الرجل أصبح في ذمة السماء لكن هذا لايعني ألا نتعرض في هذه العجالة إلى فتوحاته ” العظيمة” على صعيد إبادة الحرث والنسل من شعبه منذ أن شارك في انقلاب البعث في أواخر الستينات وحتى إشرافه وهندسته لاتفاقية آذار عام 1970 بين الحكومة العراقية وقيادة الثورة الكردية بقيادة القائد المرحوم الملا مصطفى البارزاني ، وارتداده على مضامين تلك الاتفاقية وإعلانه الحرب المفتوحة على الكرد، والقضاء على أوار الثورة عام1975.
وعندما أزاح أحمد البكر عن طريقه نهائياً في نهايات 1979 أصبح القائد المطلق بلا منازع، وأعاد إلى بلاد الرافدين صورة جده الحجاج بن يوسف الذي جز أربعة أعناق من أول يوم توليه الحكم في العراق وفي أحد بيوت الله عندما قال : إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ، وإني لقاطفها فنزل من المنبر الذي كان يخطب فيه صلاة الجمعة، وقطف أعناقاً أربعة .
صدام هو ابن تلك الثقافة بامتياز ، ثقافة الذبح والقتل والتنكيل، والوضوء بالدم، والإحساس بأن هناك من يترصده من خلف الأبواب ليذبحه، ويسحل جسده في شوارع العراق كما باقي أسلافه من الذين حكموا هذه البلد جعله يتحسس مسدسه على الدوام ، ويعدم، ويأمر بقتل الأبرياء دون أن يرفَّ له جفن ، وقد صرح بمثل هذا الكلام علناً في إحدى محطات حزبه البعث الذي أصبح محظوراً بسقوطه .
وما إن استلم مقاليد الحكم بشكلها المطلق حتى أضفى على نفسه هالة من الألوهية والقداسة يساعده إعلام قطيعي ينبح باسمه العظيم، ويبشر ببطولاته الخارقة وانتصاراته الإلهية ، حتى أن الشارع العربي الذي افتقد إلى طعم الانتصارات منذ زمن طويل صَّدقه ، واقتنع بالفعل أن صدام هو حامي البوابة الشرقية للأمة العربية ، وإنه يحارب ” الفرس المجوس” عنهم جميعاً مستعيداً إلى الذاكرة العربية معركة القادسية التي جرت بين العرب والفرس وانهزم الفرس على أثرها ، عندما أعلن صدام حربه على إيران الخارجة لتوها من أتون حرب أهلية كلفتها الكثير من الضحايا ، وأنهكت اقتصادها
ولم يكتف صدام بهذه الحرب العبثية التي أفقرت المنطقة ككل ، وخاصة دول الخليج التي دفعت فاتورة حربه الباهظة مع إيران، وسرعان ما انقلب عليها صدام في اجتياحه للكويت عام 1990 وسط ذهول العالم، وكان في الوقت ذاته مشغولاً بالقتل الجماعي للكرد في كردستان ، ومسح قراهم عن بكرة أبيها، ودفن الكرد أحياء في مقابر جماعية لطخت تاريخه الأسود بالكثير من السواد وعلى وجه الخصوص بعد تداعي وانهيار نظامه الدموي على يد قوات التحالف ، ودخولها بغداد في السابع من نيسان 2003 .
صدام لم يوفِّر أحداً في قمعه وظلمه ، وقد قتل من السُّنَّة هذه الطائفة التي تتباكى عليه اليوم العديد العديد ، وبطبيعة الحال أكل الشيعة في الجنوب نصيبهم من القتل والتنكيل والتصفية الجسدية ، وحرق المزروعات ،و تحويل المنطقة الجنوبية إلى صحراء- كما كل العراق –
هذا هو صدام ” الشهيد ” بعد أن أُعْدِمَ في أول أيام عيد الأضحى ، والمفارقة أنه ضحك على المخيال العربي في حياته، وكذلك في مماته.
فكيف لهذا الرجل وبالمواصفات التي لم تسعفنا الذاكرة على عرضها كلها ..
كيف لهذا الرجل أن يصبح قدِّيساً و” شهيداً ” فقد اتشحت العديد من العديد من الشوارع العربية بالسواد حزناً على إعدام صدام ن تلك الجماهير التي صدَّقت أن صدام يدافع عن العرب ، وأنه أعاد فلسطين حرة ..عربية..
وأنه كبَّ إسرائيل في البحر ببعض صواريخه الخلبية في حرب الخليج الثانية ..
هذه الصواريخ التي أفادت إسرائيل كثيراً ، ووضعتها في موقع الضحية البريء، فانهالت المساعدات والهبات و..و..
الأسلحة المتطورة تنهال عليها من كل حدب وصوب لتدافع عن نفسها من ظلم صدام .
وقد ردت القيادات الفلسطينية والطيف السياسي الفلسطيني عامة بعض جميل صدام “العظيم ” عليهم ذلك الرجل الذي أعاد بيت المقدس إلى الحاضنة الفلسطينية مثلما فعل ذات يوم رجل اسمه صلاح الدين الأيوبي ” الكردي طبعاً ” في حطينه الداحرة للصليبيين الذين لولا ذلك الرجل لكانت أسماؤنا الآن فيليب وفرانسوا ويوليوس وغيرها من الأسماء .
ولم يكتف القوم بهذا الأمر ، فهذا قائد الأمة العربية “سابقاً” والمخلص الإفريقي حالياً يعلن الحداد ثلاثة أيام بلياليها ، تنكس فيها الراية الليبية – ومتى كانت خفَّاقة ياأخ معمر ..هل نسي ملايين الدولارات التي رشها على ضحايا طائرة لوكربي لتصفح عنه أمريكا ، وتعيده إلى الأسرة الدولية بعد غياب دام أكثر من عشر سنوات ، وهل نسي تخليه الطوعي من غير أي ضغط عن برنامجه النووي وتسليمه كل المفاتيح للسيد بوش و..
وكل هذا من أجل أن يبقى في موقعه الذي احتله بقوة الدبابة منذ أواخر الستينات حتى هذه اللحظة ، والله وحده يعلم كم سنة أخرى سيبقى هذا الفاتح العظيم على رأس هرم السلطة في طرابلس، وكان قد قال يوماً في لحظة ضحك على شعبه ” طز في أمريكا”
ومن رجل الدولة معمر إلى البرلماني العراقي مشعان الجبوري الذى أدلى بدلوه هو أيضا وأضفى صفة القداسة والشهادة على صدام ، وزيَّن جريدته “الاتجاه الآخر” بصورة الفاتح صدام ، وملهم المقاومة التي ستدحر الأمريكان ، وكان ذلك الرجل هو نفسه الذي بارك الأمريكان بدخولهم إلى العراق ، والغريب أنه لم يراعِ المشاعر الكردية الذين ذاقوا الويلات على يد سيد ” المقاومة ” ، وقد تناسى فضل الكرد عليه ، حيث عاش في ظل حماية الكرد له في حلِّه وترحاله ، ويحكى أنه لا يستطيع زيارة بغداد، ومكانه المفضل هو كردستان ، وهولير العاصمة بفنادقها وناسها الطيبين مفتوحة أمام هذا ” المناضل” الذي للتو يشعر أن الحكومة العراقية حكومة صفوية وطائفية وتعادي السُّنَّة ، وهي عميلة الأمريكان ،والجبوري بطل المقاومة العراقية ، وبعض هذه ” المقاومة” يفجِّر نفسه وسط سوق شعبي ، أو أمام باب مدرسة، وتزهق أرواح الأكاديميين العراقيين ، وتقتل الناس على الهوية .
هذه المقاومة التي تقتل من العراقيين العُزَّل أكثر من المحتلين لتحقيق أجندات من هو خارج الحدود، وجاؤوا لتصفية حسابهم مع أمريكا على حساب الشعب العراقي الذي نكأته الجراح .
وكان الأستاذ نوري المالكي محقاً عندما صرح أن إعدام صدام شأن داخلي ولا علاقة لدول الجوار وغيرها بهذا الشأن ، وإنه سيعيد النظر في علاقات العراق مع الدول العربية وغيرها التي نظرت إلى موضوع الإعدام بالمنظار الذي يقترب من التدخل في الموضوع العراقي ، وتباكت ، وذرفت دموع التماسيح على الرجل الذي ترك العراق أرضاً بوراً كما كان دائماً يقول .
هذا صدام الذي شغل الناس في حياته وكذلك في مماته ، أما آن للشارع العربي أن يتخلص من مرض الآلهات التي تمشي على الأرض ، وفي مخيلتهم إنتاج هكذا نماذج من الحكام الذين ساهموا في فرملة الصحوة الحضارية لهذه المنطقة إلى مئات السنين .
emerkoceri@gmail.com