جدلية العلاقة بين الوطن والمواطن

سلمان بارودو

إن المواطن، الإنسان, وبحكم طبعه الاجتماعي, بحاجة إلى جماعة ينتمي إليها, والوطن يعتبر شكلاً متقدماً في تعبير الإنسان عن هذه الحاجة وبالتالي يذهب جزء كبير من جهده لممارسة وجوده في هذه المنظومة الاجتماعية في إطار ما يصطلح عليه بالمواطنة، كون المواطن هو الوحدة الأساسية للدولة.
وإن مفهوم المواطنة عبر التاريخ يعني إقرار المساواة بين المواطنين وقبول حق المشاركة الحرة للأفراد المتساوين، وهذا المفهوم سعى الإنسان إليه منذ القديم وإلى يومنا هذا من أجل إرساء دعائم العدل والمساواة والحرية، فالوطن هو البقعة الجغرافية التي يعيش عليها الإنسان غالباً بحدودها السياسية ذات السيادة وتتبع الوطن بالإضافة إلى الأرض، الهواء أو المجال الجوي لتلك الدولة وكذلك المياه الإقليمية التابعة لها،أما الموطنون فهم مجموعة السكان الذين يعيشون على هذه البقعة على وجه الاستقرار والدوام، ولا يشترط عدد معين لهؤلاء السكان حتى تقوم الدولة، فهناك دول صغيرة ودول كبيرة من حيث عدد السكان، والواقع أن الفارق يتمثل في مدى قوة الدولة، وفي المقابل لديهم مجموعة من الواجبات يلتزمون بها ولهم حق التمتع بمجموعة من الحقوق، وهذه العلاقة تنظمها مجموعة من القوانين التي وضعت للمصلحة العامة دون إقصاء أو تهميش أي أحد من العملية التشاركية.
مما لا شك فيه، إن حرية المواطن من حرية الوطن، وحرية الوطن تكمن برفع شأن مواطنيه وعدم الاعتداء على حقوقهم، كما من حق الوطن على أبنائه حمايته أياً كانت الأضرار أو المصاعب، التي تقع عليهم جراء ممارسات النظام السياسي القائم، فالوطن ملك لجميع أبنائه بدون استثناء.
وبناءاً على ذلك، وإن العلاقة بين المواطن ووطنه علاقة جدلية حميمة تجد جذورها في الوجدان والعاطفة، كلاهما بحاجة إلى الآخر، المواطن بحاجة إلى وطن يقدم له الحماية ويصون له حقوقه المدنية والسياسية والاجتماعية، والوطن بحاجة إلى مواطنين يدافعون عنه ويحمونه ممن يريدون به سوءاً، هذه  العلاقة الجدلية إذا أخذت مسارها الصحيح تجعل المواطن مهما كانت مشاربه وتوجهاته الفكرية والثقافية والسياسية، مستعداً بالفطرة للدفاع عن وطنه.
هناك سوء فهم وخلط لدى الكثيرين من النخب السياسية الانتهازية وضحالة في الفهم والتفكير في سبل النضال السياسي ضد التسلط وأساليبه والتي تتطلب التضحية من اجل الحصول على الحقوق الشرعية من وسائل وطرق النضال الوطني المشروع بعيداً عن التعامل مع القوى الأجنبية لأن قاعدة النضال الشرعية تعتمد على إن الحرية والحقوق تنتزع انتزاعاً ولا تمنح، ومن ينتظر من القوى الأجنبية أن تنصبه في موقع الحكم فهو من الغباء السياسي،لأن المواطن الذي يشعر بالغبن في وطنه جراء ممارسات النظام السياسي عليه أن يقاوم هذا الغبن بشتى الوسائل والطرق السلمية الممكنة والمتاحة المعتمدة على طاقات الشعب، ويجب الانتباه إلى اللبس الكائن لدى بعض الأوساط الثقافية والسياسية بين الولاء للوطن والولاء للأنظمة السياسية، فليس بالضرورة أن يكون الانتماء والدفاع عن الأنظمة السياسية هي ولاء للوطن، لأنها (أي الأنظمة) هي زائلة والوطن هو باق.
 من هنا نعلم أن المواطنة الفعالة هي أُساس البناء الصحيح الذي يجعل المواطن ذاتاً موضوعاً وغاية وهو الوسيلة والهدف من إجراء خطط وبرامج تنموية وتوعية من أجل المصلحة العامة، وفي ذات الوقت يجعل من المواطن المتمتع بكافة حقوقه الأساسية الحارس الأول والمدافع الأساس عن حماية وأمن بلاده لأنه هنا يدافع عن كيانه وحقوقه أمام أي تحد أو تهديد مرتقب.
وعلى قاعدة الحقوق والواجبات المتبادلة بين المواطن والوطن يعطى للوطن والوطنية المفهوم والقيمة الحقيقية حيث يصبحان عنواناً مُركّزا للانتماء القانوني والسياسي والثقافي والشعوري والعاطفي للمواطنين كتكوين وهوية وخصوصية وانتماء ومصلحة، وهنا تتحقق أعلى درجات الحماية للوطن انطلاقاً من الوطنية الصادقة.
وهنا لا بد من التأكيد، أنه لا يمكن أن يُحمى الوطن بمواطنين لا يستشعرون الانتماء إليه بسبب الإقصاء أو التهميش أو الحرمان أو الاستبداد، إن المتضرر والمحروم والمزدرى لا يمتلك جذوة الولاء الوطني كما يجب، وإن المواطن يدافع عن حقوقه وآماله ومستقبله، فالوطن الذي يهمل ويستَعبد مواطنيه لن يظفر بالأمن وفق أية صورة، وعلى العكس فإن وطن الحرية والمساواة والتكافؤ هو الواهب والمحفّز للأمن الشامل المستند إلى مبدأ المواطنة الحقيقية المنتجة للوطنية الصادقة.
على الإنسان أن يعيش في وطنه مكرماً معززاً في ظل القوانين والنظم في البلاد ولا يرضى لنفسه الذل والاستضعاف وعلى أولياء الأمر أن يراعوا كرامة المواطن وحفظ حقوقه وتوفير السبل القانونية والوسائل اللازمة لذلك مما يؤدي إلى ارتباط أوثق للمواطن ببلاده وترابه ويعمق إحساسه بالانتماء والولاء للوطن مقابل احترام الآخرين له.

لذلك لا بد من القول: الإنسان الذي يطمح  إلى الحرية بدون شك لا يمكن أن يساوم على حرية الوطن، حيث إن حرية الوطن أسمى من حرية الفرد، ويمكن للإنسان أن يناضل في كثير من الحالات سلمياً للحصول على حقوقه في ظل نظام وطني مستبد من خلال مؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب السياسية أو التجمعات النقابية والمهنية، ولكن في ظل الحكم الأجنبي والاستعماري فلا ينفع إلا جلاء المحتل، لان هذا المحتل لم يأت إلا لخدمة مصالحه وعلى حساب مصالح الوطن والمواطن، والخسارة هنا وان كانت خسارة محمودة – النضال لطرد المحتل – ستكون اكبر بكثير من النضال السلمي الديمقراطي، وبدون أدنى شك إن الإنسان أياً كان يريد أن يتمتع بكامل حريته القانونية، أي في إطار الأنظمة والقوانين التي تنظم حياة الناس، ولكن أياً كان هذا الإنسان فانه لابد وان يعيش على ارض -وطن – يتمتع بالحرية من أية ضغوط أو مواجهات ذات نفس استعلائي أجنبي تحد من حرية الوطن وتمنع عليه قدسية التمتع في إضفاء بيئة ملائمة لعيش أبنائه تحت ظلالها.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

جليل إبراهيم المندلاوي   في خبر عاجل، لا يختلف كثيرا عن حلقة جديدة من مسلسل تركي طويل وممل، ظهرت علينا نشرات الأخبار من طهران بنغمة هادئة ونبرة مطمئنة، تخبرنا بأن مفاوضات جديدة ستعقد بين إيران وواشنطن، هذه المرة في “أجواء بناءة وهادئة”… نعم، هادئة، وكأنها نُزهة دبلوماسية على ضفاف الخليج، يتبادل فيها الطرفان القهوة المرة والنظرات الحادة والابتسامات المشدودة. الاجتماع…

إبراهيم اليوسف بعد أن قرأت خبر الدعوة إلى حفل توقيع الكتاب الثاني للباحث محمد جزاع، فرحت كثيراً، لأن أبا بوشكين يواصل العمل في مشروعه الذي أعرفه، وهو في مجال التوثيق للحركة السياسية الكردية في سوريا. بعد ساعات من نشر الخبر، وردتني رسالة من نجله بوشكين قال لي فيها: “نسختك من الكتاب في الطريق إليك”. لا أخفي أني سررت…

مع الإعلان عن موعد انعقاد مؤتمر وطني كردي في الثامن عشر من نيسان/أبريل 2025، في أعقاب التفاهمات الجارية بين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأحزابه المتحالفة ضمن إطار منظومة “أحزاب الاتحاد الوطني الكردي”، والمجلس الوطني الكردي (ENKS)، فإننا في فعاليات المجتمع المدني والحركات القومية الكردية – من منظمات وشخصيات مستقلة – نتابع هذه التطورات باهتمام بالغ، لما لهذا الحدث من أثر…

فرحان كلش   قد تبدو احتمالية إعادة الحياة إلى هذا الممر السياسي – العسكري ضرباً من الخيال، ولكن ماذا نقول عن الابقاء على النبض في هذا الممر من خلال ترك العُقَد حية فيه، كجزء من فلسفة التدمير الجزئي الذي تتبعه اسرائيل وكذلك أميركا في مجمل صراعاتهما، فهي تُسقط أنظمة مثلاً وتُبقى على فكرة اللاحل منتعشة، لتأمين عناصر النهب والتأسيس لعوامل…