أنا ولجنة التحديد والتحرير (11)

د. محمود عباس
أما طبقة ولي أمر مجتمعنا وجهلها بأهمية وضرورة الالتزام بالقضية لجميع الكرد دون استثناء، وخطورة إهمالها أو تغاضيها لم يكن يعني بحد ذاته أنها ستكون حجر عثرة في طريق الحراك طوال الوقت، والدليل واضح؛ حيث كل الكرد مستهدفين من قبل المحتل، وغايته هو استبدال سَكَنَة الأرض ببني جلدته، وعليه مهما يكن هذا الآغا متعاونا معه فهو في النهاية  كردي بقضه وقضيضه يجب التخلص منه، وعددهم ليس بالقليل حتى يتفاداهم؛ إجمالا يمكننا القول أن كل قرية كانت لها آغاها، ويدرك المحتل هذا جيدا، ونظرا لهذا كان من واجب الحراك إفهامه، أي الأغا، بما ينتظره مستقبلا من قبل المحتلين، وكان هذا هو المطلوب من الحراك اتباعه، غير أن سجلات تلك الفترة تشي بعكس المطلوب! واعتبار الحراك آغا شريكا للسلطة كان خطأَ ارتكبه، وأعتبرُه قصر النظر في تشخيص تعاون الأغا. صحيح أن منهم من كان متعاونا؛ لكن مدعاة ذلك هو الجهل وليس التعميم، كما كان مروجا يومئذٍ من جهة الحراك عن أولياء مجتمعنا.
  مكشوف أن تغاضي السلطة عنهم في أول الأمر كان القصد منه حرمان الحراك من مصدره المالي، وما كان من الحراك أن تعامل مع هؤلاء بعداء؛ إنما كان يُراد منه بذل الجهد وسبل الإقناع في استمالتهم، لكي يتم التراص والتكاتف بين شرائح الشعب، حارما المحتل من استمالتهم إليه. صحيح أن المحتل بقوته المادية والسلطوية يسهل عليه ذلك؛ إلا إن المستقبل القاتم الذي انتظرهم كان كافيا أن يكون الحجة المقنعة في الاستمالة لا العكس الذي اتّبعه الحراك فأحدث شرخا في وحدة الشعب وتماسكه، كما تبين لاحقا أن الأغا لاقى المصير المتوقع له من قبل المحتل، وخير دليل عليه لجنة الاستيلاء التي تحدثنا عنها وعن فظاظتها غير المبرر. ونظرا لهذا معاداتها وأمثالها في مثل تلك الأوقات يعدها الكفاح التحرري من كبائر الأخطاء ومن الأخطاء القاتلة.
لو شخصّنا بلمحة سريعة على ما نحن عليه الآن من زاوية استدامة رواسب الماضي فينا؛ لوجدناها بكل جلاء أنها موجودة، ولكن برداء عصرنا، لا ننكر أن الكثير من الماضي صار في خبر كان، غير أن ما بقي منه يعيق تخطي العديد من الخطوات الضرورية، ربما لا يعلم البعض أن 42 مستوطنة توسعت للتجاوز اليوم قرابة مئتي مستوطنة أو مزرعة إلى جانب العشرات من المزارع والفيلات الملحقة بمشاريع متنوعة؛ ضمن الأراضي التي تم الاستيلاء عليها بالطرق التي أتينا على ذكرهم في الحلقات السابقة، بل وفي مقالات أخرى نشرتها في الماضي. كما أسلفت هذا المقال مجاله في هذا الإطار ضيق، قد أعود إليه لاحقا، إذا أسعفني الوقت، فأكتفي بأن أنوه أن رواسب ذاك الماضي الذي لم نجنِ منه سوى استفراغ الأرض، وتهجيرنا القسري مشفوعا باستقدام من يستحلّ أرضنا من بني السلطة. وهكذا كررنا كوردستان الحمراء ثانية، ونحن نلقي اللوم على الظروف ونكص الغير لوعوده المقطوعة لنا! فالضعيف من قابليته إيجاد المبررات لفشله.
هذا قدرنا الذي جنيناه بأيدينا بسبب شحة المعرفة بما يجب معرفته من طرق الكفاح لأجل التحرر، والعلة الكامنة برسوخ منقطع النظير في أذهاننا هي أننا متيقنون أن معرفتنا الحالية بخصوص مجهودنا التحرري تام بما فيه الكفاية. وتاريخ نضالنا التحرري الذي فاق قرنين ويزيد، ونحن ما زلنا نكابد الفشل تلو الأخرى. والسؤال هنا: إلى متى سنظل على هذه الشاكلة؟ وكثيرا ما يخطر على بالي السؤال التالي: متى سنعرف ذاتنا وأعداءنا بالشكل المطلوب؟ فالذي يجهل نفسه وعدوه فالفشل رفيقه اللزم.
يبدو أن أسبوع لجنة الاستيلاء، التي كنت حينها ملازما إياها بتكليف من العائلة؛ تركَتْ فيّ آثارا، يصعب عليّ نسيانها، فبين فينة وأخرى تراودني ذكراها، وعلى إثْرِهَا تنتابني موجة من الألم مؤدّاها قلّة حيلتي السياسية حينها. وتأنّبني ضميري على عزوفي عن مواجهتها رغم سني العشرين عاما. ومن جهة أخرى يشعرني إحساسي أن المواجهة لم تكن تأتي بشيء إن حدثت. وكذلك أحس بالندم على متابعتهم أثناء رسمهم الخرائط بالدقة، ومناقشتهم بهدوء على التقارير التي كانوا يحررونها يوميا.
كنت والأخوة من أهل القرية نقدم لهم، من باب كرم الضيافة، ما كان بإمكاننا من الخدمات طوال بقائهم. وأذكر أنني لمرتين، ومن دون علم الوالد، استجبت لطلبهم الداعي لابتياع صناديق من البيرة وقناني من العرق، بعد إلحاح شديد من بعض أعضائها، من المرجّح كان الإلحاح من رئيس اللجنة ذاته. مع استجابتي لما طلبوه ظلت وجوههم جاهمة كالحة، وفي المرتين رافقني بسيارتهم شاب منهم كان لطيفا، وقد ذكرته في إحدى حلقات هذه السلسلة.
اعتقد لو أنني واجهتم ربما لأدّت بي إلى أقبية رجال الأمن، وفي أفضل الأحوال إلى المبيت بين جدران السجون. فالأقبية الأمنية والسجون كانتا السيمة البارزة لسلطة البعث. يا ما عانى قادة حراكنا السياسي من هول تلك الأقبية. وللحقيقة يقال أن قادة حراكنا كانوا من رواد تلك الأقبية والسجون، لم تجنِ نشاطهم آنذاك أي مكسب سياسي وحتى حقوقي لقضيتنا؛ حيث أجواء الحرب الباردة في ذروتها، وقلة معرفة القادة بالعمل في ظل نظام شمولي، معروف منذ البداية لدى احرار ومناضلي جملة من الشعوب، وناهيكم عن الدراسات المستفاضة عن هذا النظام من قبل الباحثين والدارسين في الغرب، وكذلك من ضمنهم معارضي المنظومة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
12/2/2024م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني مقدمة حين تنهار الدولة المركزية، وتتعالى أصوات الهويات المغيّبة، يُطرح السؤال الكبير: هل تكون الفيدرالية طوق نجاة أم وصفة انفجار؟ في العراق، وُلد إقليم كوردستان من رماد الحروب والحصار، وفي سوريا، تشكّلت إدارة ذاتية وسط غبار المعارك. كلا المشروعين يرفع راية الفيدرالية، لكن المسارات متباينة، والمآلات غير محسومة. هذه المقالة تغوص في عمق تجربتين متداخلتين، تفكك التحديات، وتفحص…

طه بوزان عيسى منذ أكثر من ستة عقود، وتحديدًا في عام 1957، انطلقت الشرارة الأولى للحركة الكردية السياسية في سوريا، على يد ثلة من الوطنيين الكرد الذين حملوا همّ الكرامة والحرية، في زمن كانت فيه السياسة محظورة، والانتماء القومي جريمة. كان من بين هؤلاء المناضلين: آبو عثمان، عبد الحميد درويش ،الشاعر الكبير جكرخوين، الدكتور نور الدين ظاظا، ورشيد حمو، وغيرهم…

عبد اللطيف محمد أمين موسى إن سير الأحداث والتغيرات الجيوسياسية التي ساهمت في الانتقال من حالة اللااستقرار واللادولة إلى حالة الدولة والاستقرار في سوريا، ومواكبة المستجدات المتلاحقة على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، تكشف بوضوح أن المتغيرات في سوريا هي نتيجة حتمية لتسارع الأحداث وتبدل موازين القوى، التي بدأت تتشكل مع تغيرات الخرائط في بعض دول الشرق الأوسط، نتيجة…

اكرم حسين اثار الأستاذ مهند الكاطع، بشعاره “بمناسبة وبدونها أنا سوري ضد الفدرالية”، قضية جدلية تستحق وقفة نقدية عقلانية. هذا الشعار، رغم بساطته الظاهرة، ينطوي على اختزال شديد لقضية مركبة تتعلق بمستقبل الدولة السورية وهويتها وشكل نظامها السياسي. أولاً: لا بد من التأكيّد أن الفدرالية ليست لعنة أو تهديداً، بل خياراً ديمقراطياً مُجرّباً في أعقد دول العالم تنوعاً. كالهند،…