إن البعض من متتبعي علاقات السياسة الدولية وتحديدا السياسة الأمريكية وتوجهاتها حيال العديد من بؤر التوتر في العالم، يخال له للوهلة الأولى أنه أمام حالة ازدواجية التعاطي الأمريكي مع الوضع العالمي ولاسيما قضايا منطقة الشرق الأوسط ، أو أنه أمام منحيين للسياسة الأميركية متعارضين أو متنافسين ولكل منها أجندتها وأسسها وأهدافها المتباينة، و ما على الجانب الآخر المتعاطى والمقصود (أنظمة المنطقة) سوى ممارسة التكتيكات اللازمة للاستفادة من هذه (الازدواجية)!! ويعني هذا البعض بالمفارقة الواضحة بين تقرير مجموعة دراسة العراق الأخير المعروف بتقرير (بيكر- هاملتون) الذي يفيد معنى التراجع عن كل ما حصل وبالتالي العودة إلى الأساليب الكلاسيكية في زمن الحرب الباردة..
وبين الخطة الأمريكية الجديدة التي عرفت باستراتيجية جورج بوش الأخيرة والتي تحمل- كما بدت- في طياتها كل معاني الإصرار على مواصلة السياسة التي أنتهجها المجتمع الدولي في التغيير والتحول ومكافحة الإرهاب والاستبداد والمضي قدما في متابعة تنفيذ البرامج والمشاريع المتوافق عليها دوليا وخصوصا تلك المتعلقة بشأن الشرق الأوسط والآفاق المنتظرة للمنطقة برمتها..
والواقع فإن السياسة العالمية المتبعة والقائمة عليها العلاقات الدولية وعلى مختلف المستويات، هي تلك التي توافقها الاستراتيجية الجديدة للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش والتي بوادر التنفيذ المباشر لها قد بدأت وعلى جوانب عدة (عراقية، إيرانية، فلسطينية – إسرائيلية، سورية..) بمعنى أن العلاقات القائمة رغم تداخلها وتشابك قضاياها أخذت سبيلها بشكل منفصل أو الترتيب لكل منها على حدا، ففي الجانب العراقي ورغم تصاعد حدة التدهور الأمني إلا أن هناك توافق خارجي داخلي في إصرار لحقن الدماء البريئة وصولا إلى استتباب الأمن، ويظهر ذلك من خلال التعزيزات العسكرية الأمريكية وتنفيذ الخطة الأمنية للحكومة العراقية والاتصالات المتتالية مع دول الجوار العراقي ولاسيما إيران وسوريا وزيارة رئيس العراق الفيدرالي جلال طالباني الأخيرة إلى سوريا والتي وصفت بالهامة تأخذ بلا شك أوسع المجال في هذا الاتجاه..
ومع تعنت إيران وإصرار حكومة الملالي على مواصلة تنفيذ برامجها النووية وتزايد التسلح العسكري، و ترافقا مع هذا وذاك تزداد الأساطيل والحشود العسكرية الأمريكية في الخليج وفي قواعدها العسكرية الأخرى المنتشرة في المنطقة، ولا شك أن جانبا من تعزيزاتها العسكرية في العراق يأتي تحسبا لما قد يجري مع الجانب الإيراني في الأوقات المرتقبة، أي أن احتمالات المواجهة العسكرية مع إيران تزداد يوما بعد آخر وخصوصا في الآونة الأخيرة..
وفي هذا السياق تنطوي العلاقة مع الجانب التركي على تودد- كحساب مستقبلي- لضمان التسهيلات والتعزيزات من خلال الأراضي التركية وقواعدها في أنجرليك، مع تحذيرات التدخل في شؤون الجوار وخصوصا العراقي سواء بدافع الأطماع في كركوك أو بذريعة ملاحقة حزب العمال الكردستاني..
وعلى الصعيد الفلسطيني- الإسرائيلي تظهر بوادر المصالحة الجدية من خلال العودة إلى خطة خارطة الطريق وإحياء اللجنة الدولية الرباعية (أمريكا، روسيا، الاتحاد الأوربي، الأمم المتحدة) ذلك بعد ترتيبات التوافق بين الجانب الفلسطيني ولاسيما حركتي فتح وحماس بما تقتضي توفير العوامل الضرورية على المستوى العربي والإقليمي والعلاقات في هذا الصدد مع الجانب الدولي وخصوصا الروسي والأوربي، تجلى كل ذلك بوضوح في الجولة المكوكية الأخيرة لكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط و في أوربا بما تحمل من أهداف ومرامي وفي المقدمة منها تنفيذ الاستراتيجية الجديدة بأوسع وأشمل مدى وأسرع ما يمكن من الوقت والزمن، وأعقبها مباشرة خافير سولانا بجولة مماثلة في هذا الصدد..
وفي جانب النظام السوري ، ورغم دعواته المتكررة للدخول في حوارات مباشرة مع الجانب الأمريكي للاتفاق على قضايا المنطقة والإعلان جهارا عن استعداده لبدء مفاوضات السلام مع الجانب الإسرائيلي (معلومات تفيد بلقاءات سرية بين الجانبين) رغم كل ذلك تزداد الضغوطات الدولية على النظام السوري سواء لطلب الاستجابة للتفاعل مع المستجدات أو باتجاه الكف عن تدخلاته في شؤون الجوار وخصوصا اللبناني والعراقي وكذلك قطع مساندته لحركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني كشروط مسبقة لتوفير أرضية ومصداقية المفاوضات – بحسب الزعم الإسرائيلي – وضمان عوامل الثقة والجدية بين الطرفين..
من هنا ، يمكن التأكيد أن كل قضايا المنطقة موضوعة للمناقشة وفق المعايير والمواثيق الدولية وهي تتجه نحو حلولها الممكنة وأن المشروع الكوني للتغيير والتحول الديمقراطي يسير إلى الأمام دون توقف رغم ما يشهدها من عراقيل وعقبات هنا وهناك ولاشك أن خطه البياني في صعود رغم العثرات والكبوات لأن السبيل إلى تحقيقه بشكل كامل وأمثل لا يتم عبر خط مستقيم ، ذلك شأن السياسة باستمرار حيث لها دوما تعرجاتها والتواءاتها وأحيانا انكساراتها، وسينسحب التغيير هذا على أنظمة منطقتنا كمعظم بقاع المعمورة، لذلك فالمرحلة تقتضي أن تكون شعوبنا جميعا وقواها السياسية مدعوة إلى التكاتف والتلاحم في النضال السياسي الجماهيري المشترك على أرضية الحوار والتفاهم وفق خصوصية التعايش والاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات، كما ترى أن مجتمعنا السوري بكل ألوان طيفه القومي والديني والمذهبي والسياسي مدعو إلى الحوار والعمل المشترك وفق قراءة عميقة للمرحلة ومتطلباتها بغية التصدي معا للمهام والمسؤوليات الجديدة، ووضع النظام أمام مسؤولياته التاريخية التي تقتضي درء المجتمع السوري من المخاطر المحدقة به وذلك بتخليه العلني عن احتكاره للسلطة وامتيازاته الأمنية والعسكرية والاستجابة للمتغيرات الكونية التي من شأنها بناء حياة سياسية ديمقراطية تضمن التداول السلمي للسلطة وتحقق التعايش والتآخي بين مختلف ألوان الطيف السوري وفق القواعد الديمقراطية وحقوق الشعوب والإنسان، و لكون سوريا دولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب ينبغي تحقيق الوئام فيما بينها بما يضمن حق الجميع بالمساواة في الحياة والعيش المشترك، مع توفير ضمانات توافق القوميتين الرئيسيتين (العربية والكردية) بموجب الاعتراف المتبادل بحق تقرير المصير وعلى قاعدة الاتحاد الاختياري الحر في إطار وحدة البلاد وبما يخدم تطورها وتقدمها.
هيئة التحرير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) جريدة شهرية تصدر عن مكتب الثقافة والإعلام المركزي لحزب آزادي الكردي في سوريا.