كأن ثمة حكماً تاريخياً غير قابل للنقض قد صدر في حق الوطنية العراقية بأن تظل حبيسة في الصدور والمعتقلات أو تخوض في دمها في مسلخ قومي عربي طوراً واسلامي اصولي طوراً آخر.
فها قد أُفشِلت للتو اول محاولة جادة لاخراج العملية السياسية في العراق من مسارها المنحرف ووضعها في المسار الذي يؤول الى وقف الحرب الاهلية الطائفية والانطلاق نحو اقامة النظام الديموقراطي الفيدرالي الذي وُعد به العراقيون وانتظروه على مدى عقود عدة.
هذه المحاولة بادر اليها التحالف الكردستاني مدفوعا بمخاوف واقعية من ان السلوك العنيد غير المسؤول وغير الوطني لقطبين رئيسين في العملية السياسية ـ هما ائتلافا الاحزاب الشيعية والسنية ـ يهدد بالخراب التام الشامل.
فما فتئ هذان القطبان يسعّران علنا، كما في السر، بين انصارهما والعامة من الناس نار التعصب والكراهية الطائفية ويدفعان ميليشياتهما وعصاباتهما المسل2حة وفرق الموت التابعة لهما الى ارتكاب جرائم القتل والتهجير والخطف جماعيا ومهاجمة الاحياء السكنية وقصفها عشوائيا بالسلاح الثقيل، ويستعديان على بعضهما بعضاً اطرافا اقليمية ويجهدان لاستدراجها الى ساحة صراعهما الطائفي.
وقد سعى التحالف الكردستاني الى تأكيد جدية مبادرته بأن عهد الى رئيس اقليم كردستان، مسعود بارزاني، مهمة حملها الى بغداد والبحث مع القوى السياسية في مشروع يهدف الى اعادة تركيب العملية السياسية الفاشلة، واطلاق عملية سياسية جديدة عراقية الجلد واللحم والعظم.
وبدلا من نظام المحاصصة الطائفية والقومية الذي قامت عليه العملية السياسية الاميركية، استنادا الى فرضية متهافتة تقول إن المشكلة التاريخية في العراق طابعها عرقي (عربي – كردي) وطائفي (سني – شيعي) فحسب، اقترحت المبادرة الكردستانية اقامة ائتلاف سياسي للقوى المعتدلة في البلاد تتشكل نواته من التحالف الكردستاني الذي يضم جميع الاحزاب الكردستانية تقريبا ومن «المجلس الاعلى للثورة الاسلامية» والحزب الاسلامي العراقي بصفتهما القوتين الرئيستين المعتدلتين – الصحيح انهما ربما كانتا الاقل تشددا – في الوسطين الشيعي والسني، على ان تستقطب هذه النواة لاحقا قوى اخرى شيعية وسنية وعلمانية تجعل من الائتلاف الجديد القوة الاكبر في البرلمان والحكومة، وبذا تعود العملية السياسية الى سويّتها المأمولة وتتخذ طابعا سياسيا يقوّض طابعها الطائفي – القومي الراهن.
وكما اوضح بيان لديوان بارزاني فإن غاية المسعى الكردستاني هي «بناء جبهة تضم الأطراف المعتدلة والمؤمنة بالدستور والديموقراطية والدولة الفيديرالية في العراق لتواجه جبهة الإرهاب والدمار والعنف الطائفي».
ولا بدّ ان بارزاني الذي مكث في بغداد اربعة اسابيع تلقى اشارات مشجعة من قيادتي الحزبين الشيعي والسني حملته على السفر الى بغداد على رأس وفد رفيع المستوى من تحالفه.
وفي المرحلة الاولى اكد مسؤولون من «المجلس الاعلى» و «الحزب الاسلامي» انخراط حزبيهما في المبادرة التي انتظر الكثير من العراقيين الاعلان عنها رسميا متطلعين الى وضع نهاية لحمام الدم الذي تغرق فيه البلاد ووقف حملات «التطهير» الطائفي التي تمهد لتقسيم العراق، بل تمزيقه.
لكن في نهاية المطاف بدا بارزاني في بغداد مثل يتيم على مائدة اللئام.
لم يكن المسعى الكردستاني، بطبيعة الحال، ليروق لأصحاب الاجندات الطائفية من الاحزاب والمؤسسات الشيعية والسنية على السواء.
ذلك ان اعادة الاعتبار الى الوطنية العراقية، بتطهير العملية السياسية من طائفيتها واضفاء الطابع السياسي الوطني عليها، تضرب في الصميم مصالح ارباب العمل الذين يستثمرون في الطائفية السياسية وينتفعون بعوائدها وارباحها وفوائدها من المال والنفوذ والسلطة.
وقد انتفض ارباب العمل هؤلاء مذعورين من «الشبح» الوطني الذي أطلّ عليهم برأسه في عزّ موسمهم، فتعرض «الحزب الاسلامي» الى حملة من شركائه في «جبهة التوافق» السنية ومن هيئات وقوى سنية وقومية عربية مناهضة للعملية السياسية في الأساس، ما حمل الحزب على تخفيف حماسه للمبادرة الكردستانية ثم التراجع عنها مقدما شروطا تعجيزية يتعلق معظمها بما هو مطلوب من الحكومة الحالية لا من الائتلاف السياسي الذي اقترحته المبادرة الكردستانية، ومنها على سبيل المثال «زيادة نسبة العرب السنة في القوات الامنية (الشرطة والجيش) عن طريق ادخال ما لا يقل عن عشرة آلاف عنصر من السنة الى وزارتي الدفاع والداخلية» و «إصدار الحكومة إعلانًا صريحًا بتفكيك الميليشيات ونزع اسلحتها».
وواجه «المجلس الاعلى» بدوره حملة مماثلة من شركائه في «الائتلاف العراقي الموحد» الشيعي ومن قوى وهيئات وشخصيات شيعية اخرى، وانقسم قادة «حزب الدعوة» الذين شملتهم اتصالات بارزاني بين مؤيد ومستنكر.
وانضم الى المعارضين اخيرا المرجع الشيعي علي السيستاني، فيما اعتبرت جماعة مقتدى الصدر ان التحالف المقترح يهدف الى عزل هذه الجماعة وربما القضاء عليها.
وبغض النظر عن التبريرات المختلفة والمتضاربة التي تعللت بها القوى والهيئات والشخصيات الرافضة، مباشرة او مداورة، للمبادرة الكردستانية فإن مصير المشروع المقترح اظهر ان الرافضين ينحازون بقوة واصرار الى هوياتهم الطائفية وينتصرون لها ضد الوطنية العراقية.
فقد اختار الحزب الاسلامي البقاء عضوا فعالا في «جبهة التوافق» السنية الطائفية برغم خلافاته القوية مع اطرافها الاخرى العلنية والسرية.
كما فضّل «المجلس الاعلى» و «حزب الدعوة» التزام بيت الطاعة الطائفي الشيعي، «الائتلاف العراقي الموحد»، برغم ما بين اطراف هذا الائتلاف من تباينات حادة في المواقف وصراعات مصالح دموية، خصوصا بين «المجلس الاعلى» وجماعة الصدر.
لكن الموقف غير الايجابي لأقطاب الطائفية السياسية حيال جهود بارزاني لا يتعين ان يدفع التحالف الكردستاني الى الانكفاء، فما من خيار آخر امام القوى والشخصيات الوطنية العراقية غير العمل الدؤوب على ايجاد مخرج للازمة الشاملة الطاحنة التي تعصف بالبلاد، وهذا لا يتحقق بتكريس الطائفية السياسية.
ولا شك في ان القيادة الكردستانية تعرف جيدا الآن ان قاعدة الطائفيين، الشيعة والسنة على السواء، بدأت تنحسر اذ يكتوي العراقيون جميعا، وفي المقام الاول الشيعة والسنة، على مدار الساعة بنيران الحرب الطائفية.
وثمة في المقابل قاعدة مهيأة للاتساع، هي قاعدة الحركة الوطنية الديموقراطية التي تعاني من ضعف التنظيم وتفتت القوى.
ويمكن للتحالف الكردستاني ان يحقق اختراقا كبيرا بتحوله الى رافعة ودعامة لهذه الحركة برمتها، واظن انه سيلقى تجاوبا واسع النطاق ليس فقط من الاحزاب والجماعات والشخصيات الوطنية التقليدية وانما ايضا من عناصر داخل الائتلافين الطائفيين ذاتهما.