في شؤون المتاهة السورية السلطة والمعارضة والتنكيل بالديمقراطية

مصطفى إسماعيل

خلال الشهرين الفائتين شهدت سوريا الانتخابات التشريعية والاستفتاء على الرئيس, وكلا الاستحقاقين طرحا المزيد من الأسئلة حول مآل الإصلاح المطروح من السلطة السورية منذ عام 2000 , تحديدا منذ خطاب القسم الشهير للرئيس السوري بشار الأسد.

كثيرون (بينهم أحزاب سورية معارضة في الداخل والخارج ومراقبون للوضع السوري ) اعتبروا ما جرى في نيسان وأيار تنصلا سوريا على صعيد السلطة من الوعود الإصلاحية وتنكيلا جديدا بالأفق الديمقراطي المرتقب

والواقع أن الاستحقاقين إضافة إلى ما سبق طرحا مسائل أخرى هامة تكشف اختلال الهواء السياسي الداخلي في سوريا, أكثر من ذلك كشفا عورات الجميع: السلطة والأحزاب المعارضة على حد سواء.
فالتوازن مفقود أساساً بين القوى السياسية السورية والسلطة, والسلطة السورية عبر كثافة أجهزتها القابضة على الداخل بها تجتمع الأشياء وبها تتفرق, بينما الأحزاب المنضوية في إطار جبهتها يأتيها الانتصار تلو الانتصار على أطباق من ذهب وعاج دون أن تعرق حتى أو تجهد (يا لانتصاراتها الدونكيشوتية), ويسند البعث الحاكم وأحزابه الدائرة في فلكه ومداراته إعلام رسمي وجرائد رسمية هي ربيبة النفير السلطوي وماكياجه والذي يُري السلطة بمثابتها جمالا مطلقا وكل مختلف معها هو بالضرورة قبح مطلق, أيضا يسندها نزوعات بدأت بمصادرة الحياة السورية الداخلية هي مزيج من التلونات الاقتصادية الوهمية والعصبيات العشائرية التي تتغذى على مائدة الدولة الريعية حيث نظام المحسوبيات والولاءات التي لها مقابل ثمين, تبدأ من مقعد في مجلس الشعب ولا تنتهي بشيء.

كل ذلك بينما أطياف المجتمع المدني السورية غائبة كليا ولا تملك إزاء ذلك سوى إصدار بيانات خجولة, فيها الموقف متأرجح بين نعم ولا ولعم (الموقف المعارض السوري يكون واضحا حين يجري الحديث عن موريتانيا مثلا).

بيانات مفتقرة إلى موقف واضح مفهوم تشعر المواطن السوري المهمش إلى يوم الدين أن في بلاده أحزاب وإطارات سياسية يمكنها طرح الموقف والالتفاف حوله.

والاستفتاء الأخير وقبله الانتخابات التشريعية شهدت تأرجحا بين مفاهيم ومواقف عدة: المقاطعة, المشاركة, وعدم المشاركة, وعدم جدوى المشاركة.

أحزاب أخرى لم تهتم بالمسألة لا من قريب ولا من بعيد, فلم يصدر عنها لا بيان ولا هم يحزنون واكتفت بالحكي الشفاهي الذي هو علامة نقص الصدق ولا يعوّل عليه.
أثبت الاستفتاء على الرئاسة أن القوى التي تتشدق بالتغيير الديمقراطي في الداخل ليست عاجزة فقط عن التغيير, وإنما كذلك الاتيان بموقف موحد يسهم في دفع عجلة الركود السياسي الداخلي.

ربما يعود ذلك إلى أحد الدوافع المتمثل في انعدام التوازن وانعدام الثقل السياسي في الشارع, وقد يعود ذلك إلى أن الإطار المعارض الداخلي (البعض منه) ليس بإمكانه تغيير مواقعه والتأثير في السلطة, وليس بإمكانه أيضا تجاوز الخطوط الحمر الموضوعة والمرسومة من قبل السلطة عبر عقود خلت.

كل ذلك ولا ريب يسهم في انفضاض السوريين عن الاهتمام بالشأن العام وترك السياسة إلى الأبد.
هل بإمكاننا القول أن الأحزاب السورية المعارضة في الداخل ليست ملومة على ذلك.

فهي حتى لو دخلت المعترك الانتخابي لن تواجه حزبا آخر, وإنما ستواجه سلطة مدججة بالإعلام والصحافة المدجنة وإمكانات الدولة وقدراتها وميزانيتها وعسكرها وأمنها وموظفي قطاعها العام وترسانة من القوانين مفصلة على مقاس أهل الحل والعقد, في ظل اختلال الموازين هذا مضافا إليه الانحطاط الثقافي والسياسي في الشارع السوري لن تكون الصناديق هي الحكم.

وما الدعوات إلى انتخابات حرة ونزيهة سوى محاولة لخلق أملٍ واهٍ لا يسنده في الواقع أيما بصيص انتظار.
أحزاب المعارضة السورية تعاني اليوم من أزمة حقيقية.

تعاني من تفاقم حصار السلطة المفروض عليها ما يجعلها محددة أكثر من اللازم ومتقلصة النشاط إلى أبعد الحدود, فليس بإمكانها ممارسة النشاط السياسي في حدوده الدنيا, ولا هي بقادرة على كسب الأنصار في الشارع السوري المتقهقر, الذي يصول فيه الأمن السوري ويجول, متحولا بذا إلى القوة الوحيدة الناهية والجازمة, ولم يترك ذلك للتعبيرات المعارضة سوى حيز ضيق هو إصدار البيانات.

الحزب المعارض السوري اليوم يعيش محنة, وبياناته تفسر على أنها نوع من التمسك بالاستمرار والبقاء والدفاع عن حق البقاء وممارسة ما بقي من هامش سياسي.
الوسط المعارض السوري معتل بنفس أمراض السلطة, فلا برامج واضحة له, ولا ثقافة ديمقراطية لديه تجعله يتعامل ديمقراطيا مع مشاكل حزبه الداخلية ومع الرأي الآخر السوري, ولا خبرة لدى كوادره في العمل السياسي, إنما المزيد من التكرار السمج للمقولات والفانتازيات والشعارات وعمليات الشجب والاستنكار التي هي بضاعة سورية بامتياز.

وهذا الوسط المعارض نتيجة لذلك ليس بقادرٍ على مخاطبة الجماهير السورية وكسب ودّها, وهو لم يبذل إلى الآن ما يعينه على نشر الوعي والتنوير بأهم المسائل السياسية التي تتمثل في الداخل السوري, والتنوير ضرورة لأجل مغادرة السوري الحالة النفسية التي تريه نفسه بمثابته رعية ليس إلا في مجتمع هو صنيعة الثقافة السلطوية وينظر فيه أهل الحكم إلى أنفسهم بمثابتهم مالكي البلاد والعباد.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…