بعد عقود من الإنكار القاطع لوجودهم، تعيش الدولة التركية، بمجمل مكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الثقافية، حالاً من تداول مفتوح للرأي بشأن «الحل الأنسب للقضية الكردية في البلاد»، حسب التعبير الحرفي لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وذلك عقب لقائه الأول برئيس «حزب المجتمع الديمقراطي» أحمد تورك، المؤيد للأكراد.
كانت الحكومة التركية قد أعلنت، منذ زهاء ستة أشهر، عن مشروع متكامل تعده لإنهاء تلك المسألة.
وقد تسربت بعض ملامح ذلك التوجه إلى الرأي العام، عبر قنوات حزب العدالة والحكومة نفسها، لجس نبض ردود فعل الشارع التركي، والكردي منه بالذات، حيال تلك الخطة المعدة.
وكانت الخطوط العامة للمشروع تمر بثلاث مراحل متتالية:
ثانيا: مجموعة من التغيرات الدستورية والقانونية والأمنية، كإزالة المواد الدستورية التي تمجد القيم العرقية للعنصر التركي في الدولة، وتطعيم الدستور بروح يقبل التعدد الثقافي في الدولة التركية، طبعا دون الاعتراف الدستوري الواضح بوجود القومية الكردية في البلاد.
ومن تلك التدابير أيضا، تمتين البنية القانونية للنشر والتعلم التعلم وليس التعليم باللغة الكردية، وتخفيف التشنج والقبضة الأمنية في المناطق الجنوبية الشرقية الكردية من البلاد، وزيادة فاعلية دور المجالس المحلية البلدية في شأن القضايا اليومية للمواطنين، ما يفك من قبضة الدولة المركزية.
ثالثا: اهتمام اقتصادي من قبل الدولة بتلك المناطق، عبر رصد ميزانيات كبيرة ومباشرة للمشاريع التنموية، ومن أهمها مشروع الغاب التنموي ومشاريع البنية التحتية لمنطقة الأناضول.
حيث من المتوقع أن يكلف المشروعان قرابة العشرين مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة.
حزب الجمعية الوطنية التركية القومي، ثاني أكبر أحزاب المعارضة له 77 نائبا من أصل 550 في البرلمان التركي يرفض ذلك المشروع الذي تقدمه الحكومة التركية، وبالذات يرفض البندين الأولين، فهو بحسبه سيؤدي إلى تفكك جسم «الأمة» وهو يطرح عوضا عنه، ما يسميه بالخطة السريلانكية وطريقة تعاملها مع نمور التاميل.
حيث القضاء العسكري المباشر على حزب العمال الكردستاني، ومن ثم تنمية اقتصادية واجتماعية للمنطقة الجنوبية الشرقية من البلاد، هي الحل الذي يجب.
أما نظيره المعارض، «حزب الشعب الجمهوري»، فإنه لا يرى غضاضة في إصدار عفو عام عن المقاتلين الأكراد، ولا يرى مشكلة في البند التنموي الثالث، لكنه يرى في التغيرات الدستورية المفترضة رضوخا لمنطق العنف الذي مارسته الحركة الكردية، وفوق ذلك فغن الحزب المذكور يعيب على الخطة التي تنوي الحكومة إعلانها، يعيب عليها فوقيتها وقصديتها.
فحل مسألة كبرى، كالمسألة الكردية في البلاد، لابد أن يمر عبر نقاش عام يخص كل أطياف الحركات السياسية في البلاد، سلطة ومعارضة، ولابد أن تنطلق أولا من مصلحة البلاد العامة في الدرجة الأولى، لا من زاوية المصلحة الحزبية لحزب العدالة والتنمية، وذلك بغرض كسب المزيد من الشعبية في المناطق الكردية، حسبما يفسر حزب الشعب مرامي الخطة الحكومية.
على المقلب الآخر، ثمة رأي الطرف الكردي في مسألة الحل.
ذلك الطرف الذي يتطيف على ثلاثة مستويات.
فهناك الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني (اسمه الراهن هو مؤتمر الشعب الديمقراطي) المتمركز في جبال قنديل، شمال العراق، وهناك أيضا حزب المجتمع الديمقراطي المعارض- أغلق بعيد أيام من كتابة هذه المقالة – والذي يعتبر الواجهة السياسية للأكراد في تركيا (له 22 نائباً في البرلمان التركي) ومعهما أيضا ثمة آراء الزعيم عبد الله اوجلان المسجون منذ قرابة العشرة سنوات في سجن أميرالي.
يتقارب ويختلف نوعا ما، ما يطرحه الطيف الكردي من حلول للمسألة الكردية في البلاد، وذلك تبعا للموقع الرسمي الذي يشغله كل طرف، لكن الأطراف الثلاثة تتفق على معطيين أساسيين في هذا الشأن:
أولا: أن الشكل العمومي لما تطرحه الأطراف التركية، يبنى على مقاربة اقتصادية وثقافية بالأساس، لا على مقاربة سياسية، تعترف بالأكراد كقومية، وبمشكلتهم كمشكلة قومية، وهي الإشكالية التي عبر عنها جمال بايق، أحد القادة العسكريين في تنظيم حزب العمال، في مقالة نشرها بعد صدور ملامح الخطة الحكومية، حيث قال: «لو كانت قضيتنا، قضية التحسين في شبكة مجاري الصرف الصحي، أو التسريع ببناء أحد السدود، لانضممنا جميعا إلى أحد الأحزاب الحاكمة، وحققنا مطالبنا عبر المجالس البلدية، ولما احتجنا لإسالة بحر من دماء خيرة أبنائنا»، فأي حل حسب ما هو مطروح كرديا، يجب أن يمر عبر الاعتراف بوجود قومية أخرى في البلاد، هي القومية الكردية.
ثانيا: ترى الحلول الكردية أن المشكلة الأساسية هي في الخلاف على طريقة إدارة الدولة.
فبالرغم عن تخلي الأكراد عن مطلب الانفصال عن الدولة، ومطالبتهم بتحقيق «الجمهورية الديمقراطية»، لكن ذلك لا يعني تخليهم عن كل أشكال الحكم الذاتي والفيدرالية.
وهو ما كان قد عبر عنه القيادي العسكري في حزب العمال الكردستاني مراد قره يلان حينما سأله الصحافي التركي المشهور حسن جمال عن رأيه بالحل الأنسب للقضية الكردية في البلاد، فأجاب «كل شيء قابل للنقاش، يسير كل منا شؤونه» وحينما أعقب الصحافي قائلا:« أنت تتحدث عن الحكم الذاتي، لكن أي شكل منه؟ « أجاب قره يلان: « نحن سبعون مليون مواطن في هذه الدولة، ولن تقف عقولنا عن أبداع شكل نظام سياسي يكفل حقوق كل منا بالتساوي».
وفي نفس المنوال كان أحد البيانات التي صدرت عن أوجلان نفسه قد احتوت على عبارة تقول: « أنا والحزب، لم نعد أوجلان والعمال الكردستاني الذي كناه قبل عقدين، والنظام والحكومة التركية أيضا ليسا ما كاناه وقتها، لكن أيا منا لم يصبح عكس ما كان وقتها «.
النماذج المطروحة كلها، لا تبدو متباعدة كليا، فهي جميعا، وللمرة الأولى، تعترف من طرف بوجود مشكلة كبرى، ومن جهة أخرى تعترف بطوباوية الكثير من الحلول الاستقطابية التي كانت مطروحة.
لكن ذلك لا يعني تآلفها واندماجها.
فما يلاحظ عليها كلها هو ميلها لوضع منظومة تكاملية وناجزة للمشكلة.
فحسب الخطة الحكومية، أي مطلب بعيد لتحقيق خطواتها، سيكون مطلبا من المستحيل تحقيقه.
وحسب المطروح الكردي، لا يمكن إلقاء السلاح دونما تحقيق سلة المطالب كلها.
وهما استقطابان يخالفان ما كان قد طرحه الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال منذ قرابة العقدين، كحل للمشكلة الكردية في البلاد.
فقد كانت خطته وقتها ترى المعضلة الأساسية في البلاد، في شكل الإدارة التنظيمية السياسية المركزية العامة، حيث إن دولة نصف صناعية، وبحجم سكاني كبير، وبتنوع أثني وديني ومذهبي مشكل كالدولة التركية، لابد أن تولد بها المركزية السياسية الإدارية الصارمة أشكالا من انشقاق الجماعات الأهلية.
لذا طرح أوزال وقتها تغيير نظام الحكم المركزي إلى الفيدرالي المتنوّع، حيث رأى أن تقسيم تركيا إلى سبع ولايات فيدرالية، (منها اثنتان بأغلبية كردية مطلقة، أرضروم وديار بكر)، ومنح تلك الولايات صلاحيات دستورية اقتصادية وسياسية وشبه سيادية واسعة، حيث سيكون لكل منها برلمانها وحكومتها الخاصة، الشيء الذي كان سيقوي من انتماء مواطني تلك الولايات إلى حكومتهم المحلية الفيدرالية.
كان الاستشراف الأوزالي يبتعد بالدرجة الأولى عن مفهوم الحلول الناجزة، ويمنح القدرة على التطور الطبيعي للحكومات المحلية في كل أنحاء البلاد، وبذلك التأسيس لإمكانية الحل أساسا.
كما من طرف آخر، حيدت فرص صبغ أي حل لمجمل البلاد، فالتعليم باللغة الكردية وتحويل اللغة الكردية إلى لغة رسمية، كان يمكن أن يثبتا في دساتير الولايات الفيدرالية المحلية، أن تتحمل وزر ذلك البلاد كلها.
لكن الملمح الأبرز للخطة الأوزالية كان في الرجوع إلى المساواة الجماعاتية بين المكونات المختلفة للدولة التركية، لا الميل نحو المساواة الفردانية في المواطنة، كما تطرح الخطط الحكومية منذ عقد وحتى الآن.
فالولايات السبع المطروحة، بالرغم من عدم طرحها العلني لذلك، كانت تخص كل طيف أثني وثقافي مذهبي بولاية.
فولايتان شرقيتان للأكراد وولايتان في الوسط، واحدة شرقية لأتباع المذهب العلوي مركزها محافظة العزيز وأخرى للمذهب السني المحافظ حول العاصمة أنقرة، بالإضافة إلى ولاية شمالية خاصة بالعنصر اللازي وأخرى ساحلية متوسطية للقوميين الأتراك، وأخيرة لذوي النمط المعيشي الأوروبي في مدينة اسطنبول.
ليست المعضلة الأساس في تركيا ندرة الحلول المطروحة، لكن المعضلة هي عدم قدرة أي منها على استيعاب مطالب الجميع.
الاحد 3 كانون الثاني 2010 – العدد 3527 – نوافذ – المستقبل صفحة 13