سعيد يوسف
ثالثاً – بين ماركس واوجلان :
بقي اوجلان ماركسياً حتى قبيل اعتقاله، وسجنه في جزيرة امرالي. أي حوالي ثلاث عقودٍ من الزمن. قبل أنْ يعلن الطلاق معها. فما الذي حدث..؟. وكيف لتنظيم يبدّل ايديولوجيته، وبمقياس /١٨٠/. درجة. ودون اعتراضات تذكر، أو انشقاقات تقع. مما قد يشكل انعطافا في تاريخ حركته..!
ما نريده هنا هو اجراء مقارنة بين القطبين
أوّلاً – أوّل ما يلفت الانتباه هو عنوان مؤلّف/كتاب اوجلان “مانيفستو”. وهو نفس العنوان الذي حمله كتيّب، ماركس وانجلز ” مانيفستو البيان الشيوعي”.( ١٨٤٨). والمترجم للغة العربية باسم البيان الشيوعي.
اكتسب الكتاب شهرة عالمية، يقدّم فيه المؤلفان فهما جديداً للعالم…من خلال رؤية جدلية تطورية لحركية المجتمعات البشرية،.. يلعب فيها الصراع الطبقي، الدور الأبرز في تاريخ تلك المجتمعات. وبالمقابل يسعى اوجلان في كتابه، نحو تأسيس علم اجتماع جديد. بغية اعطاء تفسير شامل لتطور المجتمعات البشرية.
وما كتاب اوجلان :” المختارات” إلا تقليداً أيضاً لكتاب لينين، الذي بحمل العنوان نفسه.
ثانياً – وضع ماركس وانجلز مخططاً تطورياً للمجتمع البشري، عبر خمس تشكيلات اجتماعية. أولاها المجتمع المشاعي، وهو مجتمع لا طبقي مكتفٍ ذاتياً، اقتصاده الصيد والقنص، ومثله يفعل اوجلان، لكنه يسمي المجتمع الأول بالمجتمع الأخلاقي والسياسي، وقد سبق الحديث عنه. إلا أن اوجلان يقترب من روسو كثيراً حول هذا المجتمع.
ثالثاً – التشكيلة الاجتماعية الرابعة لدى ماركس، هو المجتمع الرأسمالي، الذي ظهر قبل قرنين من الزمن، وعلى انقاض المجتمع الاقطاعي. أما عند ا جلان فان الرأسمالية ظهرت منذ أكثر من( ٥٠٠٠).
عام لدى السومريين. وهذه فكرة اندريه فرانك كما بينا سابقاً.
حيث تشكّل الاحتكار.( المال-والسلطة).
رابعاً – محرك التاريخ عند ماركس وانجلز هو الاقتصاد وبتراكمه عند البعض، انقسم المجتمع الى طبقات، وهذا ما ولّد الصراع بينها، وفق قانون ديالكتيكي جدلي وتاريخي، أما عند اوجلان فليس الاقتصاد. بل. ( المال والسلطة). هو المحرك وهذه فكرة فرانك أيضاً.
خامساً – التشكيلة الاجتماعية الأخيرة عند ماركس، هو المجتمع الشيوعي اللاطبقي، حيث لا سلطة ولا دولة ولا استغلال، إنه مجتمع الرّفاه والرّخاء. يقابله عند اوجلان نظام الحضارة الديمقراطية حيث لا سلطة ولا دولة ولا استغلال، وكلاهما جنتان أرضيتان .
سادساً – القوّة الثورية التي يعتمد عليها المشروع الماركسي، هي الطبقة العاملة. لذلك رفعت الماركسية شعار وحدة العمال
يا عمّال العالم اتحدوا…من أجل اسقاط الاستغلال والاحتكار…إلا أنّه وللأسف لم يتحد العمال لا قطريّا، ولا محليّا، ولا عالميّاً. كما لم تتضامن ثورة اكتوبر مع حركات التحرر الوطني العالمية إلا على ضوء المصالح. ولم تتشكّل دكتاتورية الطبقة العاملة في المرحلة الانتقالية الاشتراكية، بل تشكلت دكتاتورية الدولة الشمولية.
أمّا عند اوجلان فإنّ القوّة التي يعتمد عليها في مشروعه، فهو الرّهان على وحدة الشعوب.. فشعاره : يا شعوب العالم اتحدي. وهنا نجد أن المساحة / الكم البشري بات أكثر اتساعاً وشمولاً وعسراً. الرّهان هنا على أخوّة الشعوب، هو كالرّهان على أخوّة العمال، وأخوّة المؤمنين اسلامياً، أو المستضعفين بالتعبير الخمينيّ .
وهنا أراهن أنّ الشعوب لن تتوحد وتتحد ضدّ سلطاتها و دولها، من أجل شعوب مقهورة كالشعب الكوردي. لا بل أنّ الصعوبة هنا أكبر.. فكيف يمكن للشعب الكوردي أن يرفع شعار أخوّة الشعوب، وهو الحلقة الأضعف وهل يمكن أن ينجرّ إلى جانبه الشعب التركي أو غيره ويدافع عن حقوقه…. ؟. إنّ ذلك يستلزم وعيا عميقاً قد لا يتوفر لمئات السنين..!.
سابعا ً- نقطة أخرى أودّ الإشارة إليها، بخصوص نمط الانتاج الأسيوي الإشكالي، حيث لم تحدث ثورات برجوازية في المجتمعات الأسيوية وفق النمط الأوروبي للانتقال نحو الاشتراكية فتمّ الرّهان على حركات التحرر الوطني لإنجاز مهام الثورة البرجوازية. وهو ما اخفقت فيها تلك الحركات. و بالمقابل يراهن اوجلان على أخوّة الشعوب للانتقال نحو الحضارة الديمقراطية، ودون المرور بالمرحلة القومية، مما يعني حرمان شعوب كثيرة من حقوقها القومية المشروعة وبالتالي ضياعها وذوبانها.
وهكذا يعلن اوجلان عداءه للاشتراكية المشيّدة، التي خدمت الرأسمالية بقناعته لا بل ويفضل الأخيرة عليها. فكتاب ” رأس المال” لماركس . ليس إلا دعاية امبريالية، واقتصاد سياسي برجوازي.( ص ٢٤١). وماركس يطمس الحقيقة أكثر من إنارتها.( ص. ١٢٨).
من مآخذه على الماركسية أيضاً، ادّعاؤها العلمية البحتة، وهو ادّعاء يقع فيه اوجلان كذلك. كما أنّ الماركسيّة فشلت في تحليل السلطة والدولة القومية برأيه. أمّا التمايز الطبقي عند اوجلان فهو تطوّر سلبي بالمعنى الأخلاقي، بينما يقيّم كضرورة وقانون حتمي عند ماركس.( ص. ٣٦٥-٣٦٦ – ٣٦٧ ).
رابعا – اوجلان والدولة القومية :
بدأ اوجلان حياته السياسية قومياً، وانتهى منها إلى شخص ضد القومية، وتبنى فكراً يمكن وصفه بميتا قومية، فكراً أممياً وبتوليفة جديدة تم نسجها وجمعُ بنات أفكارها من مصادر فكرِ الحداثة، وما بعد الحداثة الأوروبية كما أوضحنا .
أما لماذا هذا التحول الفكري الجذري فتلك مسألة أخرى، وربما الجواب عنده.
فلماذا يناهض اوجلان الدولة القومية..؟
وما هي حججه ومبررات عدائه الشديد لها. من أجل ذلك سوف أقدّم جملة صفات ينسبها اوجلان للدولتية القوموية دعماً لموقفه . منها تتعلق بعوامل وظروف اجتماعية خارجية، وأخرى تعود لعوامل ذاتية . أما الخارجية فهذه بعضها :
١ – الدولة القومية توجهت وتطورت باتجاه الفاشية والتطرف، ودليل ذلك الحروب والنزاعات.( ص. ٣٨٥).
٢- الدولة القومية بلا أخلاق وسياسة، ففي ظلّها اختزلت الأخلاق والسياسة إلى أدنى مستوياتهما، وبلوغهما شفير الفناء.( ص. ٣١٣).
٣- الدولة القومية مارست الإبادة الثقافية بكل معنى الكلمة، حيث قامت بإفناء جمع الثقافات القبلية والعشائرية لصالح هيمنتها.( ص. ٢٣٥).
٤- الدولة القومية تجرّد الشعب والمواطن من كل حقوقه الثقافية والمادية والمعنوية، ويتعرّض لأبشع أشكال العنف والاستغلال تحت ذريعة الدّولة القومية الوطنية.
( ص. ٢٧٤).
٥- الدّولة القومية خادمة للرأسمالية العالمية، والأكثر وفاءً لها، فالسلطة تؤلّه الدولة القومية مركزيّاً و وحدويّاً.( ص٢٧٥).
فهل هذه الصفات مقنعة وكافية لهذا العداء السافر للدولة القومية.. ؟
فبالنسبة للبند الأوّل لا ننكر أن بعض الدول القومية، تطورت باتجاه الفاشية والحروب، ولكن ليس كلها مما يعني أنّ التعميم هنا خاطئ، كما أنّ الحروب أو العدوان لا تقتصر على الدول القومية. مما يعني أنها ليست صفة جوهرية وثابتة للدولة القومية، بل هي صفة عرضية و زائلة فها هي المانيا النازية تحوّلت إلى دولة ديمقراطية وبأجلى صورها ومعانيها.
فليس ثمّة قانون حتمي يقود الدولة القومية نحو الفاشية والعنف.
ثمّ أنّ الحروب كانت ولا زالت ملازمة للوجود البشري تاريخياً، بصرف النظر عن كونه منتظم في دولة قومية، أو ملكية أو امبراطورية. ..!
أما مسألة الأخلاق والسياسة، فهي مسألة نسبية كذلك ولامسوّغ لرفع الأخلاق عن الدولة القومية حصرياً .
وأما مسألة الإبادة الثقافية فإنها حجّة واهية، فتغير الثقافات وتبدلها يخضع لصيرورة الحياة الاجتماعية، وتبدّل البنية المادية والاقتصادية، التي تؤدي حكماً الى تغيّر الأنماط الثقافية والسلوكية، مثلاً استعمال الحصّادة الآلية من قبل الفلاح سيؤدي حكما إلى بناء نموذج ثقافي جديد. وكذلك استعمال اللابتوب والموبايل سيؤديان إلى تكوين عادات ونماذج سلوكية، وعلاقات اجتماعية جديدة، فلا يعقل أن نكيل الاتهامات للدولة القومية. أم أنّ المطلوب هو بقاء البشر رعاة أغنام
وماشية، والسير مشياً على الأقدام بحجّة حماية ثقافة القبيلة والعشيرة. والأمر يستوي كذلك على البند الرابع.
أما بخصوص تأليه الدولة والسلطة، فذلك تشخيص سليم وصحيح نسبياً لكنه ظرفيّ وآنيّ يزول تدريجيّاً. وفي كلّ الأحوال هو أفضل من تأليه الأشخاص. لأن الأوطان باقية، فيما الأشخاص راحلون.
ومن الملفت للانتباه، ضمن السياق المذكور، قول اوجلان أنّ انكلترا لو لم تنظّم نفسها في دولة قومية، لكانت آيلة إلى الزوال.(ص.٢٧٠). مما يعني ايجابية الدولة القومية بالنسبة لها . وقياساً على ذلك أليس من حقّ الكورد تنظيم أنفسهم في دولة قومية.؟. وإلا فإنّ مصيرهم إلى الزوال كما أوضح ذلك السيد اوجلان.
كذلك من غير المنطقي أن نحكم بشكل قبلي ومسبق على شعب لم ينظم نفسه في دولة قومية، بأنه سينتهي حكماً إلى العدوان والتطرّف، فالحكم جاء هنا قبل التجربة. علماً إنّ التجارب الاجتماعية تختلف عن التجارب الفيزيائية البحتة.
ثمّة موقف آخر لأوجلان من الدولة القومية يقول فيه : ” أنّ العيش في كنف رمز إله ينحدر من أحد أقدم العصور الغابرة أفضل وأقدس ألف مرّة من العيش تحت ظلّ إلوهية الدولة القومية الراهنة.(ص.١٧٧).هذا الموقف موقف ذاتي وشأن خاص بالسيد أوجلان والشعب الكوردي غير ملزم به، فهولا يبني أهدافه على رغبات وأفضليات شخصية أيّاً كانت تلك الشخصية ، كما لا علاقة له بالتحليل العلمي الموضوعي.
وربما يعود موقف اوجلان المتشنّج من الدولة القومية، الى الممارسات القمعية، وجرائم الإبادة الجماعية، التي ارتكبتها السلطات التركية ضد الشعوب، من الأرمن والكورد والبنطس. لكن تلك الجرائم لا تقتصر على الفترة القومية الحديثة بل تعود جذورها إلى أيام السلاطين وإلى هولاكو وجنكيز خان
والسلاجقة كذلك.
خلاصة وكلمة أخيرة :
لطالما شدّني التساؤل، ودفعني السؤال للبحث عن اجابة تشبع فضولي، عن جذور مشروع الأمة الديمقراطية ، وأهدافه، لكني لم أجد إجابة وافية عند أحد. إلى أن وقع بين يدي كتاب اوجلان المذكور، فقرأته وتتبعت أفكاره، و وجدت ما ساعدني على كتابة هذه الدراسة. علاوة على ذلك عدت للويكيبيديا، ومواقع الكترونية، بحثاً عن معلومات عن الشخصيات الفكرية والاجتماعية التي كانت محطّ اهتمام اوجلان فكان لي ما أردت.
في الفقرة الأولى، حدّدت مصادر الأوجلانية، التي توزّعت بين والرشتاين الذي يرى أنّ لا حل لأي قضية إلا ضمن سياق كليّ وبالفعل هذه نقطة جديرة بالاعتبار. وأخذ عن فرانك فكرته عن التراكم الرأسمالي بدءاً من ميزوبوتاميا، وكونه المحرك للتاريخ وليس الاقتصاد، فيما أخذ فكرتيّ اللاسلطوية والكومونالية عن موراي بوكين. بينما جوردون تشايلد أمدّه بمعطيات اركيولوجية عن العصور القديمة، وحيوات البدائيين….. الخ. وكلّ هؤلاء العلماء ينتمون إلى فكر الحداثة الرأسمالية، أو ما بعد الحداثة.
مما يعني وجود بون شاسع، بين مجتمعات الحداثة الغربية الامريكية المتطوّرة، ومجتمعات الشرق أوسطية المثقلة بكل الموروث الثقافي المتخلّف والمتناقض والمتنافر. فوفّق اوجلان بين تلك الأفكار ، وشكّل منها مذهباً شمولياً وعلى ضوء ذلك المذهب وجد أن لا حل للمسألة الكوردية إلا وفق مذهبه الكلياني.
لقد سبق للكورد أن غامروا بحل قضيتهم على ضوء الفلسفة الماركسية، ولكنهم للأسف اخفقوا وأضاعوا عقوداً من الزمن ودون جدوى. وها هم الآن يتخبطون في نفس المنحى مرّة أخرى، وسوف لن يجدوا الحلّ ثانية.
لقد أعلن أوجلان أن لا مسألة كوردية في سوريا، في كتاب “سبعة أيام مع آبو”. وهو كتاب حواري أجراه نبيل الملحم مع اوجلان. ويدعو الآن إلى القفز فوق سعي الكورد نحو تأسيس دولتهم القومية، لا بل ويدعو إلى الوقوف ضدّها ومحاربتها. مما يعني الوقوف ضدّ حقّهم المشروع في تقرير مصيرهم وبلورة ذاتيتهم القومية.
ليس من حقّ اوجلان الغاء الوجود الكوردي التاريخي في سوريا، وليس من حقه النطق باسمهم. مثلما أنه ليس من حقه مناهضة القومية الكوردية ومعاداتها.
من حقْ اوجلان إنشاء فلسفة خاصة به، أو طرح مشروعه الأممي. لكن ليس من حقه الدعوة إلى إلزام الحركة الكوردية بها. ومعاداة كل اتجاه سياسي مغاير، مما يعني مبدئيّاً الخروج على الفكر الديمقراطي الذي يتشدّق به.
لا أستبعد أن فشل اوجلان الشخصي سياسيا، دفعه إلى تأليف هذا المشروع الأممي الديمقراطي، وذلك كنوع من التعويض عن حضوره الوجودي ولكن عبر فلسفة اجتماعية، غريبة على بيئتنا الاجتماعية والثقافية وربما ثمة عوامل أخرى تسكن خلف هذا المشروع .
إنّ اوجلان مصاب بجنون العظمة، وهو نفسه يعلن ذلك، عندما يرى نفسه كالنبي ابراهيم تارة أوغيره من الأنبياء مرات أخرى وهذا شأنه.
ثمّة سؤال مشروع، ويفرض حضوره.! إذا كان أوجلان ارهابيا كما تدعي السلطة التركية، فينبغي أن يكون فكره ارهابياً، ولا يجوز الفصل بينهما، عندئذٍ يجب حظر أفكاره ومنع انتشار كتبه وتداولها.
ولو كانت أفكاره ارهابية..!. لما حوّلت حكومة انقرة سجن امرالي الى دار نشر توزع كتبه، فما السبب يا ترى هل هو ديمقراطيتها وتمدنها..؟. قطعا لا..! إني لا أجد تفسيراً لما يحدث سوى أنّ الكتب الصادرة من امرالي إنما تستجيب لأجندات السلطة التركية وأهدافها، أو أنها على الأقل لا تسبب لها القلق، وربما تنتظر المزيد من التنازلات، وأنّ مشروع الأمة الديمقراطية، يوفٍر لها الاطمئنان وكذلك لكل السلطات الإقليمية المغتصبة لكوردستان. لأنه يحارب كلّ فكر كوردي مغاير و يدعو إلى الحفاظ على الحدود المجحفة والقائمة الآن ويرفض العبث بها، تلك الحدود التي رسمها كلّ من سايكس اللعين – وبيكو الأثيم وسلطات بلديهما، وتركوا الكورد ضحايا المجازر من شوفينيي السلطات المغتصبة لكوردستان منذ العام. ( ١٩١٦) .