سوريا أولاً مشروع وطني أم تكتيك مرحلي

بير رستم

باتت المقولة السابقة؛ (سوريا أولاً) تستخدم بكثرة وكثافة من قبل كل الأطياف والتيارات السياسية – موالاةً ومعارضة – والتي تشكل الموزاييك الاجتماعي والسياسي في سوريا ومنها مجموع الأحزاب الكوردية التي تتواجد على الساحة الداخلية في البلد، وهكذا بات المرء يقرأ في كل الأدبيات السياسية لهذه الكتل والتيارات السياسية ما يدعو إلى (الوحدة الوطنية أرضاً وشعباً) ولم يخلو خطاب القسم للولاية الثانية لرئيس الجمهورية من هذه النقطة والقضية الراهنة
وهكذا يدرك المرء وخاصةً في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة وما تعانيها من انقسامات عرقية وطائفية؛ الساحة العراقية مثالاً, بأن هذه المسألة (الوحدة الوطنية) تعتبر من القضايا الحساسة والاستراتيجية والتي تشكل مع قضايا وطنية أخرى؛ مسائل الديمقراطية والحريات العامة في البلد والملغى بموجب قانون الطوارئ والأحكام العرفية منذ ما يقارب النصف قرن وكذلك قضايا حقوق الإنسان و(الأقليات) العرقية والأثنية وأيضاً المذهبية الدينية وغيرها من القضايا كتفرد حزب البعث في “قيادة الدولة والمجتمع” بموجب المادة الثامنة من دستور البلاد وبالتالي إلغاء التعددية السياسية والحزبية في البلد وأيضاً المادة التاسعة والأربعون والتي تحاكم بموجبها الجماعات الإسلامية وغيرها من القضايا..

تعتبر من الخطوط الحمر في البلد وممنوع الاقتراب منها وأي تناول لهذه المسائل السياسية هي بمثابة “اللعب بالنار” ويعرض الباحث فيها للمساءلة (القانونية) الأمنية.
ولكن وعلى الرغم من هذه الإشارة الحمراء سوف نقترب في مقالتنا هذه من إحدى هذه الساحات الخطرة؛ لا حباً في المغامرة والاستكشاف والتباهي بقدر ما هو تناولاً لقضية وطنية تهمنا وتهم كل المهتمين بالشأن السياسي العام وسنحاول أن نطرح من خلال تناولنا لهذه المسألة (الوحدة الوطنية) في البلد ومقولة (سوريا أولاً) بعض الأسئلة التي تقلقنا ومن موقعنا كمهتم ومتابع للشأن العام في البلد وعلى التحديد ما يمس القضية والحركة السياسية الكوردية في سوريا.

ولكن قبل هذا وذاك يُسأل ويسأل المرء أولاً: لما كل هذا الخوف على الوحدة الوطنية في هذه البلدان التي كانت (صاحبة مشروع قومي عربي) وتنادي بوحدة الأمة العربية من المحيط إلى الخليج وأين بات ذاك المشروع الوحدوي القومي لتخاف على وحدة كياناتها السياسية والتي لم تكن هي نفسها تعترف بها من قبل، بل كانت تعتبرها (أي هذه الكيانات والدول المعروفة حالياً بالدول العربية) ليس إلا تركة ثقيلة ومن مخلفات وإرث الاتفاقيات الاستعمارية والتي كانت مرفوضة جملةً وتفصيلاً، سابقاً كما قلنا، وبالتالي يحق لنا أن نسأل مع الآخرين: ما هي المتغيرات الدولية والإقليمية الجديدة والتي دفعت بهذه البلدان والتيارات السياسية (أصحاب المشاريع القومية الوحدوية) وتحديداً في هذه المرحلة الراهنة من عمر المنطقة لأن (تغيّر) برامجها ومناهجها وتتمسك بهذه الوطنية التي كانت تعتبر إلى الأمس القريب نوع من التمسك بالمشروع التقسيمي للاستعمار ولو بشكل مبطن وبالتالي كان مرفوضاً على صعيد الطرح والممارسة ومستبدلاً بمشروع قومي وحدوي يضم كل هذه الكيانات السياسية.
بالتأكيد إن سؤالنا السابق يعتبر مشروعاً في ظل حالة عدم الثقة التي تعانيها المنطقة وذلك من خلال الثقافات التلقينية التي توارثناها عبر الأجيال السابقة والتي قامت على أساس إما (الحق الإلهي وامتلاك الحقيقة المطلقة) أو إنها (صاحبة السيادة والحق والقوة والنفوذ) ومن خلال فكر شمولي مستبد، وتوضيحاً للقضية سوف نتناول المشاريع الفكرية والسياسية الثلاث والتي ما زالت تلعب دوراً أساسياً في رسم ملامح منطقتنا الشرق أوسطية؛ ألا وهو المشروع الديني الخلافي – من الخلافة الراشدة إلى العثمانية – مروراً بالمشروع السياسي القومي (العربي والفارسي وكذلك الطوراني التركي) وانتهاءً بالمشروع اليساري الماركسي الخجول في المنطقة وصاحب المسألة الأممية في حل الخلافات القومية والعرقية.

إن تجربتنا؛ نحن الأعراق والقوميات والطوائف الدينية المذهبية وأخيراً الكتل والأحزاب السياسية التي لم تكتب لها أن تكون من (الأسياد) في هذه المنطقة الجغرافية والتي تعرف بالشرق عموماً، لهي تجربة مريرة وشاقة وقد عانينا – وما نزال – الأمرين منها ومع الثقافات السابقة والتيارات السياسية الثلاث تلك؛ حيث الاستبداد والطغيان والنفي، بل الجريمة المنظمة والإبادة الجماعية (الجينوسايد) وتجربة كورد (العراق) والأنفال وحلبجة شاهدٌ على تلك الجرائم الجماعية بحق المكونات (الوطنية) الأخرى التي لم تكن من مرتبة (الأسياد) وبالتأكيد فهي ليست الأولى في تاريخ هذه الأنظمة المستبدة بحق شعوبها، بل كل شبرٍ من عموم كوردستان رأت جريمة إبادة بحق هذا الشعب وكذلك هي الجغرافيات الأخرى في هذا الشرق البائس واللعين والمستبد.
وهكذا نصل إلى المقصد والغاية من موضوع مقالتنا هذه؛ ولنسأل بدورنا: ما الغاية من هذا الطرح الوطني العام وفي هذه المرحلة تحديداً وماذا (وراء الأكمة) من الدعوة إلى (الوحدة الوطنية) وما تعريفنا للوطن وأي وطناً نقصد بذلك هل هو الوطن السوري الذي يضم كافة مكوناته العرقية والدينية والطائفية والسياسية بحيث الجميع يجدون موطئ قدم فيه ويكونون متساوون أمام القانون؛ لهم الواجبات والحقوق نفسها، أم هو وطن قومية وطائفة وملة وكتلة سياسية وعلى حساب باقي مكونات الطيف السوري بحيث يقود أحدهم (حزب البعث) الدولة والمجتمع ويكون الآخرين مقودين أو مقيدين بالأحرى ومن يعطي الحق لهذه الفئة أو تلك لأن تقود الآخرين، وهل بقية المكونات هي دون السن القانوني والسياسي لأن تقودهم كتلة سياسية (شرعنت وقوننت) لنفسها مجموعة قوانين أسمته دستوراً لتقودنا حسب قراءتها الأحادية والمتسمة بروح التشدد والعنصرية تجاه بقية مكونات المجتمع السوري، وأيضاً ماذا نفهم من مقولة (سوريا) وكذلك (سوريا أولاً).

هل سوريا هي هذه الجغرافيا التي تضم أكثر من قومية وعرق وطائفة ودين وكذلك إقليم جغرافي لكل منه امتداد مع جغرافية أوسع تشاركها في العديد من الخصوصيات اللغوية والثقافية الحضارية وكذلك الرغبة والطموح في إنشاء كيانات سياسية أكثر اتساعاً ومنعةً لتشمل أبناء (الجلد الواحد)، أم سوريا هي التي عرفت وتعرف عند البعض – الأكثرية العربية – بأنها ذات اللسان والهوية والثقافة الواحدة (العربية) وهي (جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير) وما الكورد وغيرهم من المكونات الاجتماعية والدينية إلا عناصر طارئة ولاجئة إليها وبالتالي ليس لها الحق إلا في (المواطنة السورية) ذات اللون والنكهة العربية الواحدة.
وعلى الرغم إن هناك الكثير من الأسئلة التي يمكن أن تطرح بخصوص هذه المسألة، إلا إننا نكتفي بما أوردناه سابقاً من مسائل إشكالية عالقة وغير مطروحة للبحث بشكلٍ جدي وموضوعي وخاصة من طرف (الأكثرية) العربية وكتلها السياسية – إن كانوا في الموالاة أو المعارضة – بل بالعودة إلى برامج القوى والأحزاب العربية وضمن التيارات الفكرية الثلاث؛ الدينية المتمثلة بالإخوان المسلمين والقوميين من البعثيين والناصريين وعلى جبهتي المعارضة والموالاة وكذلك التيار الماركسي اللينيني والذي يمثله الأحزاب الشيوعية بفصائله المتعددة، فإننا نجد بأن (الجميع) ودون استثناء يجمعون على الجانب العربي كهوية وطنية في البلد وهم يرون أن كل مساس بعروبة سوريا هو مساس بالوطنية السورية، بل وصل الأمر ببعضهم بأن يشبه الانتماء إلى العروبة بالانتماء إلى الأمركة أو الفرنسة (من الفرنسية) وكأن العروبة هو أسم ومصطلح جغرافي سياسي وليس بهوية لمكون وعرق وقومية محددة تنفي أو تلغي أو على الأقل تقوم بابتلاع غيرها من المكونات العرقية – الإثنية وذلك عندما أُحّمل – أنا الآخر الذي أحمُل هوية ثقافية وحضارية متميزة عن العروبة – بهذه الهوية الثقافية الحضارية.

وهكذا – وللأسف – فليس المواطنة و(الوحدة الوطنية) عند هؤلاء إلا نوع من الارتداد إلى الخلف أو هو إعادة الإنتاج لأفكار وقيم وأسس مبادئ سابقة عرفت بمفاهيم ومصطلحات من قبيل (الأخوة في الدين) أو ما عرف في القرن الماضي (بمبادئ الأممية) والاشتراكية.
ولكن ونقولها صراحةً وبكل وضوح وشفافية؛ لقد ولى زمن الاستبداد وأنظمة الطغيان وولى معها ثقافتها ومصطلحاتها وبرامجها السياسية التي عرفت بالشمولية وذات اللون والنكهة الواحدة، وإن عصرنا ومرحلتنا ونتيجة لمتغيرات دولية وإقليمية بات يعرف اصطلاحاً (بعصر الانفتاح)؛ الانفتاح على الآخر وقبوله وبالتالي فنحن مجبرون على التعايش مع المختلف وعلينا بالتالي قبول التعددية الأثنية والعرقية وكذلك الدينية المذهبية ومؤخراً السياسية الحزبية.

ونحن الكورد في سوريا – مرة أخرى نقولها بكل صراحة وشفافية – نملك من الخصوصيات القومية الأثنية ما يؤهلنا أن نطالب بحقنا في إنشاء كياناتنا المستقلة أسوةً بغيرنا من شعوب المنطقة وهذه ليس منةً من أحد ولكن ولعوامل عدة؛ منها سياسية – اقتصادية وأخرى اجتماعية وجغرافية ما يجعل تحقيق هذه الأمنية والحلم الكوردي صعب المنال وخاصةً في ظل الظروف الراهنة من صراع المصالح والإرادات الدولية في المنطقة وهكذا فعلينا بالواقعية السياسية والطرح الموضوعي للقضايا والمسائل العالقة؛ حيث يتحتم علينا الظروف الراهنة أن نعيش ضمن (وحدة وطنية) قسرية ولكن يمكن أن نجعلها مقبولة للجميع بدرجةٍ ما وذلك عندما يجد الجميع أن لهم موطئ قدم في سوريا وبأنها (أي سوريا) هي للجميع وليس ذات لون وهوية واحدة إلا الهوية السورية والتي تضمنا جميعاً كورداً وعرباً وتركماناً وجركساً وأرمناً وآشوراً وغيرها من المكونات الدينية والطائفية المذهبية وكذلك السياسية الحزبية وحتى القبلية العشائرية؛ حيث من دون تكوين وتشكيل (سوريا) هكذا؛ ديمقراطية وحرة ومتعددة الأطياف والألوان، سوف يكون كل حديث عن (الوحدة الوطنية) و(سوريا أولاً) كلاماً سياسياً من دون معنى ووجود حقيقي على الأرض.

جندريسه-2007  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…