ما قبل الجاهلية

إبراهيم اليوسف

يسأل المتابع للشأن الثقافي -على نحو خاص- والشأن العام- على نحو أشمل، وإن كان في النهاية لا فرق بين الشأنين البتة: ترى إلى أي نمط من الأحياء ينتمي هؤلاء الذين خرجوا من جحورهم -على حين غرة- وهم يتجرؤون على تحطيم مرقد المؤرخ الإسلامي الكبير عزالدين بن الأثير”555-630 ه، ونبشه، وهو الذي رافق البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي في أعظم مهمة جهادية للكاتب، ودون فتوحاته وحروبه، عبر سفره العظيم “الكامل في التاريخ” وهو يقع في اثني عشر مجلداً، ويعد المرجع الأكبر عن مرحلة كاملة، ناهيك عن كتبه من أمثال: اللباب في تهذيب الأنساب وأسد الغابة في معرفة الصحابة،
ولم يبق أمر هؤلاء ضمن هذه الحدود -وحدها- وإنما تجاوزوها لاستهداف تمثال الشاعر العربي الكبير أبي تمام الطائي”803-845 م، أحد أعظم من كتبوا الشعر العربي، وهو القائل:

السيف أصدق إنباء من الكتب      في حده الحد بين الجد واللعب

وكان قد ترك مسقط رأسه في درعا، بعد أن أسندت إليه مهمة ولاية البريد في الموصل، فداهمه الموت هناك بعد سنتين من إقامته هناك، وكان هذا التمثال أحد أشكال تكريمه في هذا المكان. كما أن هؤلاء الأفاكين، الظلاميين، جوابي الآفاق، حطموا تمثال أحد أهم العلماء والشعراء والملحنين وهو الشيخ عثمان الموصللي “1845-1923″ صاحب أغنية: خدك المياس يا عمري- وطلعت يا محلى نورها” وغيرهما من الأغاني التي لحنها وغنى له بعضها من أمثال الفنان الكبير ناظم الغزالي، ويتم الحديث عن أن بعض ألحانه نسب إلى سيد درويش، خطأ، وهو موضوع آخر.
 
ولعل وضع عنوان من لدني -هنا- لهذا الحدث الكبير الذي تم عقب احتلال داعش محافظة الموصل، جعلني أتردد، وأحتار في الاختيار، لاسيما أن كل التعابير الشديدة، تظل دون فعل هؤلاء، فهم “نباشو القبور” الذين انتبه إلى أمثالهم شكسبير وهو يضع وصيته قبيل وفاته، قائلاً: لتحل اللعنة على من يلعب بعظامي”، وقد تجاوز هؤلاء اللعب بالعظام، إلى حرقها بوسائل التدمير التي يحصلون عليها، بسلاسة، وسط صمت أممي، لاسيما أنهم دمروا عدداً من المراقد في الأماكن التي مروا بها كما هو الحال مع مراقد الخزنويين، والشيخ نامس، والشيخ أمين، من العلماء المعتبرين بين أهلهم، ومجتمعاتهم، وذلك لأنهم كرسوا حيواتهم من أجل سواهم.

وحقيقة، فإن المرحلة الجاهلية التي استنبط منها عنوان هذا العمود، السريع، كانت تحتفي بالشعر والأدب، وكانت الفضاء الذي أبدع الكثير من الإبداعات، وكان للمنتمي إليها -تأريخياً- منظومة أخلاقه الفطرية، رغم ما يمكن أن يسجل عليه، إذ له قيمه، وخصاله، ومكارمه، وبسالته، بعيداً عما بعد وحشية هؤلاء الأنفار الذين سرعان ما يعيثون فساداً في الأرض التي يصلونها، كبيادق، مأمورة، ترتكب  في كل يوم الجرائم التي يندى لها الجبين، إلى جانب سلسلة مجازرهم المفتوحة ضد الأبرياء، ناهيك عن هدمهم للمعابد- كما فعلوا في مدينة الرشيد أو نينوى، وهم يكتسحون كل ما ينبض بالحياة، بغباء ونهم جراديين، وقد تكون إعلاناتهم المشينة عن سبي الحرائر، تحت يافطات مزورة، بما يدفع للذهول من أمور هؤلاء الذين يحملون كل هذا الدرن، والمرض، والغل، والظلامية، مادام أن جز الرؤوس، بطريقة تتحدى كل نواميس الأرض والسماء من أول مفردات أبجديتهم التي لابد وأن تندحر، لأنها لا تتماشى وسنن الحياة والأخلاق، وهو ما يدعو لقرع الأجراس للعمل من أجل إعلان النفير لوضع حد لغلوائهم، وهي مهمة كونية، لأن هؤلاء الخارجين من الجحور هم الأخطر على العالم أجمع، وهم من لن يخلفوا إلا أبشع أنواع ثقافة الدمار والقتل، لأنهم من نتاج أحط وأخطر ضروب الثقافة التي عرفها التاريخ، وأشدها فتكاً وعدوانية و وجاهلية….!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…

بوتان زيباري   في قلب المتغيرات العنيفة التي تعصف بجسد المنطقة، تبرز إيران ككيان يتأرجح بين ذروة النفوذ وحافة الانهيار. فبعد هجمات السابع من أكتوبر، التي مثلت زلزالًا سياسيًا أعاد تشكيل خريطة التحالفات والصراعات، وجدت طهران نفسها في موقف المفترس الذي تحول إلى فريسة. لقد كانت إيران، منذ اندلاع الربيع العربي في 2011، تُحكم قبضتها على خيوط اللعبة الإقليمية،…