د. محمود عباس
حارة كاملة، تشكلت على أطراف موقع أمني في مدينة قامشلو، يحظر على المارة التقرب منها والسير في الشوارع المحيطة بها، سكانها غرباء عن المنطقة، أشباح لسكان المدينة، يسكنها قادة القوة الآمرة المخفية، هي مركز السلطة الشمولية التي تدير أمور المنطقة الكردية، إنه القصر الجمهوري المصغر، لا حديث يمكن أن يجري ومؤتمر يعقد، واجتماع يدار، إلا ولهم فيها رأي وقرار. المليشيات المتواجدة في المنطقة ربهم قادة المربع، ورؤسائها دمى تابعة لأولئك المتواجدين في المربع الأمني عند نهاية شارع شكري القوتلي من جهة الشمال، بعد ساحة السبع بحرات، والقابع خلف السرايا القديمة حيث عرش إله المنطقة، محمد منصورة.
اتفاقية دهوك، كان لهم فيها رأي، والاجتماعات التي انتقلت مركزها إلى قامشلو كانت تحت أعينهم، وتأخرها على بنية الخلافات كان لهم فيها دور، يمهدون لتطبيق الخلافات القادمة عند مرحلة تكوين الإدارة المدنية، وهم يقررون ماذا يجب أن يحدث وكيف يجب أن تكون. اتفاقية عكست في كل جوانبها خلفيات وحيثيات مؤتمر حنيف 2، مع بعض الاختلافات البسيطة، وما دونت من البنود كاتفاقية بين الأحزاب الكردية، كان تمهيدا لقادمهم المتلاطم، ستنفذ بعضها على مراحل، وبعضها ستضيع مع عاملي التناقضات والزمن. لبلوغ هذا المأرب، اجبروا، تحت تحريض إعلامي مسبق، والضغوطات المغلفة باللاوطنية، على نقل الجلسات إلى داخل قامشلو بجانب المربع الأمني، حيث الخلافات كانت قد حضرت لهم مسبقا، ودعمت بالاتهامات والتهجمات التي تتراشق بين الحركتين الثقافية والسياسية. فمعظم ما يجري ضمن الحركتين، لتلك الحارة يد فيها، ويندرج ضمن التكتيك المخطط من قبلهم وحسب الاستراتيجية التي تزيد من هيمنة السلطة الشمولية وبقاء بشار الأسد والطغيان العلوي.
رغم أن الاتفاقية طبلت لها بأنها ستضع الوليد المأمول، وهللت لها العامة، وتجاوزوا الخلافات، تحت ضغوط خارجية اقوى من إرادة الأحزاب الكردية، لكن البنية الهشة أو بالأحرى المليئة بالحفر والمطبات، والتبعيات الاستراتيجية، والمكررة من قبل البعض، السابقة للاتفاقية، لا تزال بادية وتسيطر على كلية الحوارات، ومحاولات تطبيق بنود الاتفاقية الهشة، رغم ما ظهر من هيئة والمسمى بالمرجعية.
ولا يستبعد، بناء عليه، أن تظهر خلافات اشد بين الأطراف المتفقة. فما يبان في الإعلام والتسريبات القادمة من وراء الستارة حيث التلاعب والتهجمات بشكل غير مباشر ومن جهات اعتبرت محايدة حتى البارحة، تبين عن قادم مظلم في ظل سلطة شمولية، فالنيات الوطنية تندثر تحت تأثير الأجندات الخارجية، وتتلكأ بسبب أوامر وإملاءات المربع الأمني، المطبقة لأوامر السلطة الشمولية حيث استراتيجية الهلال الشيعي، القوة الكلية والشبه مطلقة في غرب كردستان قبل غيرها من القوى المؤثرة أو التي تفرض شروطها وأجنداتها على الأحزاب.
طغيان سلطة المربع يشمل معظم الأطراف المتواجدة في غرب كردستان أو الذين لا يزالون لهم فيها دور وحركة وعلاقة، وعلى أغلبية الحركتين الثقافية والسياسية، بشكل مباشر أو عن طريق قوى وأحزاب كردية، ويفرضان عليهما مفاهيم توسيع الهوة، تحت حجة البحث عن البديل أو الأفضل لمستقبل الشعب الكردي، وعليه بين حين وآخر تتصاعد أو تخمد اتهامات التخوين، حسب ضرورات الفترة والمسيرة السياسية.
في الفترة القريبة الماضية، عادت إلى الساحة الإعلامية التشهير بالشخصيات الحزبية من الجهتين، وغاية المربع الأمني منها توسيع هوة الخلافات، ومهد الحظر على البعض قبل الشراكة في الإدارة، واستخدم الفيتو الحزبي، وهي من ضمن موجة الخلافات القادمة، معها تصاعدت بيع الوطنيات، وتستخدم فيها قيم وطنية وقومية تنتسب إلى جهة دون الأخرى، وكأنها صكوك وشهادات حسن سلوك تطبع في مطابع مميزة وتباع حسب الطلب أو رغبة السلطة. إجمالا السيطرة واضحة، والإملاءات بارزة، والقيود المحاطة أضيق من أن تتمكن الأحزاب الكردية بسياسييها ومثقفيها الملتزمين الخلاص منه، بالطرق الجارية في التعامل بين بعضهم، وطريقة تواجدهم في المنطقة، خاصة وأنه هناك التكتيكات الحزبية الجاهزة والمنتمية لاستراتيجيات دول إقليمية على خلفية إيديولوجيات في بعدها الواسع والمتناقضة في الواقع مع الارتباطات الاستراتيجية الجارية، والتي لا قدرة لهم الخروج منها.
ترتمي، قسم من الحركة الثقافية بذريعة البعدين القومي والوطني، في أحضان السلطة متقمصة الانتماءات الحزبية الراضخة للإملاءات الخارجية، وتنسى دورها الريادي، ونبوتها، فتلحق بالصراعات التي تخلقها وبخبث السلطة المتواجدة في حارة المربع الأمني، تسيرها وتنفخ فيها، وتتلقى مفاهيمها من أقرب الأبواب، متهمة ومخونة المثقفين والكتاب الوطنيين الساعين إلى ردم الهوة، بين اطراف الحركة السياسية، وتتناسى أن تقوم بدورها في تنوير الدروب المؤدية إلى التحرر من الإملاءات والأجندات غير الكردية، أو العمل على إعادة الثقة بالذات، وخلق الأجواء لإظهار القرار الكردي المستقل، لكن وللأسف، يخلطون الحركتين الثقافية والسياسية الكردية، بحجة مفاهيم الانتماء إلى تيار فكري سياسي وتكتيك دون آخر، كبعد وطني وقومي، وهو في أغلبه انتماء إلى الأقوى، أو إلى سلطة الأمر الواقع، دون مراعاة التوازن بين أطراف الحركة الكردية الغارقة في الصراعات الإقليمية الجارية، إلى أن أصبح حيادية المثقف خيانة أو ما شابهها، كالخلافات التي أثارتها السلطة الشمولية في الفترة السابقة بين الخارج والداخل، وأثارت الأبعاد الوطنية والانتماءات القومية حسب الواقع المكاني، فالكتاب والمثقفون في الحالتين اتهموا ويتهمون بالسلبية والمزايدات الوطنية إزاء الصراعات الجارية، ويدفع المربع الأمني بالأحزاب المسلوبة الإرادة ورؤسائها على أن يدمجوا مواقف الكتاب والمثقفين عن سابق تخطيط مع الصراع بين الإرهاب ومعارضة السلطة والخلافات الحزبية، بين الفاسد والأفسد، فلا يتركون طريق آخر للحراك الكردي الثقافي الوطني إلا الجهتين، إما التبعية لأحد الأطراف الحزبية التابعة بدورها للسلطة الشمولية أو لجهات أخرى، أو مواجهة التهم المتنوعة، فأية تعرية أو نقد لتشوهاتهم السياسية وعلاقاتهم المريبة إما خيانة أو مماثلة لها.
لم يعد القارئ يفرق بينهم، فالكل يمجد استراتيجيته، ويطبل لصواب علاقاته، وتكتيكه النضالي، وعلى إنه قوة قائمة بذاته ضمن محيط مليء بالحيتان، يطمسون بها خصوصيات المنطقة. فهناك من يعتم على المربع الأمني في قامشلو ودوره الكلي الشمولي في المنطقة، وهيمنته، وهناك من يسير بأمر الرب ولا يؤمن به، وهذا الرب لا يريد الإيمان بل العمل بما يمليه، ومن الغريب تمكنت السلطة السورية من خلق ثقافة آنية بين المجتمع، ظهر على أثرها أنصاف ألهه في هذا المستنقع الموبوء، والعديد من المثقفين الملتزمين بتكيات الأحزاب الراضخة أنبياء لا يجادلون في سياسة أحزابهم، ومعظمهم أصبحوا يقودون أو يطالبون أن يتبعوا، والأفكار تطرح على علاتها.
الخطط تدرج على الساحة، وفي المؤتمرات والاجتماعات المتتالية بأوامر من قادة المربع، لتسخير الحركة الثقافية وجرها إلى الواقع السياسي المعاش حسب الطلب، والغاية منها: ليصبح التمييز متعذر بين الصائب والمخطئ، ولخلق الفراغ الفكري والوطني ونشر سيادة التحزب المقيت، ولإضاعة الحلول، والتعتيم على التبعيات التي فضحت الأحزاب ذاتها. فأنبثق من هذا الخضم، مطلب شعبي عام لتشكيل هيئة وطنية لكل الكرد بدون تمييز حزبي، تمثل الأجندات الكردية والكردستانية، وليتحرر الشعب من الطغيانين: طغيان مذلة الاستجداء من الأخرين حول المطالب الكردية. والثانية: أن تحصل الحركة الكردية في غرب كردستان على قرارتها من ذاتها وألا تكون تابعة، أي التحرر من الإملاءات الخارجية. بلا شك من شبه المستحيل إقامة المطلب الثاني في الداخل وتحت ظل المربع الأمني للسلطة الشمولية المتواجدة في الحارة، وحيث تفاقم ظاهرة الاعتقالات والاغتيالات التي تتزايد يوما بعد يوم، ومعاناة الشعب، ومآسيه، والتي عليه نرجو ونأمل من جميع الإخوة المثقفين والسياسيين الكرد في الداخل الحذر التام، والتحلي بالدراية للخطر المحاط، والسير على خط المواجهة بحنكة، فالقلم الحي والحر والكلمة الصادقة مع الذات الموجودة في الفضاء الرحب، خاصة وهو في جغرافية غرب كردستان، بين الشعب، أقوى وأبلغ تأثيرا من بقائهما ضمن جدران معتمة أو في ضياع، والعمل بحذر على ردم الهوة بين القوى الكردية، لا توسيعها، وتحرير المكون الجديد فكراً وإرادة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية