ابراهيم محمود
ثمة مثل يخص طباع الإسباني، فحواه أنه إذا أراد دق المسمار في الحائط، وسقط المسمار، فإنه يضرب المطرقة على رأسه. تذكرته وأنا أستشرف تاريخ تركيا الدولة، باعتبارها الوليد الذي لم يبلغ سن الرشد مدنياً من رحم الامبراطورية العثمانية هذه التي غزت الجهات الأربع من حولها، وأن تركيا واستناداً إلى هذه التركة الغزيوية اعتادت التلويح بالغزو أو الغزو أو التهديد للجوار تعبيراً عن غزو ما، كما لو أنها تترجم سلوكها الدولتي السياسي والاجتماعي والأخلاقي، وتشير إلى ما تقدم: لو توقف الغزو لانتهت تركيا.
ولعل أسوأ العلاقات التي تعرّف لنا بسلوكها هذا، كانت مع الكرد هؤلاء الذين تركوا بصمتهم على تاريخ العثمانيين على الأقل منذ صراعهم مع الصفويين قبل خمسمائة قرن، وبعد الحرب العالمية الأولى في الدخول إلى العصر الحديث، ومن ثم التنكيل بهم من قبل رموز سياسة هذه الدولة ” القديمة- الحديثة “.
والغزو المشار إليه يبرز من خلال سلسلة لا متناهية من عمليات الإغارة على حدود سواها ” والكرد عقدتها كما يظهر “، كما لو أن توقفها عن أن الأعداء المهدّدين لها على الحدود، ويتحينون الفرصة للقضاء عليها، وفي الداخل كذلك، كما يقولها تاريخها العقائدي، يشير إلى أن أي تراخ، ولو من قبيل ” استراحة المحارب ” يعرضها للخطر، والشاهد الأبلغ هو أن تشديد على الكرد ضمن جغرافيتهم وحيث كانوا، استكمال لسلسلة عمليات الغزو، إذ إن السعي المستمر في تفعيل العنف ضد الكرد سجناً وترحيلاً ونفياً وقتلاً، صور غزيوية.
وما يجري راهناً، يعرّي الوجه الفعلي لتركيا كنظام وكمؤسسة سياسية وأمنية وحتى ثقافية رسمية، والمفارقة، في إطار المسعى إلى القضاء على غضبة الكرد الثائرين في عموم ” مدنها “، تتمثل في تصعيد لغة التهديد والوعيد من قبل ساستها على طريقة ” حليمة عادت إلى عادتها القديمة ” رغم أن الأدق هو ” حليمة اللئيمة لا تترك طباعها القديمة “، وفي أردوغان الخبر” المشين “، وهو يلوّح باستخدام القوة الفارطة وغيرها، إعلاماً لمن يهمه الأمر على أن تركيا اليوم هي تركيا الأمس، وأنها أيضاً على طريقة ” إذا رأيت نيوب الليث بارزة- فلا تظنن أن الليث يبتسم “، وشتان بين ليث فعلي وليث من ” ورق ” في نهاية المطاف، حيث يتم تناسي أعباء الماضي وتركته الثقيلة في الضحايا والكلف والنتائج الوخيمة، وحين يلوح أردوغان بأنه سيتخلى عن الدخول في محادثات السلام، تعبيراً عن انسداد الأفق التاريخي من جهة، ولأن القائم يسمّيه في التعدي من جهة ثانية، وأكثر من ذلك عند التساوي بين داعش وpkk، وهذا ليس من مصلحته ومصلحة رجالات السياسة والأمن في تركيا”ه ” بالمفهوم المصلحي أو الأمني، إذ كيف يمكن التحادث السلمي مع من يوصمون بالإرهاب منطقياً؟
نعم ” الحركة بركة “، ولكن العبارة غير دقيقة إلا في سياق ما هو خير يعم الجميع، عدا عن أن الحركة تتوقف على النية في الصميم، إن راعينا المفهوم الفلسفي الأخلاقي، وحركة تركيا على الصعيد السياسي الأمني لا صلة لها البتة بعملية السلام، إن نظرنا سريعاً فيما يجري في محيط تركيا المضطرب وفي الجوار، وفي صعوبة أو استحالة ركونها إلى الاستقرار والتحرر من صورتها وهي على هيئة عسكري مدجج بالسلاح ومسعور من الداخل، ويرى العالم المتحرك في صورة كردي، قابض روحه، كما هو المتوخى في مجمل الأدبيات التأريخية التركية السياسية والاجتماعية والتربوية، وأن ” داعش ” الدم الفاسد المنبثق من عروقها معطوف على مآلها الأخلاقي المدمّر لها.
إن النزوع السرطاني في التعامل مع تاريخها ونفسها والآخرين، يدفع بنا إلى نهاية لا تفرح أياً كان، وتركيا ومن يمثلها في الواجهة، وخصوصاً راهناً، وصحيح أن ثمة أموراً تدخل في عِداد الثوابت، لا يجب المساومة عليها، ولكن التاريخ حتى في أمسه القريب وفي ضوء التغيرات المتسارعة هنا وهناك، حيث تنهار دول ومجتمعات ” الاتحاد السوفيتي- يوغسلافيا..”، وتتشكل رؤى جديدة، وليس هناك ما يسمى بالثوابت، رغم أن أداة ” إلا ” بصدد الكرد وجغرافيتهم وحقوقهم التاريخية، قد تطمئن المستبدين بهم حتى اللحظة، على أن من بين الثوابت لدينا هذا الجانب ” الكردي “، سوى أن المؤشرات في الجهات الأربع، والتي قد تستغرق زمناً، نظراً للتاريخ الطويل والمثقَل بالموبقات، لحدوث فعل التغيير، مؤشرات تضغط على أكثر الدول ” الكبرى ” لاكتشاف خرافة هذه ” الثوابت “، من أجلها، ومن أجل السلام في العالم، وما هو مرئي على شاشات التلفزة عالمياً، كما هو مرئي من خلال ممثلي ولاكات الأنباء العالمية على الحدود الفاصلة بين كوباني الصامدة والجهة المقابلة في ” كردستان الشمالية “، يشدد أنه إذا كانت كردستان في حكم الملغي أو المجهول حتى الأمس ، فإنها عبر وكالات الأنباء العالمية أو على مستوى عالمي تسمى باسمها، وهو التحدي الأكبرى لكل الطغاة من متقاسمي كردستان هذه، وأظن أن تركيا في مواجهة نفسها وهي في وضعية العالق بعنق الزجاجة، فالغزو أيضاً له صلاحيته الزمنية. الغزو لغو أيضاً !