الإيزيديّة والإبادة الذاتيّة

هوشنك أوسي

منذ أكثر من سنة ونصف، تراودني فكرة كتابة مقال، يتناول الشأن الكرديّ _ الإيزيدي.

بخاصّة بعد خروجي من سجن أدرنة التركي، في شهر تموز 2009.

ذلك أنه راعني ما شاهدته من موجةِ هجرةٍ كبيرةٍ وواسعة، كالجراد، من أكرادنا العراقيين، وبخاصّةٍ منهم أبناء الديانة الإيزيديّة.

حاولت، قد استطاعتي، تحويل أيّام السجن تلك، إلى حلقات نقاش، تتناول شؤون وشجون الكرد.

وكان بصحبتي بعض الأخوة الإيزيديين من الكرد السورين، وتحديداً من قرية “أسديّة” التابعة لمنطقة “سريه كانيه” (رأس العين).

هؤلاء الأخوة والأصدقاء، أعانوني على محنتي، ولن أنساهم ما حييت.
 وأذكر أن اسم اثنين منهم كان؛ صلاح وعماد.

 وكنت دوماً استفسر عن أسباب الهجرة الكرديّة العراقيّة غير المبررة مطلقا،ً من كردستان العراق، وبخاصّة أن غالبيّة المهاجرين هم من شريحة الشباب.

كما كنتُ أرفض مبدأ الهجرة، إن لم تكن لها خلفيّة سياسيّة حقيقيّة، حرجة للغاية، بعيدةً من الادعاء والفبركة.

وللأسف، كانت نسبة المهاجرين بين الكرد العراقيين والسوريين، على خلفيّة سياسيّة أو حتّى اقتصاديّة، شبه معدومة.

وأثناء النقاش مع أحد الشباب الإيزيدي، ردّ عليَّ بشكل سافر ورافض: “سنغادر، يعني سنغادر.

لا تحاول إقناعنا بالعدول عن ذلك”، واضعاً اصبعه على رأسه، مشيراً إلى أن قضيّة السفر هي مِزاج وفذلكة، وجرياً وراء متاع الدنيا.

حينئذ، قلت: “ولمن ستتركون لالش وسنجار”؟!.

فلم يجبني.

الديانة الإيزيديّة، هي إحدى المنابع الهامّة والتاريخيّة والثقافيّة للهويّة الكرديّة.

وربما هي أقدم ملمح ديني، سماوي، كردي وشرق أوسطي.

ووفق الروايّة الإيزيديّة، إن أبناء هذه الديانة، قد تعرّضوا إلى 72 مجزرة، عبر تاريخها، كانت غالبيّتها، بعد دخول الإسلام بلاد الكرد.

وبصرف النظر عن صحّة هذه الرواية، إلاّ أن ما هو مفروغ منه، برأيي، إن المجزرة الـ73، يقترفها أبناء هذه الديانة بحقّ أنفسهم الآن.

ما يلزمنا على قرع أجراس الخطر، وننذر أصحاب الشأن الإيزيدي، بحجم المخاطر والتهلكة المحدقة بهذه الديانة، ومن خلالها، بالهويّة القوميّة الكرديّة أيضاً.

ويمكن مناقشة الإبادة الذاتيّة الـ73 التي يقترفها الإيزيدون بحق أنفسهم على منحيين.


الأول: ظاهرة الهجرة، غير المبررة من الديار الإيزيديّة، وتبعاتها الخطيرة على تبدد الهويّة الإيزيديّة.

فمثلما كانت الهجرة المسيحيّة من كردستان سورية وكردستان العراق، ضربة قويّة للهويّة الحضاريّة للمنطقة، وإخلالاً بالموزاييك القومي والتنوّع الثقافي للمنطقة، كذلك أيضاً تنحو الهجرة الإيزيديّة هذا المنحى.
الثاني: انعدام حركة الإصلاح والتجديد الديني في هذه الديانة، في مسعى مواءمتها للعصر.

والأخطر، صمت النخب الإيزيديّة، المتديّنة منها والعلمانيّة، على هذه الحالة، وعدم تشكيلهم رأي عام إيزيدي ضاغط، باتجاه إجبار الإكريلوس الإيزيدي على فتح باب الاجتهاد والتجديد في هذه الديانة.
على صعيد الهجرة، لا تقوم المراجع الإيزيديّة، الدينيّة والثقافيّة بمناقشة هذه الظاهرة الخطيرة، وإصدار ما يشبه “الفتاوى” التي تحظر وتمنع الهجرة، وأقلّه، تقننها.

وبل يجب عليها إصدار أوامر إلى دوائر الهجرة في البلدان الأوروبيّة، بضرورة منع قبول طلبات اللجوء الإنساني، بداعي الاضطهاد الديني، التي يتقدّم بها الإيزيديون الفارّون من بلادهم.

مع السماح للسفر، بقصد المعالجة أو الدارسة أو السياحة.

ولا يمكن، في أي حال من الأحوال، التذرّع بالهجمات الإرهابيّة التي طالت الإيزيديين في مناطق كركوك وسجنار، على أنها مبرر الهجرة.

والحال هذه، وكأن الإيزيديين، كانوا ينتظرون هذه الحجّة (التهديد الإرهابي الإصولي)، حتّى يشرعنوا هجرتهم!.

ثم ما الذي يجبر إيزيديي دهوك ومحيطها، وإيزيديي هولير على الهجرة والفرار، حيث يتمتّعون بالأمان وحريّة ممارسة المعتقد!؟.

وعليه، الهجمات الإرهابيّة، لم تكن يوماً سبباً كافياً لأن تتواجد أمواج الإيزيديين في تركيا واليونان ومعسكرات اللاجئيين في الدول الأوروبيّة بهذه الكثافة!؟.

وإذا قبلنا جدلاً بمبررات الإيزيديين العراقيين، فماذا عن مبررات الكرد الإيزيديين السوريين وهجرتهم من أماكن سنكانهم منذ منتصف الثمانينات من القرن المنصرم؟!.

إذ لم يبقَ غير العجائز في القرى الكرديّة الإيزيديّة التابعة لـ”سريه كانيه، الحسكة، عامودا، تربه سبيه، وعفرين أيضاً”.

برأيي، المسألة أخطر مما يتصوّره رجال الدين الإيزيدي.

إذ أن الهجرة إلى خارج الوطن، بالضرورة، ستكون على حساب الالتزام بالطقوس والعادات والتقاليد الإيزيديّة، المتضاربة تماماً مع الفضاء الأوروبي.
المنحى الثاني الذي يهدد الديانة الإزيديّة، ويضيّق الخناق على مستقبلها، هو عدم وجود حركة إصلاح وتجديد في هذه الديانة.

فعلى قِدمها، وعمقها التاريخي، إلاّ أنها بقيت عصيّة عن أيّة حركة تنوير أو تجديد أو إصلاح ديني، تجعل من الإيزيديّة تلبّي الاحتياجات العصريّة للمؤمن الإيزيدي، وتيسّر اندماجه في المجتمعات الأوروبيّة، مع المحافظة على روح وجوهر الديانة الإيزيديّة.

ومعلوم أن كل الديانات السماويّة، طرأت عليها حركات، نازعة للتجديد والتطوير.

وتاريخ الأديان غنيٌّ عن ذكر الأمثلة بهذا الصدد.

ما عدى الديانة الإيزيديّة، بفيت بمنأى عن ذلك.

ما جعلها ديانة، شديدةَ الماضويّة، ومنغلقة على ذاتها.

لا تقبل منتمين جدد، من أبناء الديانات الأخرى.

وتعاقب غير الملتزمين بأيّة شعيرة من شعائرها، بأنه مارق، وصار مسلماً.

وعلى سبيل الذكر لا الحصر: من يحلق شاربيه، صار خارج الدين والملّة.

وفي أفضل الأحوال، إيزيديّته منتقصة.
مسألة “الحدّ والسدّ” التي أدخلها الشيخ آدي للديانة، هي أيضاً ينبغي أن تكون محلّ مراجعة وانتقاد من قبل النخب الثقافيّة الإيزيديّة المتنوّرة.

فإذا وقع شاب من طبقة المريدين في هوى شابّة من طبقة الشيوخ، أو العكس، حرامٌ أن يتكلل هذا الحبّ بالزواج، عملاً بالمبدأ السالف.

ومن يخالف هذا المبدأ، خرج عن الدين، وصار مسلماً.

بمعنى، يجب أن يسعى المثقفون الإيزيديون، إلى الدفع باتجاه أنسنة العقيدة الإيزيديّة، وانتقاد مبدأ الفصل الطبقي في المجتمع الايزيدي، بخاصّة فيما يتعلقّ بالأمور الإنسانيّة، كالحبّ والزواج.

هذا المبدأ، يخلق حالة من الكبت والحرمان والخوف لدى أبناء هذه الطائفة.

دون أن ننسى بأن إغلاق باب زواج الشباب الإيزيدي من فتيات غير إيزيديّات، هو أيضاً يضيّق الخناق على مستقبل الديانة.

ويجب التعاطي مع هذه الديانة، كعقيدة إيمانيّة، وليس كامتياز اجتماعي _ ديني محض، محصور في مجموعة بشريّة معينّة، دون غيرها.

عملاً بمبدأ “نقاء الدم وصفاء العرق”، إذ أن في هذا المنحى، الكثير من العنصريّة.

دون أن ننسى بأن رجال وشيوخ هذه الديانة، ينبغي أن يدفع أبناء الطائفة باتجاه التسامح والتآخي مع أبناء الديانة الإسلاميّة، والكفّ عن احتقار أبناء هذه الديانة، والسخرية منهم.

ولا يمكن تبرير احتقار الإسلام والمسلمين، الذي يتم توريثه للطفل الإيزيدي حتّى يكبر، بأنه ردّة فعل على ما قام به المسلمون من مذابح بحقّ الإيزيديين.

دون أن ننسى بأن التيارات السياسيّة الكرديّة، وتحديداً في كردستان العراق، تعاطت بشكل طائفي، مع إيزيديي كردستان العراق، ولم تتعاطى معهم على قدم المساواة التامّة مع الكردي المسلم، بالرغم ان هذه الاحزاب تزعم العلمانيّة.

وهذا المثلب الخطير، بدأت قيادة كردستان العراق، تحاول تلافيه.

 
بالنتيجة، من الضروري، والضروري جدّاً السعي نحو دمقرطة الديانة الإزيديّة.

وذلك بإجراء حركة مراجعة وتجديد، تنقذها من الانطوائيّة والانعزاليّة والتقوقع الحاصل فيها.

ومن المؤسف جدّاً، أن مثقفونا الإيزيديون، البعض منهم، يتبرّم من حال الديانة الإيزيديّة وأحوال الإيزيديين، إلاّ أنهم لا يحرّكون ساكناً في اتجاه تغيير هذه الحال، عبر مواجهة التخلّف والشوائب الدخيلة على هذه الديانة العريقة.

ومن المؤسف القول: إن المثقف الإيزيدي، يعيش حالة من الجبن، وأقلّه، اللامبالاة، إزاء هذه المخاطر التي تتهدد هذه الديانة.

إذ لن تقوم قائمة لحركة تنوير وتجديد في هذه الديانة، إذا لم يظهر في طبقتها الدينيّة مجددون ومتنوّرون، مدعومين بحراك ثقافي كردي إيزيدي، تبدد حالة الخوف، وتنعش الانفتاح في هذه العقيدة الدينيّة الكرديّة والشرق أوسطيّة القديمة والعريقة.
وعطفاً على ما سلف، ثمّة نقطة أخرى، لا مناص من طرحها للمناقشة، وهي ظهور بوادر سلبيّة أخرى، تسهم في تبديد الكتلة الإيزيديّة، عبر استهداف هويّتها القوميّة الكرديّة.

فقسم من إيزيديي العراق، ينكرون كرديّتهم، ويدّعون العروبة.

وقسم من إيزيديي الاتحاد السوفياتي السابق، يعتبرون الإيزيديّة قوميّة وديانة في آن.

ويرفضون كونهم أكراد، رغم لسانهم الكرديّ!.

هذه معضلات حقيقيّة ومصيريّة، ينبغي معالجتها، عبر مؤتمر إيزيدي عالمي، يحدد هويّة أبناء هذه الديانة، وانتماءها القومي.

ويعالج الكثير من القضايا والإشكالات التي تعتري المشهد الإيزيدي.

وريثما تلقى هذه الأفكار والاقتراحات طريقها للنور، تبقى الحال الإيزيديّة تنزلق من سيّئ إلى أسوأ.
17/12/2010

بروكسل

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…