ماء الجنون

زاكروس عثمان 
عَلِمَ الوزير ان امطار سوف تهطل تسبب الجنون لمن يشرب مياهها، فاخبر الملك بذلك، سأله الملك: ماذا علينا ان نفعل، اشار اليه الوزير بان يبنوا خزانات يخزن فيها المياه، فان هطلت امطار وتسبب شربها في جنون الناس، فانهما سوف يشربان من المياه المخزنة تفاديا للجنون، عمل الملك بمشورة وزيره وخزن المياه، وحين هطلت الامطار وشرب الناس من مياهها اصيب الشعب كله بالجنون، الا الملك و الوزير بقيا عاقلين لانهما لم يشربا من مياه الامطار.
لاحظ الناس ان تصرفاتهما وسلوكهما تختلف عن تصرفاتهم، فاخذوا يسخرون منهما، يضحكون عليهما واصفين كلاهما بالمجانين، سأل الملك وزيره الحكيم: ما العمل، اجابه الوزير: بعدما اصيب الناس بالجنون تبدلت تصرفاتهم ولان الجميع اصابهم الجنون فانهم لم يلاحظوا تبدل سلوكهم، الا انت وانا سلوكنا بالنسبة لهم غريب كوننا عقلاء ولن يقبلوننا بعد الان وربما يقتلوننا، ارتعب الملك وسأل الوزير وما هو الحل: اجاب الوزير: انت في نظري عاقل وانا في نظرك عاقل، كلانا في نظر شعبنا مجانين، نحن اثنان فقط وهم شعب كامل لهذا لن نستطيع  ونحن اثنين عاقلين اقناع ملايين المجانين بانهم  مجانين، لا سبيل امامنا سوى شرب ماء الجنون لنصبح مثلهم كي يتقبلوننا بينهم، سأله الملك: لماذا لا نرحل، اجابه الوزير: ماذا لو ان امطار الجنون هطلت في كل مكان، وافق الملك رأي الوزير وشرب الرجلان ماء الجنون ولبسوا ثوب الشعب.
رباط الحكي لهذه الحكاية التي سمعتها من جدي، هو ان تسلسلات ثورة المعلوماتية (كومبيوتر.انترنت. موبايل. منصات سوشيال ميديا والذكاء الصناعي) ذهبت بعالم وجاءت بعالم مختلف كليا، حيث اصبحت مظاهر التحول الشامل واضحة جدا في السنوات الـ٣ الاخيرة، و يمكن القول ان العالم الافتراضي اخترق عالم الواقع بل اكتسحه من العمق، وبدأت عولمة ـ مدنية غير حكوماتية ـ جديدة موازية للعولمة ـ الحكوماتية ـ و في الوقت الذي تعثرت فيه العولمة الرسمية ـ الحكوماتية، فان العولمة الموازية تفرض ايقاعها على مجريات الحياة سواء في الدول الغنية او الفقيرة، في المجتمعات المتقدمة او المتخلفة.
 لن نبالغ اذا قلنا ان تأثير منصة تيك توك المالي الاجتماعي والثقافي في العالم يعادل تأثير امريكا او الصين، لقد خلقت هذه المنصة مجتمع مواز يضم مليارات البشر من ثقافات شتى متباينة، ولكن الجميع يمارسون نفس الانشطة ويتبعون نفس الانظمة، ويخضعون لقواعد اللعبة نفسها التي يضعها العقل المدبر في ادارة تيك توك، والذي جعل الربح المالي فوق اي اعتبار، فما عادت القيم المبادئ والاخلاق ذات قيمة، بل القيمة العليا ان تربح وتجعلني اربح معك، فلا تستغرب حين تجد امرأة بدوية من ثقافة متشددة تسكن خيمة ممزقة في قلب الصحراء، تعرض مفاتن جسمها على تيك توك لقاء تحصيل مكاسب مالية مغرية، والطريف ان من يقف خلف الكاميرا يصور هذه السيدة هو رجل متشدد محافظ يكون (اخوها والدها زوجها  او ابنها)، وفي نفس اللحظة تجد امرأة افريقية او اوروبية او امريكية في نفس المشهد، هذا يدل على ان منصات سوشيال ميديا تساهم بفعالية في خلق قيم وافكار عابرة للحدود والثقافات.
ربما تنجح منصات التواصل بعد سنوات قليلة في كسر حاجز الخجل بعدما نجحت في كسر حاجز الخوف، لنجد ذكور واناث من مختلف الثقافات والاديان عراة يعرضون اجسادهم او يمارسون السكس على الشاشة، ما المانع طالما المحتوى بغض النظر عن قيمته المعنوية يحقق ارباح للجميع، ارباح تجعل الدخل المالي لراعي البعير يضاهي الدخل المادي لخريج جامعي.
ما اريد قوله هو ان التغيير ليس قادم بل انه وصل بالفعل، وعلينا التسليم به بغض النظر ان كان يتجه الى الأسوأ او الافضل، او انه يعجبنا او لا يعجبنا، وعليه يجب ان لا نكون عقبة امام اطفالنا للولوج الى هذا العالم الموازي الذي ينقلب الى حقيقة، ربما نحن الجيل الذي عاصر الواقع الكلاسيكي وجزء من العالم الرقمي لم نملك الوعي او الوقت الكافي لإدراك اهمية المتغيرات التكنولوجية، او عجزنا عن التعاطي بشكل كامل مع الانترنت، او تقبل معطياته، لهذا تخلفنا عن الركب فلا بقينا في عالمنا التقليدي ولا دخلنا عالم الديجيتال، بل علقنا في الحلقة الانتقالية بين العالمين ، وليس من الحكمة ان نبقي اطفالنا – من اجل قناعاتنا الخاصة –  عالقين معنا هناك، صحيح اننا نعيش معهم في بيت واحد ولكن عالمهم ليس عالمنا وليس بينهما الا شبه شكلي، ربما احد المراهقين من خلال صنع محتوى واحد او الحصول على ترند واحد يصنع لنفسه مستقبل مادي يعادل مجهود مهندس طيلة عام كامل، فالوضع سريع التقلبات وفيضان المعطيات مستمر، و نحن حائرون لا نعرف ايهما الاصح هل نحن نخطط لمستقبل اطفالنا، ام نطلق لهم العنان ليقرروا مصيرهم بأنفسهم، طالما نحن لا نفهم طبيعة العالم الغريب الذي يقفون على بابه، حالنا مثل الذي يفكر بشراء حمار لابنه فيما الناس تستعمل مركبات اسرع من الصوت، ربما حان الوقت لشرب ماء الجنون.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…