وباختصار فإن إسرائيل غير جاهزة لعملية السلام حالياً، وأن الإدارة الأمريكية غير قادرة في الوقت الراهن على دفعها نحو تسوية شاملة..
ولذلك فإن المسار السوري يعود من جديد إلى واجهة الإهتمامات، انطلاقاً من تأثيره على مختلف ملفّات المنطقة، من لبنان إلى العراق، مروراً بفلسطين وإيران، وهو ما تشير له زيارة الرئيس الروسي مدفيديف إلى سوريا كوسيط بديل، وكذلك قمة استانبول التي شدّدت على دعم عملية السلام في المنطقة، في إشارة لدعم مهمة الموفد الأمريكي جورج ميتشل، والتراجع السوري عن الموقف الرافض للمفاوضات غير المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل، والذي برز في اجتماع اللجنة الوزارية لدعم المبادرة العربية ..
وبالعودة إلى زيارة الرئيس الروسي فإنها عبّرت، من جهة ثانية، عن معاني جديدة تجاوزت الطابع الاقتصادي إلى محاولة استعادة دور موسكو ومكانتها الدولية، اعتماداً على القدرة في محاورة جميع الأطراف في المنطقة، وذلك بعد أن تراجعت العلاقات التركية مع إسرائيل، خاصة في ضوء تبعات عملية الاعتداء الاسرائيلي على قافلة الحرية في عرض البحر المتوسط مؤخراً، في حين حافظت فيه الدبلوماسية الروسية على علاقات جيدة مع إسرائيل، ولم تنقطع علاقاتها كذلك مع حماس..كما أن تلك الزيارة لم تأت بمعزل عن تحسّن العلاقات الروسية الأمريكية بشأن الملف النووي الإيراني، الذي دخل مرحلة جديدة بانضمام جهات إقليمية ودولية جديدة للجهود الرامية لإيجاد حل توافقي لهذه الأزمة، والتي أراد منها نظام طهران كسب الوقت بعد أن شعر بخطورة التقدم الذي تحققه السياسة الأمريكية في مجال إقرار العقوبات في مجلس الأمن، واحتمال كسب التأييد الروسي والصيني بسبب تذمّر الدولتين من مراوغة الجانب الإيراني، الذي قام بحملة دبلوماسية واسعة لدى الدول غير الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والتوصّل مع كل من تركيا والبرازيل إلى اتفاق لتبادل اليورانيوم خارج إيران.
ورغم أن هذا الاتفاق علّق مؤقتاً موضوع العقوبات، على اعتبار أنه يتطلب جولة جديدة من المفاوضات اللازمة للتوضيح والشرح مع كل من وكالة الطاقة النووية ومجموعة (5+1) ، فإنه فشل في محاولة فرط التحالف الدولي المعارض للبرنامج النووي الإيراني، بل بالعكس، فإن طهران بهذا الاتفاق أثارت الجانبين الروسي والصيني، وأخطأت حساباتها مرة أخرى، بعد أن شهدت الأيام الأخيرة توافقاً بين أطراف تلك المجموعة على طرح مشروع قرار لفرض عقوبات جديدة تستهدف المؤسّسات التي على صلة بذلك البرنامج، بما في ذلك عمليات تفتيش السفن التي تنقل معداته.
مما يعني أن المرحلة القادمة قد تكون محفوفة بالمخاطر بسبب احتمالات تحريك النظام الإيراني لأوراقه الإقليمية ومواصلة سياسة اللعب على حافة الهاوية وزيادة تدخّله في شؤون دول المنطقة، وخاصة في العراق الذي تتعمق أزمته مع إطالة أمد تشكيل الحكومة، بعد إجراء الانتخابات التشريعية، وبقاء العراقيل في طريقها، وانتعاش العمليات الإرهابية مع اقتراب موعد انسحاب القوات الأمريكية، وما يمكن أن يحدثه من فراغ تستعد الجهات الإقليمية، بالتعاون مع حلفاء الداخل، لملئه.
وتأتي إيران في المقدمة من خلال نفوذها المتشعب وتحالفاتها الطائفية .
لذلك فإن مشكلة العراق لم تعد تنحصر في رحيل القوات الأجنبية، بعد أن تأكّد بأن قرار الانسحاب الأمريكي جدي، بل أنها تتلخص في احتدام الصراع على مستويين : داخلي، بين المكوّنات الرئيسية التي لا تزال تفتقد للثقة المتبادلة، وإقليمي بين الدول المجاورة..
وفي الحالتين يمكن إدراج أزمة تشكيل الحكومة، حيث يزداد النفوذ الإيراني بالتزامن مع تراجع التدخل الأمريكي، انطلاقاً من قناعة مفادها بأن معركة مستقبل المنطقة تدور في العراق، الذي ستكون لتجربته الديمقراطية انعكاسات على الجوار الإقليمي.
ولذلك فإن الجهود الإيرانية تنصب الآن على توحيد صفوف الكتل الحليفة، حرصاً منها على الإمساك بمقدرات ومفاصل الحكومة القادمة، التي سوف يكون من شأنها رسم مستقبل العراق وتحالفاته وموقعه على الخارطة السياسية في المرحلة التالية للانسحاب الأمريكي، وهو ما يثير حفيظة الدول المجاورة، ومنها تركيا التي تحرص على حصتها في عراق الغد، وذلك بأشكال متعددة، منها استمالة بعض الكتل النيابية، خاصة في الموصل وكركوك، إضافة إلى إتباع سياسة منفتحة نسبياً مع الموضوع الكردي عموماً، بما في ذلك الإقرار بوجود كيان فيدرالي رسمي باسم إقليم كردستان العراق، والاعتراف بالكرد كمكوّن أساسي في المنطقة، وبأن لهم مشكلة تحتاج لحل، مثلما جاء في تصريحات السيد وزير الخارجية التركي، مما يؤشّر لمرحلة جديدة تحكمها المصالح الاقتصادية المشتركة، خاصة بعد أن وصلت الاستثمارات التركية في الإقليم إلى حوالي عشرة مليارات دولار، وليفتح الطريق أمام إنعاش مبادرة آردوغان للانفتاح الديمقراطي، ويلقي الضوء على أهمية الزيارة التي يقوم بها رئيس الإقليم السيد مسعود البارزاني إلى أنقرة.
وفي الداخل الوطني، فإن وضعه المؤسساتي ومساراته الاقتصادية والأمنية، لا تنسجم مع ما يفترض من التحضيرات اللازمة لبناء دولة حديثة، ومواجهة التحديات والأخطار، وتلبية استحقاقات السلام القائم على العدل، واستعادة الأراضي السورية المحتلة.
فالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية تتفاقم باستمرار، وتتصاعد الهجرة، ويزداد الفقر، وترتفع مستويات البطالة ومعدلات الجريمة، وينخفض مستوى التعليم، ويتراجع الإنتاج الزراعي، لتتحول البلاد إلى مستوردة للكثير من المواد الغذائية، بسبب سوء التخطيط وموجات الجفاف المتعاقبة، ورفع أسعار المازوت، وتحرير أسعار السماد، والاستنزاف العشوائي للمياه الجوفية، وتضاؤل فرص العمل، وتفاقم المشاكل المعيشية، وانخفاض القدرة الشرائية، واتساع الهوة بين الأجور والأسعار، وضعف النمو الاقتصادي في القطاعين الخاص والعام، وإفلاس المشاريع الصغيرة، وظهور العديد من المشاكل الاجتماعية المرافقة ، ومنها الانحرافات التي تهدّد مستقبل الشباب في ظل انسداد آفاق العمل المنتج..
وتشير تقارير المنظمات الدولية إلى تسارع وتيرة التضخّم، وإلى أن الأزمة الاقتصادية وصلت إلى حدود يصعب معها إيجاد حلول مناسبة، بسبب انتشار الفساد في مختلف مفاصل الدولة، وغياب عمليات الإصلاح وإجراءات المكافحة والمحاسبة، وتعرض سلك القضاء للتدخلات.
أما في المناطق الكردية، فإن تلك الأزمة لا تجد من يهتم بمعالجة إفرازاتها الممزوجة بالسياسة الشوفينية، فالشأن الكردي بات يبدو وكأنه خارج اهتمامات الجهات المسؤولة، إلا في حال ارتباطه بالقمع وكم الأفواه والاعتقالات الكيفية التي تبحث عن أي سبب لإرهاب الناس.
ويتم استغلال أية ثغرة شكلية لنزع أراضي الفلاحين الكرد، في حين تكاد أبواب التوظيف أن تكون مغلقة أمام طالبي العمل من الكرد، ويظل نشطاء حقوق الإنسان والحركة الكردية عرضة للاعتقالات الكيفية، حيث تم اعتقال الأستاذ محمد سعدون عضو المكتب السياسي لحزب آزادي الكردي مؤخراً، في إطار التشدّد الأمني العام الذي يطال كل أشكال الحراك السياسي والثقافي في عموم البلاد..مما يعني أن الأوضاع تتجه نحو مزيد من الضغوط والتشدّد، إضافة لتوسيع دائرة منع السفر التي لم تعد تقتصر على الكوادر القيادية المعارضة، وإنما امتدت الى مستويات أخرى، كما تطال أعداد كبيرة من الناشطين في مجال حقوق الإنسان،” ولم تعد هذه الإجراءات ترتبط بظروف الحصار أو العزلة المفروضة التي كانت تقدم كمبرّر من خلال مقولة (أولوية الأمن)، التي تذرعت بها السلطة طويلاً للتهرّب من استحقاق إعادة ترتيب البيت الوطني، والالتزام بوعود الإصلاح، بل يمكن القول بأن الانفتاح الدولي والإقليمي على النظــام جعله يزداد تشدّداً، حيث يسعى للتضييق على قـوى المعارضة في محاولة لإنهائها، وهو ما يثير المزيد من القلق.
في 3|6|2010
اللجنة السياسية