في العمق الحركي للقضية القومية في غرب كوردستان – 1

جان كورد
 

في
الحقيقة، يبدو الولوج إلى هذا الموضوع بالنسبة لي كالاقتراب من بحرٍ  واسعٍ شواطئه البعيدة ليست في مرأى النظر، ولكنه
يجذبني بهيبته وعظمته، مما يغريني بالتقدم خطواتٍ قليلة في مائه البارد، وأملي هو
اقناع نفسي بعد عودتي من الشاطئ بأني بت أعرف شيئاً عن البحر… لذا لا يتوقعن أحد
مني المجيء له بالدرر والمرجان من أعماق هذا الموضوع الشائك المتشعب الكبير، إلا
أنني أحاول رسم صورةٍ صغيرة بلا ألوانٍ صاخبة عن بعض الأفكار التي تراكمت في عقلي
وأنا أقترب من هذا البحر الذي يأخذ بالألباب حقاً، وشغل بالي لسنواتٍ عديدة من
حياتي.

          وبدايةً أود التذكير بأن من حق أي إنسان الحديث والكتابة عن السياسة
والمجتمع والتنظيمات و الآيديولوجيات و تاريخ الحركات، وبسبب ذلك قد يتناول المرء العلاقة
بين هذه الأمور والناس المهتمين بها، فيتطرق إلى مواقف معينة لأشخاص معينين، في
سياق ممارسة حقه ذاك، إلا أن من المهم جداً السعي دائماً للبقاء ضمن إطار
“النقد الكريم” الذي لا يهدف إلى إهانة أو استغباء أو تحريفٍ وإنما
ممارسة عادلة وجادة لحق النقد الذي يحترمه الشخص العاقل، سواءً أكان النقد سلبياً
أم إيجابياً بحقه كمساهمٍ في العملية السياسية موضوع التحليل والتنظير  والنقد… وسأحاول بالتأكيد تجنب الإساءة لأي
إنسانٍ خدم قضية هذا الشعب المظلوم، ولو يوماً واحداً في حياته أو في مناسبة واحدة
تجرأ فيها على الوقوف مع شعبه ضد قوى الطغيان التي تكالبت عليه عبر العصور.

          هذا العنوان يتضمن ثلاثة عناصر: (العمق
الحركي)، (القضية القومية)، و(غرب كوردستان)، ولذا لا بد من التطرق إلى هذه
العناصر باختصار شديد، لنحيط ببعض حقائق هذا الموضوع الواسع.  

 بالنسبة للقضية القومية لشعبنا في غرب
كوردستان فإنها تبدو مفهومة ومعروفة ولا حاجة للخوض فيها، بعد كل سنوات النضال
السياس الكوردي من أجل الحقوق القومية، التي في الواقع العملي ليست سوى الحق في
الحفاظ على الوجود القومي واللغة الخاصة والثقافة القومية، وكذلك الحق في التمتع بحق
تقرير المصير بشكل حر وديموقراطي دون ضغط أو إكراه أو تدخل خارجي لتحديد إطار هذا
الحق، وحق تقرير المصير للشعوب معروف أيضاً لمعظم المهتمين بقضيتهم القومية، ولا
يجوز استثناء شعبنا من ممارسة هذا الحق، في حين أنه مطلوب لجميع الشعوب الأخرى.  وعليه، لا نود التوسّع في هذا المجال، وللراغب
في ذلك العودة إلى برامج ومناهج الأحزاب الوطنية الكوردية التي تشرح بصورٍ وأشكالٍ
مختلفة ومتفاوتة في التعمّق السياسي لفكرة حق تقرير المصير ومدى ما يمكن أن يتمتع
به شعبنا في غرب كوردستان. 
هنا، يجدر التأكيد على أن علينا استثناء
تلك الأحزاب التي لا تعتبر نفسها كوردية أو كوردستانية و لا ترى لشعبنا حقاً في
تقرير مصيره سوى ضمن المسار (اللا قومي)، وتتفادى ذكر الجانب القومي لأشكال
الطروحات التي تتبناها في هذا المجال، فلا يمكن أن نضم حزباً ما إلى حركتنا
الوطنية الكوردية / الكوردستانية و هو يرفض اعتبار نفسه جزءاً منها، فنحن نعني
بالحركة الوطنية الكوردية تلك القوى التي تعلن عن ولائها للشعب الكوردي أولاً
وتتبنى مطالبه القومية كشعبٍ يعيش على أرض وطنه وتؤمن بحقه في تقرير مصيره وتسعى
لتحديد إطار هذا الحق في برامجها ومناهجها السياسية. والاستثناء لا يعني أبداً
إنكار وجود تلك الأحزاب أو القوى على أرض الواقع لأنها موجودة فعلاً، ولكن لها شأن
آخر، ويمكن تصنيفها كقوى سورية تسعى لتسخير وتجنيد طاقات شعبنا لسياساتٍ غير
(كوردية) أو غير (قومية)، 
ولذا ننتقل إلى (غرب كوردستان)، حيث لا
بد أن يكون لشيءٍ ما، أو لبيتٍ ما، أو لمدينةٍ أو بلادٍ ما، جهات محددة (شمال،
جنوب، شرق) ولا تكون لها جهة غربية، فهذا يخالف العقل والمنطق. (شمال كوردستان)
نعني به بلاد الكورد الخاضعة لتركيا اليوم، و(جنوب كوردستان) هي التي ضمن حدو د الدولة
العراقية، و(شرق كوردستان) هي التي في إطار الدولة الإيرانية، وأرض الكورد التي
داخل الحدود السورية ليست إلا (غرب كوردستان) عقلاً وواقعاً.

          في إيران، هناك إقليم باسم (كوردستان)،
فيه مدن هامة مثل سنندج، مريوان، بانه وسقز، ولكنه لا يضم كل القسم الإيراني من
كوردستان، حيث هناك كورد منطقة همدان (عاصمة ميديا القديمة) وكورد شرق – شمال
إيران (خراسان)، إضافةً إلى ولايات لورستان، عيلام وآذربايجان الغربية، فكل هذه
المناطق الواسعة تقع خارج الإقليم المعروف ب “كوردستان”، كما أن هناك
طائرة مدنية في إيران باسم “كوردستان”.  

في تركيا، سمحت الحكومة مؤخراً ولأول
مرة بتأسيس (الحزب الديموقراطي الكوردستاني – تركيا)، وذلك بصورة قانونية، وهذه
خطوة رسمية جيدة وجريئةـ في حين أن هناك حزبان تابعان لحزب العمال الكوردستاني
مرخصان أيضاً ولكنهما لا يحملان اسم “كوردي” أو “كوردستاني”،
وتاريخياً يمكن القول بأن السلاجقة قبل قرونٍ عديدة هم من أطلقوا اسم
“كوردستان” رسمياً على الولايات الشرقية (حالياً) من تركيا، واعترف
سلاطين العثمانيين في فرماناتهم الرسمية ب”كوردستان” كبلادٍ خاضعة
لملكهم، كما أن مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال كان يعترف في البداية بوجود
الكورد وكوردستان، وبخاصة فإن معاهدة سيفر في عام 1920 قد منحت الكورد حق إقامة
كيانهم القومي المستقل في حال رغبتهم في ذلك، ثم جاء الاجحاف بحق الكورد من جديد
في معاهدة لوزان 1923، بعد أن تأكد للدول الغربية أن مصطفى كمال سيكون خير عونٍ
وسندٍ لهم في تركيا، فتم تعديل بنود اتفاقية سيفر المتعلقة بالقضية الكوردية، بل
إلغاؤها. وتملص مصطفى كمال من التزاماته تجاه الكورد الذين خدعهم بشعار (وحدة
الوطن والدين)، وبدأ بسياسة الإبادة العنصرية والقمع العنصري تجاههم بصورة وحشية
حتى اعتبره الكورد العدو رقم 1. 
في العراق، هناك إقليم كوردستان، الذي
لا يضم أيضاً كل الجزء العراقي من كوردستان، فثمة مناطق اقتطعها نظام البعث
الصدامي ووزعها على محافظات عربية في العراق، إضافة إلى الاستيلاء على مدينة
كركوك، المركز الأهم لإنتاج النفط، تلك المدينة التي قال عنها القائد البارزاني
مصطفى بأنها “قلب كوردستان”، وقال عنها الرئيس العراقي الحالي جلال
الطالباني، عافاه الله وأعاده سالماً لبلاده بأنها “قدس الأكراد”. إلا
أن الدستور العراقي يعترف بوجود الإقليم الكوردي والإدارة الفيدرالية له، حتى ولو
كانت هناك عقبات تضعها الحكومة المركزية أمام وحدة الإقليم كله وتقدمه في إدارة
ذاته ضمن العراق الموحد حسب مواد الدستور الذي أقسم على صونه والعمل بموجبه رئيس
الوزراء ووزراءه…  
المشكلة الكبرى تكمن في سوريا، إذ لا يعترف
الدستور السوري بوجود القوم الكوردي وبإقليم كوردي، على عكس الدستور العراقي، وعليه
فإن النظام الذي ارتكز على فلسفة حزب البعث العربي الاشتراكي، وهي فلسفة عنصرية
تجاه الأمة الكوردية عامةً، يسير  منذ
القضاء على النظام الديموقراطي في عام 1963 على نهج التنكر لوجود قومية كوردية
وقمع سائر طموحاتها وتحطيم حركتها السياسية وتفتيت قواها ومنع أي نشاط كوردي قومي،
مع ترك شعرة معاوية غير منقطعة مع أحزاب الكورد، دون منحها أي حرية تامة في العمل
العلني ودون السماح لها ببناء مؤسسات قومية وطنية، إضافة إلى تسخير جيش من العملاء
والمرتزقة الكورد بهدف نشرهم داخل البيت الكوردي لزعزعة استقراره وضرب وحدته وربط
تنظيماته بفروع استخبارات النظام، والاستعانة أيضاً بقوى “كوردستانية”
للضغط المستمر على الحركة الوطنية الكوردية في غرب كوردستان، ومحاولة بناء بدائل
“كوردية!” عميلة وتابعة للنظام بين الكورد.  
 إن وجود الكورد على أرض وطنهم
التاريخي، وهو ذات الوطن الحالي، يعود إلى ما قبل الهجرات العربية من الجزيرة
العربية صوب الشمال، وكذلك قبل “الفتوحات!!!” العربية الإسلامية على أثر
ظهور الإسلام، فمعلوم لسائر المؤرخين ما عدا العنصريين من أذناب البعث ومن على
شاكلته، أن عاصمة الميتانيين (من أجداد الكورد المعروفين) كانت مدينة (واشوكاني)
التي كانت تقع في شمال سوريا الحالية، وكلمة واشوكاني تعني بالكوردية الحديثة (الطاحونة
والنبع)، وإن أقدم أثر يذكرنا بالهوريين (العشائر القوية في المملكة الميتانية)
موجود في قلعة “هوري” في منطقة جبل الأكراد (365 قرية كوردية وعاصمتها
مدينة عفرين) في غرب حلب، ولا يزال اسم (هوري أو هوريك) منتشراً بين الكورد في
المنطقة حتى يومنا هذا.  ومعلوم أن الكورد
قد شكلوا إمارات عديدة في عموم سوريا أثناء العهد الأيوبي، وتولوا ممالك حلب
(تولتها امرأة كوردية “ضيفة خاتون” مدة 6 سنوات على أثر  وفاة زوجها) وحاربت الصليبيين والتتار معاً،
وحماه ودمشق، إضافة إلى ممالك أخرى في مصر وفلسطين والأردن، وحتى في اليمن، وبنوا
قلاعاً عديدة أو فتحوها عنوةً واستولوا عليها من الصليبيين، منها قلعة
“الأكراد” التي غير البعثيون اسمها إلى “قلعة الحصن” والحصن
في العربية “قلعة”… كما هو معروف بأن مدينتي حلب السورية وطرابلس
اللبنانية كانتا تدفعان الخراج للمملكة البدرخانية الكوردية التي كان مركزها في
جزيرة بوتان (الجزيرة الشمالية)… فكيف يمكن القول – كما فعل البعثيون
وأمثالهم  على الدوام – بأن الكورد في
سوريا لاجئون أجانب، نزحوا من تركيا على أثر ثوراتهم ضد العثمانيين والطورانيين
فاستقبلهم العرب بترحاب، ولكنهم لم يتمكنوا من الاندماج في المجتمع العربي الحضاري
لتخلفهم العقلي، لذلك يجب تعريبهم وتعريب أسماء قراهم وجبالهم ووديانهم التي كانت
كوردية. في حين أن الأسماء الرومانية واليونانية للمدن والقرى والأماكن الأثرية في
كل سوريا (ما عدا غرب كوردستان) لم تتعرض إلى التعريب. 
لا أحد يستطيع إعطاء جوابٍ مقنع عن سبب
وجود مناطق بأكملها ذات أغلبية سكانية زراعية مستقرة من الكورد في شمال سوريا
وغربها، كما في منطقة (جبل الأكراد) (رقم 2) بالقرب من اللاذقية. وليس في شكل
جاليات لاجئة كما هو مزعوم. وكيف يمكن أن يصبح (محمد علي بن أحمد عزت (باشا) بن
هولو (باشا) العابد أول رئيس جمهورية في سوريا (1932-1936) وأول وزير دفاع (الشهيد
يوسف العظمة)، إن كان الكورد لاجئين أجانب، ومعلوم أن بعض أعرق العائلات الكوردية
تعيش منذ قرون في مدينتي حماه ودمشق السورية، وبرز منها رجال دولة مشهورين وشخصيات
دينية وعلمية مرموقة في البلاد؟  
بعض الأحزاب والشخصيات العربية
والسورية بدأت تعترف في السنوات الأخيرة بوجود شعب كوردي “يعيش على أرض وطنه
التاريخي!!!” في شمال سوريا، ولكنها تتفادى الاعتراف بأن هذه الأرض جزء من
كوردستان (وطن الكورد) المجزأ الذي تعرضنا إلى أجزائه الأخرى، والمؤلم في هذا أن
بعض الشخصيات “الكوردستانية” كررت ولا تزال تكرر أسطوانة البعث العنصرية
بهدف تحقيق مصالح شخصية وحزبية على حساب شعبنا من خلال علاقاتها التبعية لنظام
العائلة الأسدية فيما مضى. 
وقبل أن ننتقل إلى موضوع “العمق
الحركي للقضية الكوردية”، فإننا نذكر بأن للشعب الكوردي وحده حق القول من
وجهة نظر قانونية دولية فيما إذا كان يعتبر الأرض التي يعيش عليها، أو هذا الوطن
التاريخي “غرب كوردستان” أو شمال “جزيرة العرب!!!”، فهذا

الحق في تقرير
المصير لن يتنازل عنه شعينا حتى ولو تمت إبادته كلياً… فليكن هذا معلوماً
للأصدقاء والأعداء والعملاء الخونة جميعاً، وعلى فطاحل القانون الدولي من السوريين
العرب وغير العرب الاعتراف والعمل بما تعلموه في جامعاتهم وليس بما تمليهم عليهم
نزعاتهم العنصرية المتخلفة…

…..
يتبع….   

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…