فيما خصّ القضايا الحسّاسة ومسؤوليّاتها.

هوشنك أوسي

مِن المفترض أن أصحاب قضيّة ما، وأيّاً كان منسوب الاختلاف والتباين الفكري والسياسيّ بينهم، لا ينبغي أن يعيب المقيمون في الوطن، على المقيمين خارجه، وجودهم هناك، وربط ذلك الوجود بمجرّد “الحصول على لقمة العيش”، وإصدار، ما يشبه الفتاوى، أو لنقل: الاشراطات، في كيفيّة وآليّة ومنهج تناولهم لقضايا شعبهم الحساسّة داخل الوطن!.

منطق الإملاء هذا، يشي، من جملة ما يشي به، بالغطرسة السياسيّة والثقافيّة، على اعتبار أن الأولويّة في الكلام عن القضايا الحسّاسة، هو من شأنهم، ومنبوط بالمقيمين في الوطن وحسب، لأن الإقامة في الوطن، تعني، وبالضرورة، نسبة أعلى وأعمق من الوطنيّة، ورؤية أشمل وأوسع وأعمق من الوعي والوطني المسؤول!.

ودوماً، حسب رأيهم.

وما على المقيمين في الخارج، إلاّ الصمت والانصات لما تجود به قرائح فطاحلة الفكر والثقافة والمعرفة ودهاة السياسة وعتاتها، ها هناك، في الوطن الحبيب!.

وإن أرادوا المقيمون خارج الوطن الكلام، فبإذنٍ يأتيهم مَن داخل في الوطن، وتحت تأثير البوصلة الثقافيّة والسياسيّة والمعرفيّة…، الخلاقّة والجدّ حسّاسة، للمقيمين داخل الوطن، التي لا تشوبها شائبة، بقرينة المكان!.

هذا منطق، على ما فيه من وصاية، وبل إقصاء، فيه من اللامسؤوليّة حيال التعاطي مع القرين والشريك القومي، خارج الوطن!.

والحال هذه، ينبغي أن تكون أرسان عقول كل المقيمين خارج الوطن، بيد من هم داخله.

وإيّ خروج عن السياق، هو تغريد خارج السرب، وفاقد للمصادقيّة القوميّة والوطنيّة، وحتّى الثقافيّة والفكريّة والمعرفيّة!.

هكذا، أنزلقت الحال، لدى بعض مثقفينا الكرد السوريين، حين أرادوا الحفاظ على صديق للكرد من الأخوة العرب، بأن بالتهويل من تبعات إبداء الوطنيين، خارج الوطن، رأيهم حيال القضايا الحسّاسة الوطن!.

وأن هذا الرأي، يخلق ردّات فعل، سلبيّة، من شأنها تحويل الأصدقاء إلى أعداء.

وأن ما يبنيه المقيمون في الوطن، يهدُّهُ المقيمون خارجه، بأفكاره “الرعناء، اللامسؤولة”، والتي تستجلب العداء للقضيّة، والتلف للنسيج الوطني، والوحدة واللحمة والوحدة الوطنيّة!.

وبالتالي، فالرعب والذعر من الأفكار، وأحياناً، لم تعد مهنة النظام السوري وحسب، وبل صاير يشاركه في هذه المهنة، ولو بشكل غير مباشر، البعض من معارضي هذا النظام أيضاً.

شخصيّاً، بالنسبة ليّ، مقالة الأستاذ عكلة، كانت مناسبة لمناقشة أفكار ورؤى متعددة، حيال الوطن والموطنة والشراكة وأصول وفروع عقد التحالفات وكسب الأصداقاء… إلى آخر ما أثرته في مقالاتي السابقة من أفكار، استساغها البعض، ولفظها آخرون.

وهذا من طبائع الأمور.

وكنت واضحاً، ولم اتّهم أحداً بالمعاداة، بخاصّة السيّد عكلة.

وإذا كان أحدهم، قد فسّر على هواه، ما أتى عليه كاتب هذه السطور، وبصراحة: “لا أعرف كيف أكون وضحاً مع من لا يجيد الانتباه”، حسب تعبير رسو!.

بحسب إحصائيّات خرج بها مؤتمر للمغتربين، انعقد في دمشق، ربما سنة 2008، كان عدد المغتربين السوريين المقيمين خارج الوطن، نحو 16 مليون سوري.

يعني ما يوازي عدد الموجودين في الوطن!.

وإذا أراد أحدهم الخوض في القضايا الحسّاسة للوطن، عليه العودة إلى لائحة الاشتراطات التي قدّمها أحد المقيمين في الوطن.

إذ لا يقتصر الأمر على المغترب الكرديّ، بل السوريّ عموماً.

وإلاّ، فمن لا يلتزم بذلك، فكلامه، محض تفلسف، ولا طائل منه، سوى التشويش، ومبتغاه تحويل الأصدقاء إلى أعداء.

هكذا منطق، أقلّ ما يقال فيه، إن تطرّف، أكثر من كونه لامسؤول!.

وليس هاجسه الحرص على زيادة الأصدقاء، حسب الزعم المرفق به.

بل هروب إلى الأمام، يصرّ على مزاولته البعض، منذ نصف قرن.

وصحيح أن البؤس والاستبداد والفساد الذي ينعم في أفيائه شعوب الوطن السوري، وإن البقاء في الوطن، له ضرائبه وأكلافه.

لكن من المؤسف أيضاً، أن يصل الحال ببعض المقيمين في الوطن، إحالة الضرائب والأثمان الصعبة والظالمة التي يدفعونها جرّاء بقائهم في الوطن، إلى حريّة الرأي والتعبير، التي يتمتّع بها المتواجدون خارج الوطن، أثناء تناولهم لقضاياهم القوميّة والوطنيّة الحسّاسة!.

لكن، يبقى المقياس: “في اختلاف أمّتي رحمة”، و”ما ينفع الناس، يمكث في الأرض”، حسب قول الرسول الكريم.

و”أن الناس، عدوّة ما تجهل” حسب قول الإمام عليّ.

وإذا كان ثمّة شيء أفسد للودّ قضيّة بيننا والأخّ عمّار عكلة، فهو الدفاع، غير المتوازن عنه، (وهو بغنى عن هكذا دفاع)، الذي تطوّع له البعض من مثقفينا الكرد الأفاضل.

وبالعودة إلى القضايا الحسّاسّة، فالخوض والنقاش فيها، ليس حكراً على فئة دون غيرها من المثقفين، أو المهتمّين بالشأن العام.

ولكلّ منّا، كل الحقّ، في إبداء رأيه، والإدلاء بدلوه في هذا الأمر، تحت سقف الاحترام المتبادل، وعدم الانزلاق للتجريح والتسفيه.

ولا أنفي، أنّه ربما انزلق البعض إلى ذلك، مع شديد الأسف.

وهذا مثار انتقادي الشديد.

إلاّ أن البعض ممن تنطّع للدفاع عن عكلة، سعى إلى وضع كل البيض في سلّة واحدة.

وهذه سقطة سياسيّة وثقافيّة، ومثلب معرفي، إنّ دلَّ على شيء، إنما يدلّ على قصورٍ وخلل في الفهم والرؤية.

ولأنها قضايا مصيريّة وحسّاسة، ينبغي إشراك كل الطيف الثقافي والسياسي في مناقشتها، وبل ينبغي إشراك العوام أيضاً.

وكذا الحال، أثناء الاستفتاء على دستور أو إصلاح أو تعديل دستوري، وانتخاب رئيس دولة…، أو ما شابه من القضايا الحسّاسة، والمصيريّة التي تعني كل المواطنين، داخل وخارج الوطن!.

الموقف من النظام السوري، وتصريحات رأس النظام، حقّ طبيعي لكلّ من يمتلك القدرة على التعبير عن الرأي، ضمن سياق لغوي، ثقافي، تحليلي معقول.

ونسبة الخطأ والصواب، والإنصاف والتجنّي، متروكة برسم القارئ.

وليس من حقّ أحد، أن ينصّب نفسه، رقيباً _ عتيداً، على آراء الآخرين، ووصفها على أنها تفلسف، ومحض خيالات، أو وليدة مشاعر وعواطف رومانسيّة، لكون صاحب الرأي، مقيم خارج الوطن.

لكأنّ كل من هم في داخل الوطن، عقلانييون ونوابغ، لا يشقّ لهم غبار، ولا شيء بإمكانه أن يطال علوَّ كعبهم في السياسة والفكر والثقافة وإنتاج المعرفة!.

وكأنّهم، قد خلقوا بمراسهم ذاك، جيش من المناصرين للقضيّة والحقوق الكرديّة من الاخوة العرب والسريان والآثوريين؟!.

وأن القضيّة الكرديّة قاب قوسين أو أدنى، من الحلّ، بفعل جهودهم الجبّارة، ولكن المقيمين خارج الوطن، يفسد هذا الحلّ، بآرائهم المتطرّفة، اللامسؤولة!!.

وما على المقيمين خارج الوطن، إلاّ المصادقة على ذلك.

يبقى القول: واهمٌ جدّاً، من يظنّ أن الوطن، وقضاياه، هو مسؤوليّة المقيمين فيه وحدهم.

وواهمٌ من يظنّ أن المقيمين خارج الوطن، هم أقلّ حساسيّة ومسؤوليّة وثقافة ومعرفة من المقيمين داخله.

طبعاً، مع التأكيد على بعض الاستثناءات في الداخل والخارج.

ومتى كانت حريّة التعبير عن الرأي والمسؤوليّة والحرص والحسّاسيّة الوطنيّة، مرهونة بوصوفات، يطرحها هذا أو ذاك؟!.

ولأننا كلّنا شركاء، من حقّنا كلّنا، إبداء الرأي حيال قضيانا القوميّة والوطنيّة المشتركة.

وإلاّ، ما معنى الحديث عن الشراكات القوميّة والوطنيّة إذن؟.

كاتب كردي سوري

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…

صالح جانكو حينما يتوهم القائمون على سلطة الأمر الواقع المؤقتة بأنهم قد شكلوا دولة من خلال هذه الهيكلية الكرتونية، بل الكاريكاتورية المضحكة المبكية المتمثلة في تلك الحكومة التي تم تفصيلها وفقاً لرغبة وتوجهات ( رئيس الدولة المؤقت للمرحلة الانتقالية)وعلى مقاسه والذي احتكر كل المناصب والسلطات و الوزارات السيادية لنفسه ولجماعته من هيئة تحرير الشام ، أما باقي الوزارات تم تسليمها…

خالد جميل محمد جسّدت مؤسسة البارزاني الخيرية تلك القاعدة التي تنصّ على أن العمل هو ما يَمنحُ الأقوالَ قيمتَها لا العكس؛ فقد أثبتت للكُرد وغير الكُرد أنها خيرُ حضن للمحتاجين إلى المساعدات والمعونات والرعاية المادية والمعنوية، ومن ذلك أنها كانت في مقدمة الجهات التي استقبلَت كُرْدَ رۆژاڤایێ کُردستان (كُردستان سوريا)، فعلاً وقولاً، وقدّمت لهم الكثير مما كانوا يحتاجونه في أحلك…

ريزان شيخموس بعد سقوط نظام بشار الأسد، تدخل سوريا فصلًا جديدًا من تاريخها المعاصر، عنوانه الانتقال نحو دولة عادلة تتّسع لكلّ مكوّناتها، وتؤسّس لعقد اجتماعي جديد يعكس تطلعات السوريين وآلامهم وتضحياتهم. ومع تشكيل إدارة انتقالية، يُفتح الباب أمام كتابة دستور يُعبّر عن التعدد القومي والديني والثقافي في سوريا، ويضمن مشاركة الجميع في صياغة مستقبل البلاد، لا كضيوف على مائدة الوطن،…