حسين عيسو*
الحادثة المؤسفة التي حصلت منذ يومين في مدينة ديريك والتي آلمتنا جميعا وشكرنا الجهود الخيرة التي بذلت لتطويقها أعادت الى الأذهان هذه الظاهرة الغريبة عن مجتمعنا السوري والتي بدأت تظهر مؤخرا ألا وهي الهيجان الذي يحصل بعد كل حادثة فردية ان كان طرفاها من أثنيتين أو طائفتين مختلفتين
الحادثة المؤسفة التي حصلت منذ يومين في مدينة ديريك والتي آلمتنا جميعا وشكرنا الجهود الخيرة التي بذلت لتطويقها أعادت الى الأذهان هذه الظاهرة الغريبة عن مجتمعنا السوري والتي بدأت تظهر مؤخرا ألا وهي الهيجان الذي يحصل بعد كل حادثة فردية ان كان طرفاها من أثنيتين أو طائفتين مختلفتين
ومع ألمنا لكل مشكلة تحصل بين أبناء الوطن الواحد الا أنها تبقى فردية وقد تحصل في أي وقت ولكن الغريب هو امتدادها فورا لتؤجج المشاعر وكأنها موجهة أو مقصودة ضد هذه المجموعة أو تلك لتشعل نار فتنة جميعنا بأمس الحاجة الى تفاديها لحماية استقرار مجتمعنا السوري المتعدد الطوائف والاثنيات.
ان تكرار بروز هذه الظاهرة مؤخرا ليس في محافظة الجزيرة فحسب بل على مستوى الوطن السوري يؤشر الى مدى عمق الأزمة التي يعاني منها مجتمعنا ويجب أن تدفعنا جميعا الى البحث عن أسبابها والعمل على تلافيها.
أرى أن السبب الرئيسي هو انكفاء كل منا الى جماعته والنظر بعين الشك والريبة الى الآخر والخوف منه نتيجة عقود طويلة من الاستبداد وسياسة الإقصاء والتهميش ونشر ثقافة الكراهية والفكر الاستعلائي والحلول الأمنية البعيدة عن الأسباب الحقيقية وعدم الاعتراف بأن هذه الاحتقانات المجتمعية والتوترات النفسية هي من نتائج ثقافة الاستبداد والاستعلاء التي تمارسها السلطة ونتأكد من ذلك اذا قارنا ما يحصل اليوم بالوضع في أوائل القرن الماضي وحتى أيام الاحتلال الفرنسي نجد أن العلاقات بين أطياف المجتمع كانت أقوى مما هي عليه اليوم وأن التواصل والاحترام المتبادل لخصوصيات كل مكون كان أكبر والوحدة الوطنية أشد تماسكا وأجبرت في الكثير من الأحيان المحتل الفرنسي على الرضوخ للمطالب الشعبية.
في رسائل نهرو لابنته أنديرا غاندي”كتاب لمحات من تاريخ العالم”عن سوريا يقول نهرو: “في عام 1928 اضطر الاحتلال الفرنسي الى رفع الأحكام العرفية……وحاولوا بذر الشقاق بين الطوائف الدينية فأنشأوا دوائر خاصة بالمسلمين والكاثوليك والأرثوذكس واليهود,وأجبروا كل ناخب أن يقترع في دائرته حسب دينه ,وحدثت مشكلة غريبة وطريفة في نفس الوقت في دمشق ,فزعيم الوطنيين مسيحي بروتستانتي (فارس الخوري) ولذلك لايحق له الترشيح في أي من هذه الدوائر الخاصة مع أنه من أكثر الرجال شعبية في دمشق ….فعرض المسلمون أن يتنازلوا عن احدى مقاعدهم للبروتستانت …..واستطاع الوطنيون السوريون وضع دستور ينص على أن سوريا جمهورية تستمد فيها السلطات من الشعب”!.
ألا يبدو الفرق جليا بين الأمس واليوم؟.
في منتصف خمسينات القرن الماضي وقبل تأسيس أول حزب كردي سوري طرح السياسي السوري الكردي المعروف الدكتور نور الدين ظاظا على السيد أكرم الحوراني” رئيس الحزب الاشتراكي العربي” آنذاك فكرة تأسيس حزب سياسي ليبيرالي مبني على فكرة المواطنية السورية ويعترف بالحقوق الثقافية والسياسية والاجتماعية لكافة مكونات المجتمع ,عربا وكردا وآثوريين وغيرهم .في اطار وحدة الوطن السوري .
كانت فكرة الدكتور ظاظا تقوم على تأسيس حزب وطني علماني على طريقة حزب المؤتمر الهندي ورغم رؤية المرحوم ظاظا أن مستقبل بلد مثل سوريا سيكون أفضل بقيام أحزاب ديمقراطية وطنية وإيمانه بأن هكذا حزب يجب أن يكون بقيادة سياسي ينتمي الى الأغلبية العربية لتعميم وتقوية مفهوم المواطنة كما كان غاندي ومن بعده نهرو ,الا أنني أعتقد أنه توجه الى الرجل الخطأ فرجل مثل المرحوم الحوراني المؤمن بهيمنة القومية العربية والمتعجل للوصول الى السلطة عن طريق تسييس ضباط الجيش والانقلابات العسكرية لا يمكن أن يستسيغ هكذا فكرة تحتاج الى عمل وجهد طويلين وان كانت أفضل لمستقبل الوطن
وهكذا رفضت الفكرة التي أعتقد لو أنها نجحت لكنا اليوم في حال أفضل مما نحن فيه جميعا وكانت الموالاة للوطن وليس للجماعة والأفضلية للأصلح وليس للموالاة.
عندما نقارن بين الماضي والحاضر نجد أننا في سوريا نسير بعكس مفهوم التاريخ وقوانين الطبيعة فالمفروض أن تسير الشعوب من التسلط والأفكار المنغلقة الى الديمقراطية والتسامح والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات .
أين تكمن المشكلة اليوم؟.
يعتبر التنوع وسيلة من وسائل التعارف باعتبار كل فريق بحاجة الى ما يملكه الفريق الآخر من خصوصياته الفكرية والثقافية
للتكامل ضمن الوحدة الوطنية لذا فالتنوع والاختلاف مع التواصل والتعارف يؤدي الى مزيد من الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل أما الاختلاف مع جهل بعضنا بالآخر فانه يؤدي الى الشك والتوجس المتبادل والانكفاء الى داخل الجماعة والتشبث بالخصوصية.
فاليوم حين تسمع الى الآشوري يتكلم عن عظمة آشور وأن هذه أرضه والكردي حفيد الحوري ميتانيين والميديين وهي أرضه
والسرياني عن الدولة الآرامية وأن هذه أرضه والعربي لا يعترف بأي من هؤلاء والأرض ملكه فاذا حاول كل طرف الغاء ما قبله أو بعده واعتبر تاريخه وحده كل الحقيقة وانغلق على ذاته مؤمنا بكمالها وعدم حاجته الى الآخرين هنا تكون الكارثة التي يجب أن نتفاداها جميعا.
لكن المنطق هو في اعتراف كل منهم بأنه يمتلك جزءا من هذه الحقيقة وأن فوق هذه الأرض وجد من كان قبله أو بعده وأن كلا منهم يمتلك جزءا من هذه الحقيقة وليس كلها وبضم أجزاء هذه الحقيقة نصبح جميعا شركاء متساوي الحقوق والواجبات في هذا الوطن.
وهذا ما يقوله الأستاذ كبرئيل موشي كورية عضو المنظمة الآثورية الديمقراطية في منتدى الدكتور نور الدين ظاظا وأقتطف بعضا منها :
“…..ثقافة وطنية تعزز ثقتي ويقيني بذاتي وبشريكي وبوطني الذي يختزن كل هذا التنوع الجميل وتجعلني أكثر ايمانا بالغد,هكذا أفهم
الثقافة والتنوع حوارا لا ينقطع وتسامحا بلا حدود ……أن أرى فيكم جزءا من آشوريتي وأن تروا فيّ جزءا من عروبتكم وكرديتكم
أن أرى فيكم جزءا من مسيحيتي وأن تروا فيّ جزءا من اسلامكم …..أن أرى فينا جميعا الانسان التواق الى الحرية والكرامة.
مهما فعلنا لا نستطيع أن نغير شيئا من الماضي لكن نستطيع أن نبني الحاضر ونؤسس معا للمستقبل”.
وأضيف عن المؤرخ الاغريقي هيرودوت:ان هدفي أن أصف أعمال البشر حتى لا تغيب تلك الأفعال عن الأجيال اللاحقة ليتعرفوا
على أسباب المآسي والحروب بينهم فيما مضى” آخذين العبر من أخطاء الماضي”.
مشكلتنا الأساسية اليوم تكمن في ضعف المجتمع المدني لعدم وجود اتحادات او نقابات مدنية مستقلة تساهم في تكريس مفهوم المواطنة وتعزز الأفكار الديمقراطية حول المشاركة والتسامح واحترام الاختلاف وتعريف مكونات المجتمع ببعضها وخلق مجالات التعاون بينها لأن النظام الشمولي ربط كافة الحركات الاجتماعية والمنظمات المدنية كالاتحادات النسائية واتحادات الفلاحين ونقابات العمال والمحامين وغيرها بالترغيب والترهيب بالحزب الحاكم وأخضعتها لسيطرة السلطة .
المشكلة الأخرى هي في الأحزاب السياسية العاملة على الساحة الوطنية لا أرى اختلافات تنظيمية تذكر بين أغلب ما يسمى أحزاب المعارضة “أعني العربية والكردية والآثورية” وما يسمى أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية فجميع أمراض السلطة وحزب البعث الحاكم يبدو أنها انتقلت الى باقي الأحزاب كالمحسوبية والمولاة وعدم المساءلة والسلطوية داخل الهيكل الحزبي ,هذه الأمراض تعاني منها أغلب الأحزاب الموجودة حاليا على ساحة العمل السياسي في سورية ففقدت روح المبادرة والتطور فيها وتحولت أغلبها الى هياكل عظمية تحاول استغلال بعض المناسبات لإثبات وجود وهمي والمزايدة على بعضها البعض وفي كثير من المناسبات نجدها متخلفة عن فكر المواطن العادي كونها منشغلة بإثبات وجودها , ففي مناسبة مثل مناسبة النوروز الذي يعتبره الكرد يوم الحرية وانتصار النور على الظلام وعيد الطبيعة رمز الطفولة والأمومة والأرض الأم “الوطن”الذي لايفرق بين أبنائه كان من الممكن أن يكون يوما لجميع السوريين كون الكرد جزءا من هذا المجتمع لو أن هناك أحزابا ومنظمات كردية سورية تعمل لتعريف هذا المجتمع أن يوم النوروز كخصوصية كردية ليست أبدا ضد باقي المكونات ولا تضر بالوحدة الوطنية كان المفروض بهذه الأحزاب دعوة باقي أطياف المجتمع السوري للمشاركة بهذه المناسبة واعتباره يوما للتواصل بين أبناء الوطن الواحد وتعريفهم بأن هذا اليوم كخصوصية ثقافية كردية هي مثل احتفالات رأس السنة وعيد الأضحى وغيرها من الأعياد جزء من الموزاييك الثقافي الذي تتمتع به سوريا كوطن متعدد الثقافات ومهد للعديد من الحضارات التي تركت بصماتها واضحة من خلال هذا التعدد الثقافي والثراء الحضاري.
لكن وللأسف وبدلا من أن تعمل هذه الأحزاب لإظهار هذا اليوم بشكل حضاري وتقصر مساهمتها على مساعدة الجميع للخروج الى أحضان الطبيعة في هذا اليوم وتأمين راحة المحتفلين , تم تحويله الى يوم حزبي فلكل حزب نوروزه وكل مجموعة تحاول أن تجمع حولها أكبر عدد من المحتفلين حتى يوهموا قياداتهم عن طريق نقل صور الفيديو بكثرة أعدادهم في هذه المنطقة أو تلك كدليل على خدمات المندوبين المحسوبين الجلى للحزب الموقر وقيادته الحكيمة بل أن بعضهم فصل جماعته عن الآخرين محاولين بأساليب شتى دفع أكبر عدد ممكن للانضمام اليهم ما أدى الى بقاء العديد حتى من العائلات الكردية في منازلها فمن خشي الذهاب الى موقع ولم يرغب الانضمام الى مجموعة الموقع الآخر ولا يملك الإمكانات للذهاب الى أماكن أبعد بقي في منزله .
حادثة أخرى لفتت انتباه العديد منذ أيام – قيادي استنكف عن العمل الحزبي لخلاف بينه وبين القيادة ثم تدخل أهل الخير وعادت المياه الى مجاريها وخلال انعقاد المؤتمر تضايق القيادي في احدى الجلسات فخرج من الجلسة ومعه “جماعته” من الكوادر الحزبية ! فهل يمكن تسمية هؤلاء كوادر أم أتباع ؟.
الدليل الأهم على تكلس وخواء وافلاس هذه الأحزاب جماهيريا هو اعتماد بعضها أسلوب أحد الأحزاب الشيوعية السورية أيام الاتحاد السوفييتي السابق أو حزب البعث الحاكم ألا وهو أسلوب الترغيب ببعض المكافآت والمنح الدراسية وهذه تعتبر خدمة للطلبة والشباب والمجتمع شريطة أن تكون الخدمة للأفضل وليس كرشوة مقابل الانتماء الى حزبهم فهذه الطريقة وان كانت تؤدي الى زيادة عددية في أعضاء الحزب الا أنها قد تؤدي مستقبلا الى مشكلة مجتمعية فالانتماء لحاجة أو مصلحة وليس عن مبدأ يحول المستفيد الى أناني انتهازي لا يعرف سوى مصلحته ويصبح عبئا على هذا المجتمع .
اننا وحيال هذا الوضع الذي نحن فيه اليوم بحاجة الى العمل على إعداد وتقوية مجتمع مدني ديمقراطي نشط يهدف الى التغيير السلمي بالعمل داخل الاتحادات والنقابات والجامعات والعمل على تحويلها من وسائل لفرض سيطرة السلطة الى أدوات للتعبير عن المصالح الوطنية .
وأيضا العمل على تنظيم أحزاب وطنية جديدة تؤمن بالمجتمع السوري المتعدد وحرية المواطن والمساواة في الحقوق والواجبات وتؤسس هياكلها التنظيمية على أسس ديمقراطية قبل أن تطالب بالتغيير الديمقراطي فالديمقراطية ثقافة ومجموعة قيم قبل أن تكون سياسة والديمقراطية نظام مجتمعي قبل أن تكون نظاما للحكم ,وأحزابنا في وضعها الحالي وما تعانيه من مشاكل تنظيمية وافتقادها للثقافة الديمقراطية داخل هياكلها لا تستطيع دفع السلطة الى تغيير سلوكها لأن السلطة نفسها تعرف ما تعانيه هذه الأحزاب وأن فاقد الشيء لايعطيه.
لذا أرى أننا أولا بحاجة الى تقوية مجتمع مدني ديمقراطي فاعل يعمل على نشر الوعي بين المواطنين وتحويل اللامبالاة التي تسود في ظل النظام المستبد الى إحساس ناضج ومدرك للمبادئ والقيم الديمقراطية , ونشر الوعي بالمواطنة الايجابية والمسئولة كمواطنين أحرار من حقهم اختيار قياداتهم ومن حقهم تغيير تلك القيادات ان رأوها ليست بالمستوى المطلوب وهذا سيؤدي الى خلق قيادات جديدة واعية تعلم أنها تحت مراقبة الشعب لأن النظام المستبد الذي يسود فيه حكم شخص واحد أو حزب واحد لا يوفر الظروف الملائمة لظهور قيادات سياسية ناجحة وإنما يظهر سياسيون موالون يتملقون لأجل مصالحهم الخاصة والشعب آخر من يفكرون فيه.
فحاجتنا الى نشر الثقافة الديمقراطية يجب أن تكون قبل التفكير في التغيير أيا كان شكل هذا التغيير فالوضع في العراق وقبله في الصومال والكونغو زائير وغيرها من الدول التي كان التغيير فيها نتيجة عمل عسكري دون الاعداد لوعي ثقافي ديمقراطي كانت نتيجتها دمار تلك البلدان لكن في المقابل هناك شعوب عملت في البداية على نشر الثقافة الديمقراطية وتقوية مجتمعها المدني ثم نفذت عملية التغيير الديمقراطي مثل الفليبين واندونيسيا والتشيللي والأرجنتين ودول أوربا الشرقية ولم تخلف مشاكل تذكر.
· كاتب سوري كردي
ان تكرار بروز هذه الظاهرة مؤخرا ليس في محافظة الجزيرة فحسب بل على مستوى الوطن السوري يؤشر الى مدى عمق الأزمة التي يعاني منها مجتمعنا ويجب أن تدفعنا جميعا الى البحث عن أسبابها والعمل على تلافيها.
أرى أن السبب الرئيسي هو انكفاء كل منا الى جماعته والنظر بعين الشك والريبة الى الآخر والخوف منه نتيجة عقود طويلة من الاستبداد وسياسة الإقصاء والتهميش ونشر ثقافة الكراهية والفكر الاستعلائي والحلول الأمنية البعيدة عن الأسباب الحقيقية وعدم الاعتراف بأن هذه الاحتقانات المجتمعية والتوترات النفسية هي من نتائج ثقافة الاستبداد والاستعلاء التي تمارسها السلطة ونتأكد من ذلك اذا قارنا ما يحصل اليوم بالوضع في أوائل القرن الماضي وحتى أيام الاحتلال الفرنسي نجد أن العلاقات بين أطياف المجتمع كانت أقوى مما هي عليه اليوم وأن التواصل والاحترام المتبادل لخصوصيات كل مكون كان أكبر والوحدة الوطنية أشد تماسكا وأجبرت في الكثير من الأحيان المحتل الفرنسي على الرضوخ للمطالب الشعبية.
في رسائل نهرو لابنته أنديرا غاندي”كتاب لمحات من تاريخ العالم”عن سوريا يقول نهرو: “في عام 1928 اضطر الاحتلال الفرنسي الى رفع الأحكام العرفية……وحاولوا بذر الشقاق بين الطوائف الدينية فأنشأوا دوائر خاصة بالمسلمين والكاثوليك والأرثوذكس واليهود,وأجبروا كل ناخب أن يقترع في دائرته حسب دينه ,وحدثت مشكلة غريبة وطريفة في نفس الوقت في دمشق ,فزعيم الوطنيين مسيحي بروتستانتي (فارس الخوري) ولذلك لايحق له الترشيح في أي من هذه الدوائر الخاصة مع أنه من أكثر الرجال شعبية في دمشق ….فعرض المسلمون أن يتنازلوا عن احدى مقاعدهم للبروتستانت …..واستطاع الوطنيون السوريون وضع دستور ينص على أن سوريا جمهورية تستمد فيها السلطات من الشعب”!.
ألا يبدو الفرق جليا بين الأمس واليوم؟.
في منتصف خمسينات القرن الماضي وقبل تأسيس أول حزب كردي سوري طرح السياسي السوري الكردي المعروف الدكتور نور الدين ظاظا على السيد أكرم الحوراني” رئيس الحزب الاشتراكي العربي” آنذاك فكرة تأسيس حزب سياسي ليبيرالي مبني على فكرة المواطنية السورية ويعترف بالحقوق الثقافية والسياسية والاجتماعية لكافة مكونات المجتمع ,عربا وكردا وآثوريين وغيرهم .في اطار وحدة الوطن السوري .
كانت فكرة الدكتور ظاظا تقوم على تأسيس حزب وطني علماني على طريقة حزب المؤتمر الهندي ورغم رؤية المرحوم ظاظا أن مستقبل بلد مثل سوريا سيكون أفضل بقيام أحزاب ديمقراطية وطنية وإيمانه بأن هكذا حزب يجب أن يكون بقيادة سياسي ينتمي الى الأغلبية العربية لتعميم وتقوية مفهوم المواطنة كما كان غاندي ومن بعده نهرو ,الا أنني أعتقد أنه توجه الى الرجل الخطأ فرجل مثل المرحوم الحوراني المؤمن بهيمنة القومية العربية والمتعجل للوصول الى السلطة عن طريق تسييس ضباط الجيش والانقلابات العسكرية لا يمكن أن يستسيغ هكذا فكرة تحتاج الى عمل وجهد طويلين وان كانت أفضل لمستقبل الوطن
وهكذا رفضت الفكرة التي أعتقد لو أنها نجحت لكنا اليوم في حال أفضل مما نحن فيه جميعا وكانت الموالاة للوطن وليس للجماعة والأفضلية للأصلح وليس للموالاة.
عندما نقارن بين الماضي والحاضر نجد أننا في سوريا نسير بعكس مفهوم التاريخ وقوانين الطبيعة فالمفروض أن تسير الشعوب من التسلط والأفكار المنغلقة الى الديمقراطية والتسامح والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات .
أين تكمن المشكلة اليوم؟.
يعتبر التنوع وسيلة من وسائل التعارف باعتبار كل فريق بحاجة الى ما يملكه الفريق الآخر من خصوصياته الفكرية والثقافية
للتكامل ضمن الوحدة الوطنية لذا فالتنوع والاختلاف مع التواصل والتعارف يؤدي الى مزيد من الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل أما الاختلاف مع جهل بعضنا بالآخر فانه يؤدي الى الشك والتوجس المتبادل والانكفاء الى داخل الجماعة والتشبث بالخصوصية.
فاليوم حين تسمع الى الآشوري يتكلم عن عظمة آشور وأن هذه أرضه والكردي حفيد الحوري ميتانيين والميديين وهي أرضه
والسرياني عن الدولة الآرامية وأن هذه أرضه والعربي لا يعترف بأي من هؤلاء والأرض ملكه فاذا حاول كل طرف الغاء ما قبله أو بعده واعتبر تاريخه وحده كل الحقيقة وانغلق على ذاته مؤمنا بكمالها وعدم حاجته الى الآخرين هنا تكون الكارثة التي يجب أن نتفاداها جميعا.
لكن المنطق هو في اعتراف كل منهم بأنه يمتلك جزءا من هذه الحقيقة وأن فوق هذه الأرض وجد من كان قبله أو بعده وأن كلا منهم يمتلك جزءا من هذه الحقيقة وليس كلها وبضم أجزاء هذه الحقيقة نصبح جميعا شركاء متساوي الحقوق والواجبات في هذا الوطن.
وهذا ما يقوله الأستاذ كبرئيل موشي كورية عضو المنظمة الآثورية الديمقراطية في منتدى الدكتور نور الدين ظاظا وأقتطف بعضا منها :
“…..ثقافة وطنية تعزز ثقتي ويقيني بذاتي وبشريكي وبوطني الذي يختزن كل هذا التنوع الجميل وتجعلني أكثر ايمانا بالغد,هكذا أفهم
الثقافة والتنوع حوارا لا ينقطع وتسامحا بلا حدود ……أن أرى فيكم جزءا من آشوريتي وأن تروا فيّ جزءا من عروبتكم وكرديتكم
أن أرى فيكم جزءا من مسيحيتي وأن تروا فيّ جزءا من اسلامكم …..أن أرى فينا جميعا الانسان التواق الى الحرية والكرامة.
مهما فعلنا لا نستطيع أن نغير شيئا من الماضي لكن نستطيع أن نبني الحاضر ونؤسس معا للمستقبل”.
وأضيف عن المؤرخ الاغريقي هيرودوت:ان هدفي أن أصف أعمال البشر حتى لا تغيب تلك الأفعال عن الأجيال اللاحقة ليتعرفوا
على أسباب المآسي والحروب بينهم فيما مضى” آخذين العبر من أخطاء الماضي”.
مشكلتنا الأساسية اليوم تكمن في ضعف المجتمع المدني لعدم وجود اتحادات او نقابات مدنية مستقلة تساهم في تكريس مفهوم المواطنة وتعزز الأفكار الديمقراطية حول المشاركة والتسامح واحترام الاختلاف وتعريف مكونات المجتمع ببعضها وخلق مجالات التعاون بينها لأن النظام الشمولي ربط كافة الحركات الاجتماعية والمنظمات المدنية كالاتحادات النسائية واتحادات الفلاحين ونقابات العمال والمحامين وغيرها بالترغيب والترهيب بالحزب الحاكم وأخضعتها لسيطرة السلطة .
المشكلة الأخرى هي في الأحزاب السياسية العاملة على الساحة الوطنية لا أرى اختلافات تنظيمية تذكر بين أغلب ما يسمى أحزاب المعارضة “أعني العربية والكردية والآثورية” وما يسمى أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية فجميع أمراض السلطة وحزب البعث الحاكم يبدو أنها انتقلت الى باقي الأحزاب كالمحسوبية والمولاة وعدم المساءلة والسلطوية داخل الهيكل الحزبي ,هذه الأمراض تعاني منها أغلب الأحزاب الموجودة حاليا على ساحة العمل السياسي في سورية ففقدت روح المبادرة والتطور فيها وتحولت أغلبها الى هياكل عظمية تحاول استغلال بعض المناسبات لإثبات وجود وهمي والمزايدة على بعضها البعض وفي كثير من المناسبات نجدها متخلفة عن فكر المواطن العادي كونها منشغلة بإثبات وجودها , ففي مناسبة مثل مناسبة النوروز الذي يعتبره الكرد يوم الحرية وانتصار النور على الظلام وعيد الطبيعة رمز الطفولة والأمومة والأرض الأم “الوطن”الذي لايفرق بين أبنائه كان من الممكن أن يكون يوما لجميع السوريين كون الكرد جزءا من هذا المجتمع لو أن هناك أحزابا ومنظمات كردية سورية تعمل لتعريف هذا المجتمع أن يوم النوروز كخصوصية كردية ليست أبدا ضد باقي المكونات ولا تضر بالوحدة الوطنية كان المفروض بهذه الأحزاب دعوة باقي أطياف المجتمع السوري للمشاركة بهذه المناسبة واعتباره يوما للتواصل بين أبناء الوطن الواحد وتعريفهم بأن هذا اليوم كخصوصية ثقافية كردية هي مثل احتفالات رأس السنة وعيد الأضحى وغيرها من الأعياد جزء من الموزاييك الثقافي الذي تتمتع به سوريا كوطن متعدد الثقافات ومهد للعديد من الحضارات التي تركت بصماتها واضحة من خلال هذا التعدد الثقافي والثراء الحضاري.
لكن وللأسف وبدلا من أن تعمل هذه الأحزاب لإظهار هذا اليوم بشكل حضاري وتقصر مساهمتها على مساعدة الجميع للخروج الى أحضان الطبيعة في هذا اليوم وتأمين راحة المحتفلين , تم تحويله الى يوم حزبي فلكل حزب نوروزه وكل مجموعة تحاول أن تجمع حولها أكبر عدد من المحتفلين حتى يوهموا قياداتهم عن طريق نقل صور الفيديو بكثرة أعدادهم في هذه المنطقة أو تلك كدليل على خدمات المندوبين المحسوبين الجلى للحزب الموقر وقيادته الحكيمة بل أن بعضهم فصل جماعته عن الآخرين محاولين بأساليب شتى دفع أكبر عدد ممكن للانضمام اليهم ما أدى الى بقاء العديد حتى من العائلات الكردية في منازلها فمن خشي الذهاب الى موقع ولم يرغب الانضمام الى مجموعة الموقع الآخر ولا يملك الإمكانات للذهاب الى أماكن أبعد بقي في منزله .
حادثة أخرى لفتت انتباه العديد منذ أيام – قيادي استنكف عن العمل الحزبي لخلاف بينه وبين القيادة ثم تدخل أهل الخير وعادت المياه الى مجاريها وخلال انعقاد المؤتمر تضايق القيادي في احدى الجلسات فخرج من الجلسة ومعه “جماعته” من الكوادر الحزبية ! فهل يمكن تسمية هؤلاء كوادر أم أتباع ؟.
الدليل الأهم على تكلس وخواء وافلاس هذه الأحزاب جماهيريا هو اعتماد بعضها أسلوب أحد الأحزاب الشيوعية السورية أيام الاتحاد السوفييتي السابق أو حزب البعث الحاكم ألا وهو أسلوب الترغيب ببعض المكافآت والمنح الدراسية وهذه تعتبر خدمة للطلبة والشباب والمجتمع شريطة أن تكون الخدمة للأفضل وليس كرشوة مقابل الانتماء الى حزبهم فهذه الطريقة وان كانت تؤدي الى زيادة عددية في أعضاء الحزب الا أنها قد تؤدي مستقبلا الى مشكلة مجتمعية فالانتماء لحاجة أو مصلحة وليس عن مبدأ يحول المستفيد الى أناني انتهازي لا يعرف سوى مصلحته ويصبح عبئا على هذا المجتمع .
اننا وحيال هذا الوضع الذي نحن فيه اليوم بحاجة الى العمل على إعداد وتقوية مجتمع مدني ديمقراطي نشط يهدف الى التغيير السلمي بالعمل داخل الاتحادات والنقابات والجامعات والعمل على تحويلها من وسائل لفرض سيطرة السلطة الى أدوات للتعبير عن المصالح الوطنية .
وأيضا العمل على تنظيم أحزاب وطنية جديدة تؤمن بالمجتمع السوري المتعدد وحرية المواطن والمساواة في الحقوق والواجبات وتؤسس هياكلها التنظيمية على أسس ديمقراطية قبل أن تطالب بالتغيير الديمقراطي فالديمقراطية ثقافة ومجموعة قيم قبل أن تكون سياسة والديمقراطية نظام مجتمعي قبل أن تكون نظاما للحكم ,وأحزابنا في وضعها الحالي وما تعانيه من مشاكل تنظيمية وافتقادها للثقافة الديمقراطية داخل هياكلها لا تستطيع دفع السلطة الى تغيير سلوكها لأن السلطة نفسها تعرف ما تعانيه هذه الأحزاب وأن فاقد الشيء لايعطيه.
لذا أرى أننا أولا بحاجة الى تقوية مجتمع مدني ديمقراطي فاعل يعمل على نشر الوعي بين المواطنين وتحويل اللامبالاة التي تسود في ظل النظام المستبد الى إحساس ناضج ومدرك للمبادئ والقيم الديمقراطية , ونشر الوعي بالمواطنة الايجابية والمسئولة كمواطنين أحرار من حقهم اختيار قياداتهم ومن حقهم تغيير تلك القيادات ان رأوها ليست بالمستوى المطلوب وهذا سيؤدي الى خلق قيادات جديدة واعية تعلم أنها تحت مراقبة الشعب لأن النظام المستبد الذي يسود فيه حكم شخص واحد أو حزب واحد لا يوفر الظروف الملائمة لظهور قيادات سياسية ناجحة وإنما يظهر سياسيون موالون يتملقون لأجل مصالحهم الخاصة والشعب آخر من يفكرون فيه.
فحاجتنا الى نشر الثقافة الديمقراطية يجب أن تكون قبل التفكير في التغيير أيا كان شكل هذا التغيير فالوضع في العراق وقبله في الصومال والكونغو زائير وغيرها من الدول التي كان التغيير فيها نتيجة عمل عسكري دون الاعداد لوعي ثقافي ديمقراطي كانت نتيجتها دمار تلك البلدان لكن في المقابل هناك شعوب عملت في البداية على نشر الثقافة الديمقراطية وتقوية مجتمعها المدني ثم نفذت عملية التغيير الديمقراطي مثل الفليبين واندونيسيا والتشيللي والأرجنتين ودول أوربا الشرقية ولم تخلف مشاكل تذكر.
· كاتب سوري كردي