محمد قاسم
ibneljezire@maktoob.com
ibneljezire@maktoob.com
طلب إلي أحدهم أن ؟اكتب في الأسباب التي أدت إلى الإحصاء الاستثنائي عام 1962 في الجزيرة،تلبية لرغبة جهة حكومية ما– لم ادر ما هي حتى الآن-
ولقد اجتهدت أن أكون موضوعيا في تحليل وتشخيص الأسباب، ودون اللجوء إلى الأسلوب السياسي في العرض والإثارة- كما هو في منطقتنا عادة – سواء من السلطات وهو الأكثر، أومن المعارضات- وآمل أن أكون وفقت في ذلك.
وقد مضى على كتابتها أكثر من ثلاثة أعوام،وعندما عدت إلى أرشيفي وجدتها ففضلت نشرها توخيا للفائدة.
وكعادتي فإني أدعو كل القراء إلى إبداء ما يرون من ملاحظات بشأنها –إذا أرادوا – ودون حرج ،فقد يضيفون ما هو ناقص فيها أو يشيروا إلى ما قد أكون أخطأت فيها مشكورين.
شعاري في ذلك،قول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ((رحم الله من أهدى إلي عيوبي))
البحث
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس سهلا البحث في قضية شائكة تتداخل فيها معطيات مختلفة ،وتنازع هذه المعطيات ؛أكثر من جهة.وتزداد الصعوبة عندما تصبح محاولة معرفة حقائق التاريخ وتفسير أحداثه مرتكزة إلى نزعات سياسية –وبكل ما تعنيها هذه النزعات من الذاتية(المشاعرية –النفسية –المصلحية…الخ).
ولعل هذا المعنى يتجسد في القضية التي نود عرضها،وهي قضية /الإحصاء الاستثنائي لمحافظة الحسكة عام 1962/واستنادا إلى ((المرسوم التشريعي رقم 93 تاريخ 23/8/1962 المتضمن إجراء إحصاء عام لسكان محافظة الحسكة،المعدل بالمرسوم التشريعي رقم 108 تاريخ 28/8/1962 ….))-المجلة القانونية عام 1984-
لذا فلا بد من التذكير والتنبيه إلى أن كتابة التاريخ ينبغي أن تبقى أمرا يختص به المتخصصون بعلم التاريخ،مع توفر شروط المصداقية أيضا في ممارستهم لاختصاصهم.
ولأن المجتمعات –ولأسباب عديدة ومختلفة –تتعرض لتغيرات كثيرة،فإن البحث في التاريخ يبقى أحيانا لتثبيت الحقيقة التاريخية فحسب.لأن هذه التغيرات قد تفقد البحث التاريخي –حينئذ- الخلفية (الدافع) والهدف..!
فمثلا:
لا نعتقد بان التاريخ يثبت حقوقا أثنية سياسية -واقتصادية أيضا- لليونان لأن الاسكندر المقدوني قد سيطر وساد في مناطق عديدة ومنذ عشرات القرون.والأمر نفسه ينطبق على الطليان الآن والذين هم من سلالة الرومان الذين حكموا مناطق عديدة ولسنين طويلة،وهي الآن خارجة عن حدود إيطاليا،على الرغم من الآثار الدالة على وجودهم-القلاع مثلا- والثبت التاريخي لهذا الوجود.
ونعتقد بأن الترك يعودون- في أصولهم – إلى الشرق الأقصى،ولكنهم الآن يحكمون بلادا لم تكن لهم في يوم ما من التاريخ.ولكنهم اليوم موجودون واقعيا،ومعترف بهم وجودا ودولة أيضا..
وهكذا..!
فإن للتاريخ منطقه في تثبيت الواقع،وأحيانا الأمر الواقع أيضا..
وتصبح المعايير –في هذه الأحوال- هي معايير الواقع،وأحيانا القوة.
لذا فليس البحث في الماضي صعودا إلى الجذور القديمة لهذا الشعب أو ذاك سوى نوع من الجهد لتعزيز ما هو واقع.
وإذا ما كانت الحروب –سابقا –تحسم الكثير من الاختلافات،أو تفرض كثيرا من حالات أمر الواقع المستند إلى القوة؛فإنها تبدو آلآن عاجزة عن ذلك-ولأسباب عديدة- إلا في حالات محدودة،وضمن مساحات محدودة أيضا..
هذه الحقيقة هي التي عززت في قناعات المفكرين والفلاسفة والساسة المستندين إلى الوعي..،أن يكون الحوار الإيجابي هو المدخل والمظهر للعلاقات بين الأطراف-ومهما كان الاختلاف نوعا ومدى..-
ولقد حقق هذا النهج في بعض المناطق من هذا العالم الكبير نتائج لا يمكن تجاهل قيمتها الايجابية.
والاتحاد الأوروبي خير نموذج.
ولعل التأمل في خارطة العلاقات ومحطاتها المختلفة،يظهر ضرورة الاحتكام إلى البعد الإنساني الأعمق والأشمل لتلافي النكبات والكوارث..،والتي يكون الندم هو النتيجة المنطقية لها.
تأسيسا على ما سبق نذكّر بالاتفاق القانوني عالميا على اعتبار كل من عاش خمس سنوات على أرض بلاد ما ،استحق اكتساب حق الانتماء إلى هذه البلاد-إذا استبعدنا المؤثرات السياسية- ولا يخفى على أحد، المدى الذي يمكن أن تتخذه هذه المؤثرات من ذاتية الموقف بكل احتمالات التحدد والتلون والتشكيل المختلفة.مما يجعل البعد الإنساني الأعمق والأشمل مادة سهلة التشكيل في أيدي الساسة.
وهو ما يحصل في واقع الحال،وعبر التاريخ كله أيضا.
فإذا حاولنا البحث-في هذا السياق- في واقع سوريا،لا نجد لها حدودا تميزها كدولة تتحدد في مساحة /185000/كم2 قبل اتفاقية سايكس بيكو في النصف الأول من القرن العشرين،بل وكانت دوما جزءا من دولة أوسع (الإمبراطورية العثمانية وقبلها الإمبراطورية الرومانية..الخ).
وكانت حركة الشعوب تبع لنمط العلاقات السائدة في كل مرحلة من التاريخ.
ومن الشعوب التي سكنت –ومنذ القديم-هذه المناطق،كان الشعب الكردي والذي كان يتحرك ضمن المساحة التي تتوسط ما تسمى بدول:تركيا-إيران-العراق-سوريا..ودون تحديد لنقاط الابتداء والانتهاء،فذلك يحتاج إلى مختصين دوما..!
وكانت الدولة الإسلامية ، والتي كان قادتها عرب مسلمون في البداية،و كرد مسلمون في مرحلة ما،ثم أتراك عثمانيون فيما بعد-وهم مسلمون أيضا- تضم في إطار حدودها شعوبا مختلفة يجمعها الإسلام أساسا(عرب-ترك-كرد-فرس-..الخ).
لم تعجب الحالة هذه دول أوروبا الطامعة في هذا الشرق-ومنذ القديم جدا-وبلغت ذروتها في محطات تاريخية أبرزها حملة الاسكندر المقدوني والحملة الإفرنجية (الصليبية) والمد الاستعماري الأوروبي الحديث في القرن الماضي..
وكانت الوسيلة إلى تفتيت هذه الإمبراطورية التي نخر عظامها ،التفسخ- وبتأثيرات أوروبية إضافة لطبيعة تهالك الدولة إذا قدم بها العهد-كما يقول ابن خلدون- فكانت أحوال جديدة ساهمت في تمايز قومي ظل يشتد-وبتأثيرات أوروبية-إضافة لحالة رد الفعل التي استوجبها المسلك الطوراني التركي –والذي كان هو أيضا بتأثير أوروبي،لتحويل الإمبراطورية إلى مزق صغيرة لا تستعصي على احتلاله لها،وتحت سياسة معروفة((فرق تسد)).وهكذا كان.
دول عديدة وضعيفة في المنطقة ما عدا دولة خاصة بالكرد-وربما انتقاما من صلاح الدين الأيوبي،أو ربما خوفا من أن يكرر أحفاده ما فعله هو بتحرير القدس من براثنهم..!
بقي الكرد شعبا لا وطن يحميه من الضغوطات المختلفة والتي يتعرض لها من هذه الدولة أو تلك،يشهد على ذلك المجازر والتهجير بأشكال مختلفة بقصد الإبادة والتذويب وطمس الخصوصية القومية التي تميزه.
تحت وطأة هذه الظروف شديدة القسوة،وبتأثير من نمو الفكرة القومية –إلى درجة التطرف أحيانا- لدى كل من العرب والترك والفرس..فقد نما الشعور بالقومية لدى الكرد أيضا.وقد ترافق مع هذا الشعور ظروف استثارت حساسية الاتجاه القومي الناهض للعرب،ومنها مثلا وعد بلفور الذي تجسد في الأربعينات من القرن العشرين واقعا عبر دولة إسرائيلية في فلسطين.كما كان الصوت الشجي للضابط الأمل –حينذاك- جمال عبد الناصر، يعزف أنغاما صارخة على أوتار القومية العربية،مما أوقد جذوة عروبية قومية في النفوس تمازجت مع أصداء كتابات المفكرين القوميين..وأثار الألم الذي خلفه قيام إسرائيل.إضافة إلى ذكريات سلخ لواء اسكندر ون وغيرها.
فكانت الضحية الأولى لهذا الغليان هو الكرد الذين أعلنوا عن تمايزهم القومي،وأنشؤوا حركات سياسية كانت صياغة بنيانها متأثرة بحالة التخلف والعداء اللذين يحيطان بهم.
ولم يشفع لهم تاريخهم الطويل من الإخوة الإسلامية،ولا ما قاموا به من مهمات جليلة عبر التاريخ-وعلى مختلف الأصعدة، ومنها العسكرية والمساهمة في بناء الدولة السورية نفسها،فارتفعت أصوات عربية فرادى أو عبر جماعات منظمة((أحزاب سياسية)) للتنبيه-واهمين- إلى خطر داهم في الشمال السوري ومحاولة ((إنشاء إسرائيل ثانية )).
زادت هذه الأصوات حدة تحت تأثير المد القومي العروبي الوثاب عبر شعارات عبد الناصر وحزب البعث الفتي،واستثمرت حركة ((التمرد الكردي في شمال العراق))في بداية الستينات بحسب تحليل المؤثرين في صياغة السياسة القومية العربية..فتجسد ذلك في مجموعة من الخطوات -ومنها نصائح الضابط الشاب والمتعصب محمد طلب هلال،والذي أصدر دراسة بعنوان((دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية والاجتماعية والسياسية)) والتي يقول فيها بعد الاستشهاد بأبيات الشاعر العربي:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طغى السيل حتى غاصت الركب
….
((أجل لا حاجة بي لسرد تاريخ هذه القطعة من وطننا الحبيب-ويعني الجزيرة- وما جرى عليها من تآمر وغدر وإهمال،إذ الكل يعلم ذلك من أطماع الأتراك قديما،إلى أطماع الألمان إلى أطماع الفرنسيين والانكليز لا ضمها كقطعة غنية إلى أوطانهم –ما عدا الأتراك- بل لضرب القومية العربية…))
((..تلك هي تطورات المشكلة الكردية بخطوطها العريضة منذ ميلادها وحتى اليوم،واليوم وقد أصبحت تهدد الكيان العربي مغذاة من كل الجهات المعادية للقومية العربية قديمها وحديثها في الخارج والداخل…)).
تحت تأثير مثل هذا الوهم وتضخيمه،وضمن ظروف لم تكن سيطرة الدولة على الأطراف في مستواها الحالي،نبتت اقتراحات صادرة عن هذا الضابط ومن على شاكلته للقيام بإجراءات تمنع((سلخ منطقة الجزيرة على يد الكرد)) بزعمهم.
وكأنما كان المناخ السائد في الخمسينات والستينات مهيأ لتكوين نظرة سلبية إلى الكرد،واتخاذ إجراءات مغرقة في السلبية ضدهم.
ومنها : ((الإحصاء الاستثنائي لمحافظة الحسكة عام 1962 استنادا إلى المرسوم التشريعي رقم 93 تاريخ 23/8/1962 المتضمن إجراء إحصاء عام لسكان محافظة الحسكة المعدل بالمرسوم التشريعي رقم 108 تاريخ 28/8/1962 …)) –المجلة القانونية السورية لعام 1984- والذي أجري بطريقة غير واضحة الأهداف والأسباب –حينذاك- إلا عند أصحاب القرار،ولكنه تمخض عن نتائج مأساوية وكوميدية أيضا.
لقد تحول عدد كبير،قدِّر حينذاك بـ (150)ألف نسمة –إلى أجانب، أو حجبت سجلاتهم ليعتبروا مكتومين ،على الرغم من كونهم مسجلين في السجلات الرسمية،ومؤدين للخدمة العسكرية، وإن كان بعضهم-بسبب ظروف التسجيل-لا يزال مكتوما بالفعل -وهم قلة قياسا إلى الجميع- وهذا لا ينفي وجود حالات تنقل عبر الحدود-المصطنع سياسيا- وهي قلة أيضا.
كما اظهر الإحصاء نتائج غريبة،بعض أفراد الأسرة مواطنون والبعض الآخر أجانب.ولعل الأطرف هو ورود اسم وزير الدفاع السوري الأسبق (عبد الباقي نظام الدين) بين الأجانب مما عزز الشعور بالشك بدوافع الإحصاء خاصة إذا وقفنا على الملاحظات التالية:
1- إنه إحصاء استثنائي وخاص بمحافظة الجزيرة.
2-إن الأجانب جميعهم كانوا فقط من الأكراد،ما عدا حالات جد قليلة صححت فور اكتشافها.
3-رافق الإحصاء تدابير استهدفت الكرد فقط:
ا- عدم توظيفهم أو تعيينهم في المراكز الإدارية العليا والنظر إليهم بعين الاتهام..
ب-عدم قبول الطلاب في المدارس والمعاهد التي يتوظف خريجوها تلقائيا(دور المعلمين
مثلا) ومنع الكرد من ممارسة ثقافتهم ولغتهم الخاصة.
ج- حظر تطوعهم في الجيش أو قبولهم في سلك التعليم، خاصة.
د-إطلاق يد الأجهزة الأمنية في كل ما يتعلق بشؤون حياتهم على حساب القانون
وأحيانا كثيرة كانت هذه الأجهزة تساهم في إيجاد نزعات أو تصرفات لدى بعض الأكراد لتتخذها ذريعة في تبرير إجراءاتها..
4-تم نزع يد الفلاحين الكرد عن الأرض التي يستثمرونها في منطقة حدودية موازية للعراق وتركيا بطول يقدر ب(375) كيلو مترا وعرض يقدر ب(10-15)كيلومترا..سميت هذه المنطقة رسميا ب (الحزام العربي) باعتبار الخطة تقضي بنقل الكرد منها وإسكان عرب محلهم، ثم غير الاسم إلى (خط العشرة) ف(خط المطر) وأخيرا (مزارع الدولة).وفيما بعد فككت مزارع الدولة هذه ووزع قسم كبير منها ضمن شروط خاصة.
5- تقديم تسهيلات للعرب المستقدمين –المستوطنين- من حلب والرقة إضافة إلى حالات كثيرة استفادت من مواقعها السلطوية والوظيفية ..
ولا نريد الدخول في تفصيلات نتائج أفرزتها الحالة،وانعكست على الحياة اليومية ..وهذا لا ينسينا القول بأن أخطاء قد ارتكبت من قبل الأكراد تحت تأثير الظروف التي أوردناها كرد فعل من جهة هي الأضعف ضمن علاقة غير متكافئة ،ولم يوفر الطرف الأقوى فيها المناخ المناسب لتصحيح الخطأ .
ومع ذلك فلم تنتج عن هذه الحالات ما يمكن أن يسجل على الكرد ذنبا عظيما وعلى مستوى الوطن.
بل بالعكس كان الكرد دوما وقودا للحرب مع إسرائيل،وقبل ذلك ضد الاستعمار الفرنسي.والشواهد أكثر من أن تحصى.
وأما النماذج التي تجلى فيها تحول المواطن المسجل إلى مكتوم أو أجنبي فكثيرة،والوثائق الدالة على ذلك أيضا بينة،وقد نشر صور لبعضها في بعض أدبيات الحركة السياسية الكردية،كما أنها في حوزة أصحابها ويمكن تقديم أمثلة عنها في كل وقت.
وأخيرا فإن الدعوى الشرعية التي وردت في ((مجلة القانون)) لعام 1984 وفي الصفحة :
( 861) و(862) والمتعلقة باجتهاد قضائي صادر عن نائب رئيس محكمة النقض،السيد:حسن القاضي،والأعضاء المستشاران: محمد كلزيه وسعدي أبو جيب، تلقي بعض الضوء على مثل هذه الحالة ونقتطف منها : ((… وكان القيد المدني للطاعن قد اظهر أنه سوري الأصل إلا أنه سجل في سجل الأجانب لأنه لم يرد له قيد في الإحصاء الأخير الذي جرى في منطقة الجزيرة،وكان الاجتهاد القضائي قد استقر على أن المسلمين من أهالي منطقة الجزيرة الذين كانوا في الأصل من السوريين إلا أنهم لم يأت لهم ذكر نتيجة الإحصاء الجاري في المنطقة لا يمكن اعتبارهم أجانب…))
ونرفق صورة عن ذلك مع هذا الاستعراض كدلالة وثائقية رسمية صادرة عن مصدر قضائي سوري توضح ((انه سوري الأصل إلا انه سجل في سجل الأجانب لأنه لم يرد له قيد في الإحصاء الأخير الذي جرى في منطقة الجزيرة)).
نستخلص من هذا السرد والتحليل أن عوامل متداخلة من شعور قومي متوهج إلى تأثيرات خارجية مختلفة ومخاوف نفسية واقعية أو مضخمة ومصالح فئات وأفراد طالت واقع اللحظة التي انبثق عنها تصور مبالغ في تكوينه وملامحه عما يمكن أن يفعله الكرد من اقتطاع محتمل لجزء من البلاد-كما يروج البعض الآن،وكما كانوا يروجون ماضيا،ولا نبرئ تيارا مغاليا من مضطهَدي المسيحيين في رسم الصورة السلبية سواء من خلال مواقع داخل الاتجاه القومي العربي ممثلا في الانتماء الحزبي البعثي خاصة،أو من خارج هذا الاتجاه العروبي ممثلا في أحزاب تخصه..
وإذا كان لا بد من تسجيل أخطاء ارتكبها الكرد فهي سوء التعبير عن أنفسهم أحيانا وارتباك الصياغات في ذلك.وقد كانوا متأثرين بواقع حياتهم المتخلفة من جهة والواقع تحت الضغط من جهة أخرى مما جعلهم في حالة رد الفعل أحيانا أكثر من حالة يقدرون فيها على الفعل الواعي بكفاية تتطلبها الظروف.وبالتالي فإنهم كطرف ضعيف ضمن المعادلة لا يتحملون نتائج ما حصل،أو –على الأقل- فإن قسطهم من هذه النتائج ليس إلا القليل قياسا إلى الطرف الأقوى والذين يدير الأمور من موقع سلطوي وهو العرب في هذه الحالة.
ولا باس من التذكير بما كانت عليه الحالة في الفترة السابقة على الخمسينات من تلاحم الكرد والعرب تجاه الاستحقاقات الوطنية تحت نير الاستعمار الفرنسي وقبلا الحكم العثماني والذي تحول إلى استعمار في مراحله الأخيرة-أيضا.
والمأمول أن لا تضيع حياة متكاملة بين العرب والكرد خلال أكثر من أربعة عشر قرنا منذ دخول الكرد في الإسلام الذي كان قادته عربا في مطلع بروزه وكانت بيئة ظهوره ونموه هي الجزيرة العربية ومن ثم انطلقت الدعوة عالمية عبر تمازج الثقافات المختلفة وصنع تاريخ مشترك لا يمكن تجاهل مؤثراته في تكوين العلاقات بين الشعوب المنضوية تحت مبادئه وشعاراته وسلوكه أيضا وبخاصة العرب والكرد.
وإذا كانت النظرة القومية تسود الآن كمعطى للتطور الاجتماعي وبتأثيرات مختلفة فهذا لا ينبغي أن يغيّب صوابنا أو يضيّع الحقوق لكائن من كان.
والحوار هو المفتاح لحل كل إشكالية واقعة أو متوقعة.
ودائما –كما يقال – رأس الخيط في يد الأقوى والأعلم.
والله ولي التوفيق.
ملحق:
مجلة القانون السورية لعام 1984 /أحوال شخصية ص 861-862
شرعية أساس 256 قرار 232
تاريخ 28/3/1984
الرئيس:حسن القاضي نائب رئيس محكمة النقض
الأعضاء:المستشاران: محمد كلزية وسعدي أبو جيب
تثبيت زواج
إن الاجتهاد القضائي قد استقر على أن المسلمين من أهالي منطقة الجزيرة الذين كانوا في الأصل من السوريين إلا أنهم لم يأت لهم ذكر نتيجة الإحصاء الجاري في المنطقة لا يمكن اعتبارهم أجانب فيما يحتاجوا في معاملات زواجهم إلى موافقة وزارة الداخلية.
لما كان يتبين من ملف الدعوى أن الطاعن قد استدعى تثبيت زواجه من المطعون ضدها مع تثبيت نسب أولاده منها وتسجيل ذلك في السجل المدني.
وكان القاضي قد رد الدعوى بقولة أن الطاعن أجنبي ولا يجوز تثبيت زواجه من امرأة سورية إلا بعد ترخيص من وزارة الداخلية.
وكان القيد المدني للطاعن قد أظهر انه سوري الأصل إلا أنه سجل في سجل الأجانب لأنه لم يرد له قيد في الإحصاء الأخير الذي جرى في منطقة الجزيرة.وكان الاجتهاد القضائي قد استقر على أن المسلمين من أهالي منطقة الجزيرة الذي كانوا في الأصل من السوريين إلا أنهم لم يأت لهم ذكر نتيجة الإحصاء الجاري في المنطقة لا يمكن اعتبارهم أجانب بالمعنى المقصود بالمادة 40 من قانون الأحوال الشخصية حتى يحتاجوا في معاملات زواجهم إلى موافقة وزارة الداخلية.وإنه لا يمكن تطبيق أحكام المرسوم التشريعي رقم 272 لعام 1969 بحقهم،كما وان الفقرة الأخيرة من المادة 11 ونص المادة 542 من قانون أصول المحاكمات لا يسري بحقهم….
وكان ما سبق ذكره يجعل ما انتهجه القاضي في حكم الطعين لا يتفق مع القانون والاجتهاد المستقر…فهو لذلك حري بالنقض وينال منه ما جاء في أسباب الطعن.
لذلك تقرر بالإجماع:
1- قبول الطعن شكلا.
2-قبوله موضوعا ونقض الحكم الطعين
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس سهلا البحث في قضية شائكة تتداخل فيها معطيات مختلفة ،وتنازع هذه المعطيات ؛أكثر من جهة.وتزداد الصعوبة عندما تصبح محاولة معرفة حقائق التاريخ وتفسير أحداثه مرتكزة إلى نزعات سياسية –وبكل ما تعنيها هذه النزعات من الذاتية(المشاعرية –النفسية –المصلحية…الخ).
ولعل هذا المعنى يتجسد في القضية التي نود عرضها،وهي قضية /الإحصاء الاستثنائي لمحافظة الحسكة عام 1962/واستنادا إلى ((المرسوم التشريعي رقم 93 تاريخ 23/8/1962 المتضمن إجراء إحصاء عام لسكان محافظة الحسكة،المعدل بالمرسوم التشريعي رقم 108 تاريخ 28/8/1962 ….))-المجلة القانونية عام 1984-
لذا فلا بد من التذكير والتنبيه إلى أن كتابة التاريخ ينبغي أن تبقى أمرا يختص به المتخصصون بعلم التاريخ،مع توفر شروط المصداقية أيضا في ممارستهم لاختصاصهم.
ولأن المجتمعات –ولأسباب عديدة ومختلفة –تتعرض لتغيرات كثيرة،فإن البحث في التاريخ يبقى أحيانا لتثبيت الحقيقة التاريخية فحسب.لأن هذه التغيرات قد تفقد البحث التاريخي –حينئذ- الخلفية (الدافع) والهدف..!
فمثلا:
لا نعتقد بان التاريخ يثبت حقوقا أثنية سياسية -واقتصادية أيضا- لليونان لأن الاسكندر المقدوني قد سيطر وساد في مناطق عديدة ومنذ عشرات القرون.والأمر نفسه ينطبق على الطليان الآن والذين هم من سلالة الرومان الذين حكموا مناطق عديدة ولسنين طويلة،وهي الآن خارجة عن حدود إيطاليا،على الرغم من الآثار الدالة على وجودهم-القلاع مثلا- والثبت التاريخي لهذا الوجود.
ونعتقد بأن الترك يعودون- في أصولهم – إلى الشرق الأقصى،ولكنهم الآن يحكمون بلادا لم تكن لهم في يوم ما من التاريخ.ولكنهم اليوم موجودون واقعيا،ومعترف بهم وجودا ودولة أيضا..
وهكذا..!
فإن للتاريخ منطقه في تثبيت الواقع،وأحيانا الأمر الواقع أيضا..
وتصبح المعايير –في هذه الأحوال- هي معايير الواقع،وأحيانا القوة.
لذا فليس البحث في الماضي صعودا إلى الجذور القديمة لهذا الشعب أو ذاك سوى نوع من الجهد لتعزيز ما هو واقع.
وإذا ما كانت الحروب –سابقا –تحسم الكثير من الاختلافات،أو تفرض كثيرا من حالات أمر الواقع المستند إلى القوة؛فإنها تبدو آلآن عاجزة عن ذلك-ولأسباب عديدة- إلا في حالات محدودة،وضمن مساحات محدودة أيضا..
هذه الحقيقة هي التي عززت في قناعات المفكرين والفلاسفة والساسة المستندين إلى الوعي..،أن يكون الحوار الإيجابي هو المدخل والمظهر للعلاقات بين الأطراف-ومهما كان الاختلاف نوعا ومدى..-
ولقد حقق هذا النهج في بعض المناطق من هذا العالم الكبير نتائج لا يمكن تجاهل قيمتها الايجابية.
والاتحاد الأوروبي خير نموذج.
ولعل التأمل في خارطة العلاقات ومحطاتها المختلفة،يظهر ضرورة الاحتكام إلى البعد الإنساني الأعمق والأشمل لتلافي النكبات والكوارث..،والتي يكون الندم هو النتيجة المنطقية لها.
تأسيسا على ما سبق نذكّر بالاتفاق القانوني عالميا على اعتبار كل من عاش خمس سنوات على أرض بلاد ما ،استحق اكتساب حق الانتماء إلى هذه البلاد-إذا استبعدنا المؤثرات السياسية- ولا يخفى على أحد، المدى الذي يمكن أن تتخذه هذه المؤثرات من ذاتية الموقف بكل احتمالات التحدد والتلون والتشكيل المختلفة.مما يجعل البعد الإنساني الأعمق والأشمل مادة سهلة التشكيل في أيدي الساسة.
وهو ما يحصل في واقع الحال،وعبر التاريخ كله أيضا.
فإذا حاولنا البحث-في هذا السياق- في واقع سوريا،لا نجد لها حدودا تميزها كدولة تتحدد في مساحة /185000/كم2 قبل اتفاقية سايكس بيكو في النصف الأول من القرن العشرين،بل وكانت دوما جزءا من دولة أوسع (الإمبراطورية العثمانية وقبلها الإمبراطورية الرومانية..الخ).
وكانت حركة الشعوب تبع لنمط العلاقات السائدة في كل مرحلة من التاريخ.
ومن الشعوب التي سكنت –ومنذ القديم-هذه المناطق،كان الشعب الكردي والذي كان يتحرك ضمن المساحة التي تتوسط ما تسمى بدول:تركيا-إيران-العراق-سوريا..ودون تحديد لنقاط الابتداء والانتهاء،فذلك يحتاج إلى مختصين دوما..!
وكانت الدولة الإسلامية ، والتي كان قادتها عرب مسلمون في البداية،و كرد مسلمون في مرحلة ما،ثم أتراك عثمانيون فيما بعد-وهم مسلمون أيضا- تضم في إطار حدودها شعوبا مختلفة يجمعها الإسلام أساسا(عرب-ترك-كرد-فرس-..الخ).
لم تعجب الحالة هذه دول أوروبا الطامعة في هذا الشرق-ومنذ القديم جدا-وبلغت ذروتها في محطات تاريخية أبرزها حملة الاسكندر المقدوني والحملة الإفرنجية (الصليبية) والمد الاستعماري الأوروبي الحديث في القرن الماضي..
وكانت الوسيلة إلى تفتيت هذه الإمبراطورية التي نخر عظامها ،التفسخ- وبتأثيرات أوروبية إضافة لطبيعة تهالك الدولة إذا قدم بها العهد-كما يقول ابن خلدون- فكانت أحوال جديدة ساهمت في تمايز قومي ظل يشتد-وبتأثيرات أوروبية-إضافة لحالة رد الفعل التي استوجبها المسلك الطوراني التركي –والذي كان هو أيضا بتأثير أوروبي،لتحويل الإمبراطورية إلى مزق صغيرة لا تستعصي على احتلاله لها،وتحت سياسة معروفة((فرق تسد)).وهكذا كان.
دول عديدة وضعيفة في المنطقة ما عدا دولة خاصة بالكرد-وربما انتقاما من صلاح الدين الأيوبي،أو ربما خوفا من أن يكرر أحفاده ما فعله هو بتحرير القدس من براثنهم..!
بقي الكرد شعبا لا وطن يحميه من الضغوطات المختلفة والتي يتعرض لها من هذه الدولة أو تلك،يشهد على ذلك المجازر والتهجير بأشكال مختلفة بقصد الإبادة والتذويب وطمس الخصوصية القومية التي تميزه.
تحت وطأة هذه الظروف شديدة القسوة،وبتأثير من نمو الفكرة القومية –إلى درجة التطرف أحيانا- لدى كل من العرب والترك والفرس..فقد نما الشعور بالقومية لدى الكرد أيضا.وقد ترافق مع هذا الشعور ظروف استثارت حساسية الاتجاه القومي الناهض للعرب،ومنها مثلا وعد بلفور الذي تجسد في الأربعينات من القرن العشرين واقعا عبر دولة إسرائيلية في فلسطين.كما كان الصوت الشجي للضابط الأمل –حينذاك- جمال عبد الناصر، يعزف أنغاما صارخة على أوتار القومية العربية،مما أوقد جذوة عروبية قومية في النفوس تمازجت مع أصداء كتابات المفكرين القوميين..وأثار الألم الذي خلفه قيام إسرائيل.إضافة إلى ذكريات سلخ لواء اسكندر ون وغيرها.
فكانت الضحية الأولى لهذا الغليان هو الكرد الذين أعلنوا عن تمايزهم القومي،وأنشؤوا حركات سياسية كانت صياغة بنيانها متأثرة بحالة التخلف والعداء اللذين يحيطان بهم.
ولم يشفع لهم تاريخهم الطويل من الإخوة الإسلامية،ولا ما قاموا به من مهمات جليلة عبر التاريخ-وعلى مختلف الأصعدة، ومنها العسكرية والمساهمة في بناء الدولة السورية نفسها،فارتفعت أصوات عربية فرادى أو عبر جماعات منظمة((أحزاب سياسية)) للتنبيه-واهمين- إلى خطر داهم في الشمال السوري ومحاولة ((إنشاء إسرائيل ثانية )).
زادت هذه الأصوات حدة تحت تأثير المد القومي العروبي الوثاب عبر شعارات عبد الناصر وحزب البعث الفتي،واستثمرت حركة ((التمرد الكردي في شمال العراق))في بداية الستينات بحسب تحليل المؤثرين في صياغة السياسة القومية العربية..فتجسد ذلك في مجموعة من الخطوات -ومنها نصائح الضابط الشاب والمتعصب محمد طلب هلال،والذي أصدر دراسة بعنوان((دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية والاجتماعية والسياسية)) والتي يقول فيها بعد الاستشهاد بأبيات الشاعر العربي:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طغى السيل حتى غاصت الركب
….
((أجل لا حاجة بي لسرد تاريخ هذه القطعة من وطننا الحبيب-ويعني الجزيرة- وما جرى عليها من تآمر وغدر وإهمال،إذ الكل يعلم ذلك من أطماع الأتراك قديما،إلى أطماع الألمان إلى أطماع الفرنسيين والانكليز لا ضمها كقطعة غنية إلى أوطانهم –ما عدا الأتراك- بل لضرب القومية العربية…))
((..تلك هي تطورات المشكلة الكردية بخطوطها العريضة منذ ميلادها وحتى اليوم،واليوم وقد أصبحت تهدد الكيان العربي مغذاة من كل الجهات المعادية للقومية العربية قديمها وحديثها في الخارج والداخل…)).
تحت تأثير مثل هذا الوهم وتضخيمه،وضمن ظروف لم تكن سيطرة الدولة على الأطراف في مستواها الحالي،نبتت اقتراحات صادرة عن هذا الضابط ومن على شاكلته للقيام بإجراءات تمنع((سلخ منطقة الجزيرة على يد الكرد)) بزعمهم.
وكأنما كان المناخ السائد في الخمسينات والستينات مهيأ لتكوين نظرة سلبية إلى الكرد،واتخاذ إجراءات مغرقة في السلبية ضدهم.
ومنها : ((الإحصاء الاستثنائي لمحافظة الحسكة عام 1962 استنادا إلى المرسوم التشريعي رقم 93 تاريخ 23/8/1962 المتضمن إجراء إحصاء عام لسكان محافظة الحسكة المعدل بالمرسوم التشريعي رقم 108 تاريخ 28/8/1962 …)) –المجلة القانونية السورية لعام 1984- والذي أجري بطريقة غير واضحة الأهداف والأسباب –حينذاك- إلا عند أصحاب القرار،ولكنه تمخض عن نتائج مأساوية وكوميدية أيضا.
لقد تحول عدد كبير،قدِّر حينذاك بـ (150)ألف نسمة –إلى أجانب، أو حجبت سجلاتهم ليعتبروا مكتومين ،على الرغم من كونهم مسجلين في السجلات الرسمية،ومؤدين للخدمة العسكرية، وإن كان بعضهم-بسبب ظروف التسجيل-لا يزال مكتوما بالفعل -وهم قلة قياسا إلى الجميع- وهذا لا ينفي وجود حالات تنقل عبر الحدود-المصطنع سياسيا- وهي قلة أيضا.
كما اظهر الإحصاء نتائج غريبة،بعض أفراد الأسرة مواطنون والبعض الآخر أجانب.ولعل الأطرف هو ورود اسم وزير الدفاع السوري الأسبق (عبد الباقي نظام الدين) بين الأجانب مما عزز الشعور بالشك بدوافع الإحصاء خاصة إذا وقفنا على الملاحظات التالية:
1- إنه إحصاء استثنائي وخاص بمحافظة الجزيرة.
2-إن الأجانب جميعهم كانوا فقط من الأكراد،ما عدا حالات جد قليلة صححت فور اكتشافها.
3-رافق الإحصاء تدابير استهدفت الكرد فقط:
ا- عدم توظيفهم أو تعيينهم في المراكز الإدارية العليا والنظر إليهم بعين الاتهام..
ب-عدم قبول الطلاب في المدارس والمعاهد التي يتوظف خريجوها تلقائيا(دور المعلمين
مثلا) ومنع الكرد من ممارسة ثقافتهم ولغتهم الخاصة.
ج- حظر تطوعهم في الجيش أو قبولهم في سلك التعليم، خاصة.
د-إطلاق يد الأجهزة الأمنية في كل ما يتعلق بشؤون حياتهم على حساب القانون
وأحيانا كثيرة كانت هذه الأجهزة تساهم في إيجاد نزعات أو تصرفات لدى بعض الأكراد لتتخذها ذريعة في تبرير إجراءاتها..
4-تم نزع يد الفلاحين الكرد عن الأرض التي يستثمرونها في منطقة حدودية موازية للعراق وتركيا بطول يقدر ب(375) كيلو مترا وعرض يقدر ب(10-15)كيلومترا..سميت هذه المنطقة رسميا ب (الحزام العربي) باعتبار الخطة تقضي بنقل الكرد منها وإسكان عرب محلهم، ثم غير الاسم إلى (خط العشرة) ف(خط المطر) وأخيرا (مزارع الدولة).وفيما بعد فككت مزارع الدولة هذه ووزع قسم كبير منها ضمن شروط خاصة.
5- تقديم تسهيلات للعرب المستقدمين –المستوطنين- من حلب والرقة إضافة إلى حالات كثيرة استفادت من مواقعها السلطوية والوظيفية ..
ولا نريد الدخول في تفصيلات نتائج أفرزتها الحالة،وانعكست على الحياة اليومية ..وهذا لا ينسينا القول بأن أخطاء قد ارتكبت من قبل الأكراد تحت تأثير الظروف التي أوردناها كرد فعل من جهة هي الأضعف ضمن علاقة غير متكافئة ،ولم يوفر الطرف الأقوى فيها المناخ المناسب لتصحيح الخطأ .
ومع ذلك فلم تنتج عن هذه الحالات ما يمكن أن يسجل على الكرد ذنبا عظيما وعلى مستوى الوطن.
بل بالعكس كان الكرد دوما وقودا للحرب مع إسرائيل،وقبل ذلك ضد الاستعمار الفرنسي.والشواهد أكثر من أن تحصى.
وأما النماذج التي تجلى فيها تحول المواطن المسجل إلى مكتوم أو أجنبي فكثيرة،والوثائق الدالة على ذلك أيضا بينة،وقد نشر صور لبعضها في بعض أدبيات الحركة السياسية الكردية،كما أنها في حوزة أصحابها ويمكن تقديم أمثلة عنها في كل وقت.
وأخيرا فإن الدعوى الشرعية التي وردت في ((مجلة القانون)) لعام 1984 وفي الصفحة :
( 861) و(862) والمتعلقة باجتهاد قضائي صادر عن نائب رئيس محكمة النقض،السيد:حسن القاضي،والأعضاء المستشاران: محمد كلزيه وسعدي أبو جيب، تلقي بعض الضوء على مثل هذه الحالة ونقتطف منها : ((… وكان القيد المدني للطاعن قد اظهر أنه سوري الأصل إلا أنه سجل في سجل الأجانب لأنه لم يرد له قيد في الإحصاء الأخير الذي جرى في منطقة الجزيرة،وكان الاجتهاد القضائي قد استقر على أن المسلمين من أهالي منطقة الجزيرة الذين كانوا في الأصل من السوريين إلا أنهم لم يأت لهم ذكر نتيجة الإحصاء الجاري في المنطقة لا يمكن اعتبارهم أجانب…))
ونرفق صورة عن ذلك مع هذا الاستعراض كدلالة وثائقية رسمية صادرة عن مصدر قضائي سوري توضح ((انه سوري الأصل إلا انه سجل في سجل الأجانب لأنه لم يرد له قيد في الإحصاء الأخير الذي جرى في منطقة الجزيرة)).
نستخلص من هذا السرد والتحليل أن عوامل متداخلة من شعور قومي متوهج إلى تأثيرات خارجية مختلفة ومخاوف نفسية واقعية أو مضخمة ومصالح فئات وأفراد طالت واقع اللحظة التي انبثق عنها تصور مبالغ في تكوينه وملامحه عما يمكن أن يفعله الكرد من اقتطاع محتمل لجزء من البلاد-كما يروج البعض الآن،وكما كانوا يروجون ماضيا،ولا نبرئ تيارا مغاليا من مضطهَدي المسيحيين في رسم الصورة السلبية سواء من خلال مواقع داخل الاتجاه القومي العربي ممثلا في الانتماء الحزبي البعثي خاصة،أو من خارج هذا الاتجاه العروبي ممثلا في أحزاب تخصه..
وإذا كان لا بد من تسجيل أخطاء ارتكبها الكرد فهي سوء التعبير عن أنفسهم أحيانا وارتباك الصياغات في ذلك.وقد كانوا متأثرين بواقع حياتهم المتخلفة من جهة والواقع تحت الضغط من جهة أخرى مما جعلهم في حالة رد الفعل أحيانا أكثر من حالة يقدرون فيها على الفعل الواعي بكفاية تتطلبها الظروف.وبالتالي فإنهم كطرف ضعيف ضمن المعادلة لا يتحملون نتائج ما حصل،أو –على الأقل- فإن قسطهم من هذه النتائج ليس إلا القليل قياسا إلى الطرف الأقوى والذين يدير الأمور من موقع سلطوي وهو العرب في هذه الحالة.
ولا باس من التذكير بما كانت عليه الحالة في الفترة السابقة على الخمسينات من تلاحم الكرد والعرب تجاه الاستحقاقات الوطنية تحت نير الاستعمار الفرنسي وقبلا الحكم العثماني والذي تحول إلى استعمار في مراحله الأخيرة-أيضا.
والمأمول أن لا تضيع حياة متكاملة بين العرب والكرد خلال أكثر من أربعة عشر قرنا منذ دخول الكرد في الإسلام الذي كان قادته عربا في مطلع بروزه وكانت بيئة ظهوره ونموه هي الجزيرة العربية ومن ثم انطلقت الدعوة عالمية عبر تمازج الثقافات المختلفة وصنع تاريخ مشترك لا يمكن تجاهل مؤثراته في تكوين العلاقات بين الشعوب المنضوية تحت مبادئه وشعاراته وسلوكه أيضا وبخاصة العرب والكرد.
وإذا كانت النظرة القومية تسود الآن كمعطى للتطور الاجتماعي وبتأثيرات مختلفة فهذا لا ينبغي أن يغيّب صوابنا أو يضيّع الحقوق لكائن من كان.
والحوار هو المفتاح لحل كل إشكالية واقعة أو متوقعة.
ودائما –كما يقال – رأس الخيط في يد الأقوى والأعلم.
والله ولي التوفيق.
ملحق:
مجلة القانون السورية لعام 1984 /أحوال شخصية ص 861-862
شرعية أساس 256 قرار 232
تاريخ 28/3/1984
الرئيس:حسن القاضي نائب رئيس محكمة النقض
الأعضاء:المستشاران: محمد كلزية وسعدي أبو جيب
تثبيت زواج
إن الاجتهاد القضائي قد استقر على أن المسلمين من أهالي منطقة الجزيرة الذين كانوا في الأصل من السوريين إلا أنهم لم يأت لهم ذكر نتيجة الإحصاء الجاري في المنطقة لا يمكن اعتبارهم أجانب فيما يحتاجوا في معاملات زواجهم إلى موافقة وزارة الداخلية.
لما كان يتبين من ملف الدعوى أن الطاعن قد استدعى تثبيت زواجه من المطعون ضدها مع تثبيت نسب أولاده منها وتسجيل ذلك في السجل المدني.
وكان القاضي قد رد الدعوى بقولة أن الطاعن أجنبي ولا يجوز تثبيت زواجه من امرأة سورية إلا بعد ترخيص من وزارة الداخلية.
وكان القيد المدني للطاعن قد أظهر انه سوري الأصل إلا أنه سجل في سجل الأجانب لأنه لم يرد له قيد في الإحصاء الأخير الذي جرى في منطقة الجزيرة.وكان الاجتهاد القضائي قد استقر على أن المسلمين من أهالي منطقة الجزيرة الذي كانوا في الأصل من السوريين إلا أنهم لم يأت لهم ذكر نتيجة الإحصاء الجاري في المنطقة لا يمكن اعتبارهم أجانب بالمعنى المقصود بالمادة 40 من قانون الأحوال الشخصية حتى يحتاجوا في معاملات زواجهم إلى موافقة وزارة الداخلية.وإنه لا يمكن تطبيق أحكام المرسوم التشريعي رقم 272 لعام 1969 بحقهم،كما وان الفقرة الأخيرة من المادة 11 ونص المادة 542 من قانون أصول المحاكمات لا يسري بحقهم….
وكان ما سبق ذكره يجعل ما انتهجه القاضي في حكم الطعين لا يتفق مع القانون والاجتهاد المستقر…فهو لذلك حري بالنقض وينال منه ما جاء في أسباب الطعن.
لذلك تقرر بالإجماع:
1- قبول الطعن شكلا.
2-قبوله موضوعا ونقض الحكم الطعين