(الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه.
والدولة ليست كذلك «واقع الفكرة الأخلاقية»، «صورة وواقع العقل» كما يدعي هيغل.
ولكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود «النظام».
إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر هي الدولة).
لايمكن قبول كلام انجلز هذا على علاته، أوالتسليم بهذه المقولة بدون تردد أو دونما تمحيص وتدقيق علمي منهجي وشفاف رغم علميته الواضحة.
لأنه يتكيء على نضال الطبقات وحدها كسبب رئيس لنشوء الدول، مهملاً وبشكل متعمد أو بدونه الكاريزمات الضرورية الأخرى، وكذلك التطور العفوي وحتميته التاريخية في قيام الدول وتطور الشعوب.
بينما يرى هوبز: أن حالة الانسان الفطرية تتصف بالفوضى والانانية والشر، فاتج الانسان نحو الانتقال من ذلك الى حياة افضل منظمة ومستقرة، فكان السبيل الى ذلك هو العقد،والعقد بدوره أوجد الجماعة المنظمة والحياة المستقرة.
ويرى آخرون أن الدولة نشأت مع البداوة حينما غزت المجتمعات الزراعية وأرادت التحكم بتلك المجتمعات وجمع الضرائب منها.
بينما نرى أن نشوء الدولة انبنت بالفعل على ضرورات اقتصادية وروحية وسياسية، وأن نواة الدولة الحديثة وجدت في المرحلة الاخيرة من عمر المجتمعات المشاعية البدائية وأؤكد هنا على نواة الدولة وليست الدولة ذاتها، هذه الدولة التي لم تتبلور في فضاءات المجتمعات الزراعية المستقرة إلا في أواخرالعصر الحجري الحديث مع حكامها التي اختارتها المجتمعات لأسباب سنبينها لاحقاً.
ففي أواخر هذا العصر كان المشاعيون البدائيون يخرجون جماعات لصيد الطرائد البرية حيث لم يكن هناك الملكية الخاصة قد تبلورت لديها بعد، وفي الآن الذي كان فيه الصيادون يعودون بصيدهم إلى مآويهم البسيطة، كانوا بحاجة إلى من يقتسم نتاجات الصيد بينهم، وأن يعطي للصياد الأنشط كبد وقلب الطريدة كمكافأة له على نشاطه وصيده الوفير في خدمة مشاعيته، ومع مرور الزمن قرر المشاعيون تولية أشجعهم عليهم، وتنازلوا له عن حصة معينة من أفضل منتوجات الصيد حتى يقضي على التخاصم أثناء قسمة صيدهم بينهم، وليحول دون التفريط بحقوق أحد منهم.
وهكذا وجد الزعيم القبلي في مرحلة مشاعيات الصيد والذي سيصبح في خطوة تالية الملك والزعيم السياسي والروحي لدولة سياسية – إقتصادية منظمة.
ومع الزمن بدأ التمايز يسري بين أفراد الجماعة المشاعية الواحدة ليظهر أولى بوادر الملكية الخاصة في مجتمعات الصيادين البدائية، في الوقت الذي قرر فيه نشطاء المشاعية الإحتفاظ بصيدهم الوفير لأنفسهم بعيداً عن الكسالى والمتطفلين من أفراد المشاعية نفسها.
وحينما استطاع هؤلاء توفير الطعام لمزيد من الأفراد أدى ذلك إلى إحداث نقلة نوعية اجتماعية أيضاً انتقل فيها البدائيون من مرحلة الزواج الجماعي إلى مرحلة أكثر تقدماً وهي مرحلة الزواج الأحادي(مينوجومي)، وهكذا نشأت نواة عادة الزواج الأحادي والإستئثار بإمرأة واحدة وأسرة محددة، أدى إلى ترسيخ الملكية الخاصة في وقت مبكر من تاريخ البشرية.
وفي خطوة تالية بدأت الشعوب تدخل مرحلة الزراعة والإستقرار، والتي بدأت معها معالم الدولة بالتكون أوالتقدم بخطوات سريعة نحو إنشاء الدول والممالك، حيث احتاجت العوائل والجماعات البشرية إلى غذاء وفير لعائلاتهم وأوجدوا السبل لتخزينها لأيام الشتاء القاسية، حيث لم تكن الوفرة متاحة آنذاك بالصيد البريي وحده بل بالزراعة وري الأراضي الزراعية على ضفاف الأنهار الكبرى، كوادي النيل وبلاد الرافدين وضفاف أنهار اوربا فيما بعد، وكانت الأراضي الزراعية تحتاج إلى السدود ورسم الحدود، وشق الترع وتفريع الأنهار وحماية الممتلكات وغير ذلك من مستلزمات الأراضي المروية، و ليس هذا فحسب بل تتطلب كل هذه الامور قائداً وزعيماً سياسياً على رأس هذه العوائل والجماعات يملك القوة والسلطة الزمنية، ليتاح له فرض الأتاوات والسخرة على الناس، وجلب العبيد والأرقاء للعمل في مثل هذه المنشآت الزراعية الضخمة، بالإضافة إلى حماية هذه المنشآت والمزارعين من غارات الأقوام المجاورة، مما تطلب وجود شكل من أشكال الدولة لتقوم بكل هذه الممارسات الضرورية لحياة شعوبها ومواطنيها قبل الإنقسام الواضح إلى طبقات متناحرة في المجتمع البشري الواحد.
هكذا وبهذه الطريقة نشأت دول المدن السومرية على ضفاف الرافدين، وكذلك مملكتي مصر الفرعونية الدلتا والوادي قبل أن يوحدهما الملك المصري (نارمر مينا) في دولة واحدة، وأنشئت في كلا المنطقتين أنظمة الري المائية والإستحواذ على الأراضي وتوفير الغلال للإستهلاك المحلي والخارجي مما أدى إلى تنشيط التجارة الخارجية إلى جانب الزراعة بسبب الفائض الزراعي والحيواني عن حاجة السكان.
كما أن العبريون لم يشكلوا دولتهم العبرية في فلسطين – وحسب التوراة – إلا بعد أن استولى الفلسطينيون على تابوت العهد القديم عام 1050 ق.
م.
حينها اختارالكاهن أو النبي صامؤيل الثاني (شاؤول) ملكاً على دولة عبرية، وكانوا قبلاً يتألفون من إثنتي عشرة سبطاً أو قبيلة، يحكم كلاً منها زعيم قبلي لم تصل سلطته إلى مرحلة الدولة بعد.
من هنا وبشأن نشوء الدولة يمكن التوصل إلى مايلي:
أولاً – ما أريد قوله هو: إن الدولة لم تنشأ فقط وكما يقول إنجلز، حينما تورط المجتمع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، وأنه قد انقسم إلى متضادات(طبقات) مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها.
أقول ليس هذا هو السبب الرئيسي لنشوء الدولة فقط، بل كان هناك ركائز أخرى لنشوء الدولة ربما أهملها إنجلز بشكل متعمد ليثبت نظريته عن الأصل الطبقي لنشوء الدولة مفرطاً بالركائز الأخرى لقيام الدولة، ومن هذه الركائز– كما ذكرنا آنفاً – الحاجة إلى الدفاع، والأمن والإستقرار، وإقامة المنشأت الزراعية الضخمة، أو المحافظة على ممتلكات أصحاب العبيد من الطبقة العليا.
وبهذا لا نستثني الحالة الكاريزمية التي أوردها إنجلز كسبب لنشوء الدولة ألا وهي قمع الطبقات الدنيا، ولكن كواحد فقط من الأسباب المتعددة التي أوردناها آنفاً لنشوء الدولة وليس السبب الرئيسي والوحيد لها.
ثانياً – مارأيناه من الحالة العبرية ونشوء دولتهم في عام 1050 قبل الميلاد يدحض مرة أخرى وبجلاء الحالة الوحيدة التي رسمها إنجلز لنشوء دولته الطبقية.
ونكرر هنا القول: بأن القبائل العبرانية وقبل أن تتوحد بقيادة (شاؤول) كانت عبارة عن قبائل شتى لأفرادها ملكيتهم الخاصة بالإضافة إلى ملكية القبيلة المشاعة، وكان بين هذه القبائل صراعات وغزوات وأحقاد وضغائن وحروب أيضاً، دون أن تفكر أوتسعى إلى تشكيل دولة واحدة، إلا عندما استشعرت القبائل الخطر السياسي والعسكري من الفلسطينيين بعد انتصاراتهم الكبيرة على العبرانيين في عدة وقائع حربية، واستلائهم أي الفلسطينيين على تابوت العهد القديم ونقله إلى عاصمتهم أشدود.
فوجد اليهود حينها في ذلك نذيراً بالفناء إن لم يتحدوا ويتكتلوا أمام منافسيهم الأقوياء، ومن ثم نشأت المملكة العبرانية(1) هكذا نرى أن السبب الرئيس لتشكل الدولة العبرية جاء بسبب الخطر الخارجي وحده دون غيره، ودون أن يكون هناك صراع طبقي يستعصي على الحل، أو قوة طبقية مسيطرة عليا لقمع الطبقات الدنيا كما يراها إنجلز.
………………………………………………………………………