صبري رسول
يُعدّ الحوار أحد أدوات التواصل بين طرفين، شخصين، قوتين أو قطبين، لمعرفة آراء الطرف الآخر، وإمكانية العمل معاً، لجمع الطاقات المتوفّرة، واستغلال الفرص المتاحة، ثمّ إيجاد قواسم مشتركة تنهي الصراع بينهما.
قد يكون الحوار مباشراً، وجهاً لوجه، بين ممثلين عن كلّ طرف، وقد يكون غير مباشر، عن طريق وسطاء ينقلون الرّسائل، ويساهمون في تقريب وجهات النظر، وهذا يحصل غالباً بين الدول.
أثبتت التّجارب أنّ الحوار الكردي- الكردي لن يؤدي إلى أي نتيجة خاصة إذا كان أحد الطرفين مقرّباً من حزب العمال الكردستاني، لأنّ هذا الحزب لن يلتزم بأيّ اتفاقية مهما كانت مهمة ومصيرية، وكل الاتفاقيات التي يوقعها مع الآخرين (الآخر هو طرف كردي) هي مجرّد وسيلة وقتية للتقوية أو لكسب الوقت.
فالأطراف التي ترفض الحوار، أو لا تؤمن به كوسيلة للتفاهم هي الأطراف التي ترى نفسها على حقّ دائماً، ولا تقبل الشراكة مع الآخر المختلف سياسياً، وإذا لجأ إلى الحوار تحت ضغوط سياسية أو شعبية فمن أجل كسب الوقت، وكسر ذراع الخصم، وإخضاعه بالقوة بعد إعلان فشل الحوار وتحميل الآخر مسؤولية ضياع الفرص.
الحوار يمكن أن يكون مفيداً إذا توفرت الشروط الآتية:
– توفّر الإرادة السياسية لإحراز تفاهمٍ من أجل المصلحة العامة، وحتى تكون هذه الإرادة دافعاً إلى تهئية المناخ المناسب يجب أن تكون نابعة من الإرادة الشعبية ومصلحتها.
– النية السليمة، والابتعاد عن المراوغة والتحايل، وعدم الارتهان إلى مكاسب مؤقتة وضيقة على حساب المكاسب العامة التي ستتحقّق بعد التفاهمات.
– الإيمان المطلق بأهمية الحوار، فكلّ الحروب والصراعات تنتهي بالحوار، وحده يكون المدخل إلى إنهاء الصراعات، خاصة بين الأطراف التي تنتمي إلى شعب واحد، أما بخلاف ذلك فلن تنتهي الصراعات ولن يحلّ السلام والوئام بين أبناء مجتمع واحد.
يُصبِحُ الحوار ضرورة ملحّة تفرضها حاجات المجتمع الأساسية الناتجة عن النّزاعات والحروب وآثارهما، فيكون من الأهمية بمكان الاستماع إلى الآخرين لمعرفة ما لديهم، وتغليب روح التّسامح والخير والمصلحة العامة على العصبية المتضخمة من ظروف الحرب وعلى المصالح الأنانية الضّيقة.
في الحالة الكُردية السّورية، برزت كتلتان كبيرتان، إحداها قوة عسكرية تبلورت بعد دخول حزب العمال الكردستاني عسكرياً على الخط واستلامها مناطق كثيرة من النظام لإدارتها وفرض هيمنتها مقابل إسكات الصّوت الكُردي، وتحييد قوته في مواجهة النظام، وبنَت إدارة باسم «الإدارة الذّاتية» يديرها حزب الاتحاد الديمقراطي ومعه مجموعة من الأحزاب والتكتلات المقرّبة من أيديولوجيته، والثانية هي مجموعة الأحزاب الكُردية «الكلاسيكية» التي شكّلت المجلسَ الوطني الكُردي كجسم سياسي يقود الكُرد في هذه المرحلة، وكان يستحوذ على شعبية كبيرة قبل سنوات.
اتّفقت الكتلتان على ثلاث اتفاقيات سابقاً، (هولير1 وهولير2 ودهوك) بإشرافٍ مباشرٍ من الرئيس مسعود البرزاني، إلا أنهما لم تريا النّور وبقيت بنودُهما حبراً على ورق نتيجة التّعصب الذي أظهره (ب ي د) معتمداً على القوة العسكرية وطغيانها الإيديولوجي. الانهيار الذي أصاب الاتفاقيتين خلّف وراءه فجوة سياسية كبيرة، بل قسّم المجتمع الكُردي إلى طرفين متصارعين، فانقسم الشارع الكُردي إلى فريقين تسودُ بينهما لغة الشتائم والتخوين والتّهديد، ومازالت لوحة الانقسام تتفتّت.
لكن مهما كانت الخلافات عميقة لا بدّ من الحوار، لأنه لا يكتسب أهميته من تشابه الأفكار والمواقف بل من الاختلاف، فالوجود الإنساني ككلّ يتحقّق بوجود الآخر المختلف سياسياً وفكرياً، ولا يمكن لأيّ فردٍ أو فريقٍ أو طرف أن يحقّق ذاته إيجابياً إلا بالتفاعل والتفاهم مع الآخر المختلف، لأنّ الإنسان نفسه لا يتحاور مع ذاته إلا من خلال مرآة الآخر.
فالذي لا يستطيع أن يتحاور مع بني جلدته، ويتنازل عن بعض نقاطه الضيّقة، ليبني معه ثقة وتفاهماً بما يحقّق مصلحة المجتمع، لن يكون جديراً في إجراء حوارٍ مماثل مع الطرف الذي يمثّل العدوّ، أو الذي يكون مشروعه نسفاً لطموحه.
فليكن طرفا الكُردي، أقول «الكُردي» بتحفّظ، على ثقة بأنّ أي تنازل منه للطرف الآخر هو تنازل قويّ لمصلحة المجتمع، لأنّ المجتمع الكُردي وصل إلى حافة الانهيار، لأنه فقد نقاط ارتكازه، ومراكز قوته. والتهرّب المقصود، بدافع مكاسب شخصية ضيقة، من بناء اتفاقٍ يفضي إلى الوئام والانسجام، ويجعل للكُرد موقفاً وقوة نوعية، لبناء السلام الاجتماعي مسؤولية كبيرة لن يرحمها التّاريخ.
من أحد أهمّ شروط نجاح الحوار أن يعترف كلّ متحاورٍ بالآخر، بل أن يؤمن بوجود هذا الآخر مكمل له، ويحترم مواقف الآخر مهما كانت هوة الخلاف أو الاختلاف بينهما، وثمّ أن يكون الهدف الأساسي للحوار الوصول إلى صيغة شاملة تنهي التّشتّت، وتبني قواعد بناء المجتمع، وإلا فلن يكون هناك أيّ جدوى من الحوار، بل سيكون ضرباً من السّخرية المرّة ليس فقط من الطرف النّد أو المقابل، بل من الشّعب كلّه، لأنّه يلحق إهانة بعقل وعواطف هذا الشّعب.
أعتقد أنّ الخريطة السّياسية الكُردية في هذا الجزء من كردستان غير قابلة على الإصلاح في الوقت الحالي، ولا يمكن أن يؤدّي أي حوار محتمل إلى نتيجة مرضية للشّعب، لأنّ الطرف المهيمن عسكرياً لا يؤمن بالحوار، ولا يقبل بالشّراكة، بل يطلب من الآخرين الالتحاق به والعمل تحت هيمنته، وهذه إحدى سمات العقلية الشمولية الرّافضة للعمل الجماعي المؤسساتي.، أقول هذا ليس لزرع التشاؤم في الشّارع الكُردي، بل قراءة في لوحة واضحة المعالم.