قد يكون من الصعب، لمتابع محايد، قراءة مفردات السياسة التي تنتهجها الحركة الحزبية الكردية في سوريا، مقارنة بما تتطلبها السياسة من صيغ وبرامج ومفاهيم، واستناداً إلى البعد المعرفي، الذي ينبغي أن يؤسس للحراك السياسي وصناعة الموقف، وبالتالي الدخول في قراءة الواقع والآفاق من منظور، يتداخل ويتكامل فيه الجانب الذاتي مع الموضوعي ..
بمعنى آخر؛ أن تتمكن هذه الحركة من الإمساك بخيوط المعادلة السياسية، والبناء على مقاسات؛ تؤسس لحالة الانسجام بين الطرح والتجسيد، بعكس ما هو مترسخ في واقع الحال، وذلك بحكم ابتعادها عن مقومات الفعل السياسي، كنتيجة طبيعية لمجمل التداخلات بين أكثر من نموذج متناقض في الممارسة السياسية، إضافةً إلى مراكز القوة وأجندات السلطة، تلك التي تفعل فعلها في تشديد الخناق على أي من مقومات إعادة النظر في صيغة العمل السياسي، وخاصةً من جهة البناء والموقف ..
ولعل التناقض الصارخ الذي يطغى على الأداء السياسي الحزبي الكردي، هو طرح الأشكال والنماذج، التي توحي بأنها الكفيلة بتجاوز حالة الترهل والتشظي، إلى حيث التوافق والتجاذب، دون العودة إلى الذات الحزبي الممارس، ضمن أجندات، أقل ما يقال عنها، أنها تهدف بالدرجة الأساس، الحفاظ على نمطية موروثة ومتوارثة، وقائمة على ذهنية، فيها الكثير من التجني على الإرادة التي تهدف الخروج من قمقم الأنا، ذاك الذي يعمل ضمن آليات حسابية ضيقة، ويقضي، حين الترجمة، على كل ما من شأنه أن يدفع بالطرح السياسي إلى حيث مرتكزاته ..
وعليه نكون قابعين وسط دوامات لا منتهية من الوصفات النظرية المجانية، تلك التي تحاول أن تشخص الوضع، وتمدها بما يتلاءم وتصحيح المسار، بل نكون أكثر عرضةً للمزيد من حالات التفقيس، والمزيد من طغيان التقوقع خلف متاريس التلاعب بالمصطلحات، أو الاحتماء بمبررات لا شأن لها بكل ما ندعيه؛ على أنه خدمة القضية الكردية ..
وانطلاقاً من هذه التركيبة، وترافقاً مع الخلط الحاصل في السياسة الحزبية، من حيث عدم الوضوح في الرؤية، وعدم تحديد الخيارات المستقبلية، بناءً على الحقائق والوقائع الموضوعية، إضافةً إلى حالة التشرذم وغياب المنهجية في التعامل، أي عدم امتلاك مصادر القوة، تأتي مجمل المواقف من لدن القوى والتيارات الوطنية بخصوص القضية الكردية، مقزمة، وداخلة بشكل أو بآخر ضمن سياقات مواقف السلطة، وتصب هي الأخرى في خانة إنكار الخصوصية الكردية، بما هي قضية أرض وشعب، وتكون النتيجة؛ أن القضية الكردية محاصرة في الداخل بين ثالوث سياسي، السلطة من جهة، والتيارات المحسوبة عليها، وتلك القوى التي تدعي وقوفها إلى جانب التغيير وفق مرتكزات الممارسة الديمقراطية، من جهة أخرى، مما يدفعنا كحالة قومية، وكجزء من المكون السوري، بتركيبته البشرية والجغرافية، وذلك بنتيجة الخارطة الجيوسياسية التي أفرزتها مصالح القوى الدولية منذ مطلع القرن المنصرم، إلى توزيع مسؤولية التقصير والإبقاء على الوضع بتراكماته، على هذا الطرف أو ذاك، في مواجهته لقضايا البلد من حيث الحلول والمعالجة، دون أن نعيد التوازن إلى قراءاتنا وندخل في حقيقة الأزمة التي تلف خواصرنا، والتي تشكل في جوهرها الدافع لهذا الثالوث، كي ينأى بنفسه عن مواجهة استحقاقات الوضع الكردي، خاصةً لو أدركنا أن الثالوث المذكور، يتشرب من نفس الذهنية ونفس المنبع الثقافي، حين وقوفه على قضية بحجم القضية الكردية، والتي في معالجتها ووفق منظوره، هدم لثوابت الفكر القوموي العروبي، ذاك الفكر الذي عبر عن ذاته من خلال ذهنية الإقصاء، وخرج إلى الواقع عبر هوية سياسية، يحاول من خلالها اصطباغ المنطقة بالطابع العروبي، وعليه لا يمكن الحديث عن قضايا حق الشعوب في تقرير مصيرها، إذا ما استمرت المعادلة السياسية خاضعة لأجندات الثالوث الآنف الذكر ..
ويبدو أن القضية الأكثر إشكالية بالنسبة لنا، كحالة قومية، ونحن نوزع المسؤوليات، هي عدم قدرتنا على استيعاب؛ أن السياسة في جوهرها هي مصلحة، وأن بغياب عنصر القوة في أداء الفعل السياسي، سنبقى على ما نحن عليه من مخططات سلطوية تهدف وجودنا، ومواقف سياسية من جانب القوى الوطنية، تحاول تهميش دورنا في الحياة الوطنية، لا بل تقزيم الشأن الكردي، وإخراجه من دائرة الاستحقاقات المستقبلية، كقضية تتوقف على حلها مجمل مسارات التحول الديمقراطي في البلد، لأنه لو أدركنا أن القوى التي تتصارع وتتناطح من أجل الوصول إلى مراميها، وهي لا تكف عن إطلاقها لشعارات التغيير ودمقرطة الحياة في البلد، ما تزال تقف على النقيض من مجمل المشاريع التي تهدف التغيير في المنطقة، وتحت مسميات مختلفة، لا بل تساهم في أدائها، وبالاستناد إلى موروثه الثقافي، النظام عينه في لجم أي شكل من أشكال الحراك، إذا ما كانت النتيجة في غير الصورة التي ترتأيها هذه التيارات، أو أنها ستساهم في خلق أرضية يتمكن من خلالها كل ذي حق، التعبير عن ذاته عبر خصوصياتها القومية والفكرية والسياسية، نقول، لو أدركنا كل ذلك، لكان علينا أن نبحث عن الآليات التي تشد من أزرنا، والتي تنطلق في الأساس من تحديدنا لخياراتنا السياسية، تلك التي تجسد هويتنا وخصوصيتنا، والشكل الذي ينبغي أن نمارس من خلاله ذاتنا القومي ضمن الحالة الوطنية، ومن ثم البحث عن الصيغ التي تمتلك القدرة على إدارة هذه الخيارات، وذلك بدلاً من الدخول في سجالات عقيمة، كالتي نراها اليوم، وهي تراهن على مواقف، هي بالنسبة لنا محسومةً مسبقاً ..
إن ما نشهده اليوم من مواقف مقزمة ومشوهه حيال القضية الكردية، وتصدر عن جهات تدعي التغيير والديمقراطية، هي ليست بعيدة عن بعض التصورات التي تطرحها بعض الأحزاب والحزيبات الكردية نفسها، بل أن بعض هذه الأحزاب تشاركها في الموقف من جهة، وتحاول أن تدغدغ مشاعر الشارع الكردي بإبداء الاستياء من هكذا مواقف من جهة ثانية، بمعنى من المعاني، أن هذه المواقف تستند على حالة العجز التي تعيشها الحركة الحزبية الكردية، وإلا لما استطاعت هذه القوى أن تشهر برأيها إلى الرأي العام، وهي تدرك تمام الإدراك أن الحامل المجتمعي في أي موقف سياسي، هي الساحة الكردية قبل غيرها، وعليه فإن الحاجة تكمن في إعادة الأحزاب الكردية النظر في مواقفها قبل أن تقف على مواقف الغير، وإن كان مطلوباً من هذا الغير وهو يدعي مشروعاً وطنياً، أن يجسد الوطن كما هو عليه، لا وفق ثقافة الاحتواء والصهر، على شاكلة ما هو ممارس من جانب السلطة وعلى مر العقود ..
نعود ونؤكد؛ أن جملة السياسات والمواقف التي تستند عليها السلطة، وكذلك القوى الوطنية تجاه القضية الكردية، لها مرتكزاتها في ثقافة المجتمع، وذلك عبر التربية التي تلقاها من منابع الفكر القوموي العروبي، وهي بمجملها تقف على النقيض من الآمال التي نحاول التعبير عنها، على أن القوى الوطنية بأطيافها المختلفة، بدأت تدرك أهمية المرحلة، وأنها بصدد وضع أقدامها على سكة المعالجة، وعليه ينبغي أن نساهم في دفع آليات الحراك الكردي نحو الارتقاء، علنا نتمكن من تحديد مسارات النضال بشقيه الوطني والقومي، وأن نتجاوز تلك العقلية التي وضعتنا في الدرك الأسفل ضمن الأداء الحزبي، وذلك لكونها متعلقة حتى النقي بأناها قبل كل شيء، وإن كانت تتقن لعبة التفنن بالصياغات والتحايل على المحددات السياسية، التي هي ذاتها السبب في وجود الحزب الكردي، وإلا سنبقى أسيري لغة الاستجداء في الخطاب السياسي، والهرولة في المواقف، ونفقد احترام الآخر لنا، كوننا لم نحترم خياراتنا، وإبقائها ضمن زوايا إدارة الأزمة عبر التلاعب بمشاعر الشارع على غرار ما هو ممارس في مجرى التعاطي مع فكرة الرؤية المشتركة أو المرجعية الكردية …