ألف دولار منها تذهب إلى المسؤولين و5000 دولار للسماسرة”.
ويوضح رامي عبد الرحمن أنه تم تهريب مالا يقل عن 19 عنصرا من التنظيم إلى وجهات مختلفة، أولا إلى البادية السورية، ومن ثم إلى الحدود التركية.
من جانبه قال مصدر لموقع “الحرة” إن “عناصر داعش يتم تهريبهم من السجون، ومن ثم توصيلهم لمنطقة تسمى عون الدادات شمالي منبج، ثم عن طريق مهربين إلى مناطق سيطرة الجيش الحر”.
وقال إنه تم القبض على بعض عناصر داعش الأجانب أثناء هروبهم “وتم إرجاعهم للقامشلي والجهات التي تقوم بالاشراف على مكافحة الإرهاب وليس إلى سجون منبج”.
من جانبه يقول درويش: “المنطقة شاسعة وهناك من يتورط بهكذا عمليات لكن نحن من القوات العسكرية على خط الجبهة نتتبع التهريب واعتقلنا الكثير من عناصر هذه الشبكات، ما أدى إلى انخفاض كبير في تهريب هذه العناصر”.
وسبق وأعلنت “قوات سوريا الديمقراطية” عن إحباط عمليات تهريب لعناصر من داعش من مخيم الهول، وأيضا لنساء عوائل التنظيم، وكان آخر ما تحدثت عنه القوات الكردية، في سبتمبر العام الماضي، إذ نشرت تسجيلا مصورا أظهر عملية إخراج نساء وأطفال من داخل صهريج للمياه، في محاولة لتهريب عوائل لداعش من مخيم الهول.
ويقع معبر “عون الدادات” بين مدينة جرابلس التي يسيطر عليها “الجيش الوطني” المدعوم من أنقرة ومدينة منبج التي تسيطر عليها “قسد”، ويستخدم لأغراض تجارية بينها مرور شحنات النفط القادمة من الشرق، إلى جانب استخدامه لحركة المدنيين على الجانبين.
وحسب ما قالت مصادر عسكرية من ريف حلب لموقع “الحرة” فإن المعبر يخضع لسيطرة “لواء الشمال” في “الفيلق الأول” التابع لـ”الجيش الوطني السوري” وذلك من جهة نفوذ الأخير، كما تنشط فيه قوات من “الشرطة العسكرية”.
المتحدث باسم “الجيش الوطني”، يوسف حمود لم يؤكد بشكل مباشر عمليات التهريب التي تتم من مناطق “قسد” إلى مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، لكنه ألمح بالقول: “هناك حالة واحدة وظاهرة للجميع، وهي عملية وصول زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي إلى محافظة إدلب، قادما من المنطقة الشرقية، وما تبعها من العملية الأمريكية التي أدت إلى مقتله”.
ويضيف حمود الموجود في ريف حلب: “قسد تحاول خلط الملفات بأي شيء لينعكس عليها بالإيجاب، إذ تحاول استهداف مناطق سيطرة الجيش الوطني”.
مخدرات وآثار
ويتهم “المرصد السوري” أيضا مجموعات من قوى الأمن الداخلي “أسايش” بقضايا فساد كبيرة، “وعلى رأسهم المدعو جوان مسؤول أسايش في منبج، وهو من ريف عين العرب (كوباني)”.
ويقول مدير المرصد، رامي عبد الرحمن: “تعد قضية بيع المصادرات، والمتاجرة بها أبرز قضايا الفساد المتعلقة بمسؤول أسايش، حيث تقوم مجموعات فاسدة بالمتاجرة بالمواد المخدرة والآثار التي يتم مصادرتها ووضعها في المستودعات”.
ويضيف عبد الرحمن: “مسؤول أسايش حصل على مبلغ مالي يقدر بأكثر من 100 ألف دولار أميركي مقابل صفقة بيع آثار مصادرة في منبج”.
ويتابع عبد الرحمن: “أفرج المسؤول ذاته عن خلية مؤلفة من 25 شخصا يتبعون للحزب القومي السوري الموالي للنظام السوري، بعد القبض عليه من قبل الأمن العام في قرية تل حوزان بريف منبج، وذلك مقابل مبالغ مالية طائلة”.
ويشير عبد الرحمن إلى أن “مسؤولي المناطق عندما يستلمون مهامهم يبيعون للمنقب عن الآثار حق التنقيب مقابل مبلغ مالي”.
في المقابل يقول المصدر الذي تحدث إليه موقع “الحرة”: “هناك فساد في إدارة الجمارك، عن طريق قبض رشاوي وإدخال بضاعة ممنوعة إلى المدينة، من خلال الشاحنات التي تدخل من بقية المناطق. يكون من ضمنها مواد مخدرة ممثلة في حبوب الكبتاغون”.
“مبنية فوق مدينة تاريخية”
وتعتبر منبج بريف حلب الشرقي مدينة “مبنية فوق مدينة تاريخية قديمة”، حسب ما يقول نائب هيئة الثقافة في “الإدارة الذاتية”، رستم عبدو.
ويضيف في حديث موقع “الحرة”: “سبق وأن شهدت المدينة تعديات منذ فترات قديمة”، لكنه لم يعلّق على قضايا سرقة الآثار والتهريب التي ذكرها “المرصد السوري”، مشيرا إلى أن هذا الأمر من اختصاص مديرية تابعة للجنة الثقافة بـ”مجلس منبج المدني”، والتي تعمل على موضوع الحماية.
من جانبه يقول قحطان الشرقي وهو كاتب وصحفي من منبج: “قسد ومنذ سيطرتها على منبج اتجه بعض المسؤولين فيها إلى تجارة الآثار”.
ويضيف الشرقي في تصريحات لموقع “الحرة”: “أكبر قصة تتعلق بذلك كانت في أثناء إزالة بناء كامل بجانب الثانوية وسط المدينة، بحجة إنشاء بناء جديد، لكن هذا الموقع كان أثريا بامتياز”.
ويوضح الكاتب الصحفي المقيم في ولاية هاتاي أن “إزالة البناء تمت بمشاركة خبراء فرنسيين، وفيما بعد تواردت أنباء عن نقل بعض القطع الأثرية من المنطقة إلى مناطق سيطرة نظام الأسد، وقسم آخر إلى كردستان العراق”.
وحسب الشرقي، فإن القصة المذكورة “انكشفت بعد أشهر، الأمر الذي أدى إلى صراع داخلي بين القوات الأمنية التابعة للإدارة الذاتية”.
ومن جانب آخر يشير الكاتب والصحفي إلى أن التنقيب عن الآثار في مناطق شمال شرق سوريا، وخاصة في منبج اتخذ منحى جديدا في العامين الماضيين، إذ اتجه مسؤولين في “قسد” للتنقيب، تحت غطاء حفر الأنفاق العسكرية في المنطقة.
قرارات لتسهيل “الفساد”
هناك عدة قرارات تم إصدارها من قبل “الإدارة الذاتية”، لكن القيادات التي أصدرتها هي التي تخالفها من أجل تجميع الأموال، وفق المصدر الذي تحدث إليه موقع “الحرة”.
ويضيف المصدر: “على سبيل المثال، هناك قرار بعدم دخول أي شخص إلى منطقة منبج لا يكون مكان إصدار بطاقته الشخصية المدينة، لكن حاليا تقوم قوات أسايش والاستخبارات التابعة لمجلس منبج العسكري، بتهريب الأشخاص من مناطق درع الفرات إلى منبج دون معرفة خلفية الشخص الذي يتم تهريبه”.
ويوضح المصدر أنه يتم تهريب الشخص الواحد مقابل 200 دولار، مشيرا إلى أن هناك المئات يوميا يتم تهريبهم، ويتابع: “من ضمن قضايا الفساد يتم إدخال سيارات تهريب من مناطق الجيش الحر إلى المدينة، وهو أمر ممنوع قانونا. تهريب السيارة الواحدة يكلف أكثر من ألف دولار”.