د. سعدالدين ابراهيم…. قصة نجاح عربية

  فوزي الاتروشي

   د.

سعدالدين ابراهيم مفكر عصري و أحد عناوين الفكر التجديدي العربي، و لأنه يعي دلالات الثقافة الحرة و سياقاتها التغيرية فانه لا يلين و لا يستكين و نجده دوماً على خطوط النار الساخنة و في واجهة الواجهة ضد النظام الرسمي العربي بكل ترسُّبات الاستبداد و التخلف، و ضد الاصولية الدينية التي تغلق الباب على العقل، و بعض المثقفين العرب الذين لا يغادرون الافق القومي الضيق الى رحاب الانسانية و الى تضاريس عالم بدأ يتَّحد على أساس مواطنة عالمية مرسومة وفق مديات الديمقراطية و حقوق الانسان.

لذلك فلا عجب ان يلاقي هكذا مثقف كل صنوف المعاناة و الملاحقة و التضييق لمحاولة تدجينه او ترويضه أو اخفات صوته.

التقيتُ بالدكتور سعدالدين عام 1994 حين دعاني ضمن الوفد الكوردي الى مؤتمر حقوق الاقليات في العالم العربي الذي انعقد بدعوة من مؤسسة ابن خلدون للدراسات الانمائية بالتعاون مع مجموعة حقوق الاقليات في لندن، و جرى ترحيل المؤتمر الى مدينة (ليماسول) القبرصية بعد ان رفضت العواصم العربية استضافة هذا المؤتمر النوعي لانه يكشف عُريَتها و ينتهك حرمة انظمتها الشمولية.

و كان معنا الشاعر الكوردي العراقي الراحل بلند الحيدري و زملاء اكراد آخرون.

كان المؤتمر تدشيناً لنظرة اخرى الى حقوق الانسان قائمة على الاعتراف المطلق بها و ترجمتها بمعايير معاصرة الى الواقع، لان سلَّة حقوق الانسان و الاطار الديمقراطي و توسيع آفاق المجتمع المدني هي التي تحدد حضارية او تخلف هذه او تلك، و ليس لغة الخطابات و عسكرة المجتمع.

ثم ان الخارطة التي أٌصطلح على تسميتها بالعالم العربي تضمُّ العديد من الملل و النحل و الاعراق و الشعوب و فيها تنويع ديني و مذهبي لا يمكن تجاوزه ببضعة شعارات طوباوية مثل شعار ميشيل عفلق القائل ان ((كل من عاش في الوطن العربي و تكلم العربية فهو عربي)).

و اذكر ان د.

سعدالدين كان طوال جلسات المؤتمر مثيراً للاعجاب و الاحترام لمحاولته الدؤوبة للوصول الى خلاصات تدشن نظرة عربية جديدة الى حقوق الانسان على الضد تماماً من قوى التخلف و الرجعية و القومية الضيقة المنتشرة في العالم العربي.


  احتضن المؤتمر الآنف الذكر الاكراد و الموارنة و الاقباط و ممثلون عن شعب جنوب السودان و الشيعة، اي الفئات التي لحقها غبن و اضطهاد ديني او قومي او مذهبي، و مازلت اتذكر ان البيان الختامي باللغة الانكليزية كان قصيراً و مقتضباً في حين كان طويلاً و مفصلاً باللغة العربية و حين استفسرتُ عن السبب قال د.

سعدالدين –بحق- ان الانظمة العربية بحاجة الى اسهاب و تفصيل و شرح لكي لا يُساء فهم دوافع عقد المؤتمر و لتحاشي تفسيرات مغالطة للحقيقة من قبل المتصيِّدين في الماء العكر.

و رغم ذلك فان بعض الانظمة العربية و معها بعض الصحف و المجلات الصادرة في القاهرة و دمشق و عواصم عربية اخرى هاجمت المؤتمر و الصقت به أشنع الاوصاف و التهم و النعوت، و اتهمت كالعادة د.

سعدالدين ابراهيم بالعمالة و محاولة تجزئة و تفتيت الوطن العربي.

و كانت رحلة هذا المفكر الطويلة مع الملاحقات القضائية و السجن و التهم المجانية التي عجزت عن قهره و دحر مشروعه الفكري التجديدي الذي يتنفَّس من رئة العصر، و الذي يتجسد في كتاباته العديدة و لاسيما في كتابه الضخم حول هموم الاقليات في العالم العربي، و كذلك من خلال مؤسسة ابن خلدون للدراسات الانمائية و نشرتها الدورية “المجتمع المدني” التي شكلت مرصداً لحالة حقوق الانسان و كان للكورد ضمن غيرهم دائماً نصيبهم من البحث و التتبع سواء في الكتاب السابق الذكر او في نشرات و اصدارات دار ابن خلدون.

و انصافاً للموضوعية نقول ان د.

سعدالدين ابراهيم قدم دراسة علمية منهجية موضوعية خالية من العقد المسبقة حول القضية الكوردية و جنوب السودان و غيرها من المشكلات.
   و دارت السنين فاذا بي التقي الدكتور سعدالدين للمرة الثانية على هامش مؤتمر الاصلاح السياسي و الديمقراطية في العالم العربي المنعقد في الدوحة عاصمة قطر في 27-29/5/2007 و كان كعادته مرحاً و متفائلاً و مقتدراً في الحجة و الدليل، رغم كل حملات الدعاية الرخيصة التي مازالت تشنها اوساط رسمية عربية و كتاب قوميون عرب و قوى الاصولية الدينية الفاقدة البصر و البصيرة و التي تتعامل مع الفكر و الابداع بلغة السكين و الاحزمة الناسفة.
   و وعد د.

سعدالدين بزيارة كوردستان العراق و رؤيتها عن كثب، و فعلاً وفى بوعده و زار المنطقة و التقى يوم 15-7-2007 بالسيد مسعود البارزاني رئيس الاقليم و مسؤولين آخرين، فكانت فرصة لكي يتعرف هذا المفكر العربي المتنوِّر على التجربة الكوردية و على شعب بنى لنفسه ملاذاً آمناً و بيتاً تحت الشمس بعد ان اعتصرته الحروب و الكوارث و المحن و الهجرات الجماعية.

ان زيارته اضافة و اغناء للاقليم لانه قادر على تغيير نظرة الكثيرين من العرب ذوي القوالب الجاهزة و الاوصاف الكريهة التي مازالوا يعلقونها على مشجب الحالة الكوردية في العراق و لا سيما الاسطوانة المشروخة من كثرة الترداد و هي ان الكورد (اسرائيل ثانية)!!.

اننا اذ نتذكر كل معارك د.

سعدالدين ابراهيم الفكرية مع قوى الظلام و الرجعية و الاستبداد نشعر بفخر اذ يزور كوردستان فصوته ذو نبرة خاصة مؤثرة و قلمه لا يكتب الا الحقائق و فكره مجدد و عصري بكل معنى الكلمة.

اما المعارك الوهمية التي يختلقها النظام الرسمي العربي و بعض كتاب الايديولوجيا القومية العربية الكلاسيكية، فهي رهان خاسر، مثلما كان الرهان على هزيمة عميد الادب العربي د.

طه حسين خاسراً، فقد ظل ينادي ان التعليم اشبه بالماء و الهواء ولابد ان يكون مجانياً لانه مفتاح العلم و العلم مفتاح العقل و المجتمع المتقدم هو القائم على العقل و ليس النقل، لذا كان طه حسين بصيراً رغم العمى و ذا بصيرة ثاقبة و حوله كان خصومه يبصرون و لكنهم في الحقيقة عميان.
   ان قصة د.

سعدالدين ابراهيم لا تختلف عن معاناة نجيب محفوظ و توفيق الحكيم و فرج فودة و د.

نوال السعداوي و ليلى العثمان و عشرات من رموز الفكر و الابداع و الادب، و لكنها في النهاية منتصرة لانها مع الحياة و لان الحياة معها، و مهما ارتفع الحصن المنيع للطغيان و التخلف و الظلامية فان زهرة الفكر المبدع تبرز حمراء يانعة من بين ثغور و مسامات هذا الحصن و تفضحه، فلا شيء يمنع النهر من الجريان و كل الموانع و السدود مؤقتة ففي النهاية تبقى ضفاف الحقيقة مفعمة بالعشب و الماء.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…